عدنان الدراجي
الحوار المتمدن-العدد: 2734 - 2009 / 8 / 10 - 03:12
المحور:
الادب والفن
تحسست بطنها المنتفخ بيد مرتعشة وتلمست الأخاديد الوردية الهابطة باتجاه ملتقى بطنها بفخذيها, تدفقت من فمها الجميل تأوهات متكررة فقد أضناها حملها هذا, وفاقم شقاءها تشبث الجنين بأحشائها رغم تجاوزه حدود الزمن المعتاد لإقامة الأجنة في الأرحام, كانت تمضي وقتا طويلا مستلقية على ظهرها تخاطب الخواء المحيط بها بعد أن أعاق الحمل حركتها.
اكتسى وجهها المتورد بهالة حزن عميقة أطفأت اشراقتها المعهودة والتي فشلت في استعادتها مرارا لهذا اخفت البومات الصور بعيدا عن متناول أبنائها, تدرجات اللون الرمادي ستثير بالتأكيد أسئلتهم السمجة, لم تجد في نفسها الرغبة أبدا في خوض ذكريات قلبت استقرار حياتها إلى شقاء.
بدأت ركلات الجنين تلاحق كفها حيثما وضعته, اعتادت على مزاحه الثقيل منذ بلوغه شهره السابع لكن ركلاته أصبحت أكثر إيلاما, طالما تصورت أن سوء التغذية الذي تعاني منه سيجعله أكثر هدوءا لكن شيئا من هذا لم يحصل, بل انه يزداد شراسة كلما جاعت أكثر.
أسندت جذعها على الوسادة المطوية وحاولت مغادرة السرير إلا أن خوار قواها أحبط محاولتها الأولى, لم تستأ فهي معتادة على التجارب الفاشلة, استنفرت عزيمتها وعضت على شفتها السفلى متهيئة لمحاولة أخرى لكنها أمسكت حين تذكرت (الدوالي) المنتشرة في ساقيها وتمتمت هامسة: متى تنفجر آلام الطلق وأتحرر من نكد حملي الثقيل.
خطوط التجعدات المتسللة تحت رمشيها الأسفلين لم يضيفا إلى عمرها شيئا فجمالها المشرق في منأى من مخالب الزمن إلا أن ما يميزها حقا وبشهادة جاراتها الممتلئات حسدا وغلا هو حنانها الفياض الذي اسر اشد أبنائها عقوقا.
في أحاديثها قلما تنطق كلمة (اكره) إذ استعاضت عنها بكلمة (لا أحب) رغم سلاطة لسانها المشهودة التي هزمت اشد الأزواج قسوة وخبثا وهمجية, لقد كان تفننها برشق أعدائها باشتقاقات مبتكرة من الألفاظ البغيضة مضربا للأمثال.
ثقلت جفونها وكادت أن تستسلم للنوم حين فاجأها الجنين بركلة اهتز لها جدار بطنها ففتحت عينيها وأمسكت بحافتي السرير ثم سحبت جسدها وأسندت ظهرها إلى مقدم السرير وجلست محيطة بطنها بكلتا ذراعيها.
نظرت إلى المخلوق الكامن في رحمها وغمغمت قائلة: كفى مزاحا وادخر قواك للاتي, سينتظرك وسُينتظر منك الكثير, ليتك تصدقني أن الآتي مضمخ بخلاصة الماضي, ارتجت بطنها تحت وطأة حركات جنينها المفاجأة وكأنه يسخر منها, فأشتط غضبها ونسيت أنها تحاور جنينا ليس إلا فصرخت قائلة: كم كنت بلهاء حين أمنت أن المستقبل سيضمن لي انعتاقا من شظف حياتي, ثم أشارت بسبابتها نحو بطنها قائلة: ولا أراك إلا معتوها أخر سيضاف إلى جموع المغفلين الذين يحيطون بي.
تنفست بعمق وكشفت عن بطنها وتحسسته بحنان مداعبة جنينها ثم قالت: لا تبتئس سأحدثك عن طيف مضى و سراب مخادع لعلك تهدأ وتدعني أنام قليلا.
لن ادعي أني كنت من علية الناس لكن عائلتي كانت تعيش حياة مستقرة هانئة في منزل لطيف يطل على ضفاف دجلة, متمتعة بهامش من الحرية تحسدني عليها صويحباتي, إلا أني كنت أتوق لحياة أفضل, كنت أقول لنفسي وهل في ذلك ضير فمن لا يتمنى حياة أفضل لكني لم افعل حينها غير انتظار الفارس الذي سيأخذني على صهوة جواده الأبيض!! مضى زمن وتبددت الفرص من بين يدي, فتخليت بعد اليأس عن الحصان الأبيض وتطلعت فقط للفارس المنتظر الذي سينقذني من رتابة حياتي, وحين طلب يدي دعيّ فروسيةٍ لم تسعني الفرحة, تم الأمر بلمح البصر وأمسيت زوجته, ومنذ الليلة الأولى لم أذق غير هوان الاغتصاب.
اكتشفت انه شبق شديد الغلمة, يشفط اللذة من أجساد النساء كطفيلي أسطوري لا يعطي شيئا لشريكة فراشه لهذا كدت افقد وعيي من فرط النشوة حين بلغت ذروتها في أول تجربة زنى, بالإضافة إلى ذلك كان نهما لا يتلذذ بغير ما يلتقطه من أفواه الجياع, وكان قويا متجهما كثور هائج, عنيفا قاسيا مجرما بطبعه.
كنت في أيامي الأولى معه يرعبني شبحه وترتجف فرائصي من سطوته لكن سرعان ما وجدته غبيا يسهل خداعه فأظهرت له ودا كاذبا وداعبته ورقصت له مما اشبع غروره, فتيسر لي سرقته حيثما احتاج إلى شيء وتجرأت على جلده بلساني بين الحين والآخر, تكيفت مع جحيمه وكان عذري أنني لا أقوى على قسوته المفرطة.
قبل سنين قليلة أصيب بجراح قاتلة خلال محاولته سرقة احد الجيران, زغردت وفرحت وتهيأت للحظة الخلاص لكنه لعق جراحه وتشبث بحياته البائسة ولم يفقد غير مكانته وبقايا شرفه.
نقم جيراننا وأقرباؤه وصبوا جام غضبهم علينا ووصمونا بكل قبيح وهم يعلمون يقينا مقدار ما أحاق بنا من أذاه, أصموا أذانهم ورفضوا دفوع براءتي فرزئت بجحيم آخر وكأن مصائبي لا تكفي, إذ ضُيق علينا وتبددت ثروتنا المتواضعة حتى أصبحت أجد مشقة بالغة في إطعام صغاري الذين امتنعوا عن الذهاب إلى مدارسهم بسبب مضايقات أولاد الجيران, وكان علي تدبير أمور أسرتي المنكوبة من غير الاعتماد على قريب أو جار.
رفعت يدها اليمنى عن بطنها ومسحت دموعها ثم عادت تتكلم كأنها تدلي باعتراف أثقل كاهلها: تدهورت أحواله سريعا وغدا وَغداً متوحشا قذرا أكثر من ذي قبل, كان يتسلل عصرا إلى حيث لا اعلم ليعود قبيل الفجر تفوح منه رائحة الخمر والقيء, لم نفتقده حين بدأ يغيب عن المنزل لأيام أو أسابيع, قبل سنتين سمعت من زوجة ياسين الشرطي أن دورية شرطة النجدة عثرت عليه غارقا بدمائه بعد منتصف ليلة قارسة البرودة ليس بعيدا عن دار عجوز سيئة السمعة, لم يحدثني حين عاد إلى المنزل بعد عشرة أيام ولم اسأله عن شيء.
كفكفت دموعها التي بلغت حافة فمها وعادت تتحدث بحرقة: اعتدت على استفزازات جاراتي اللواتي يتعمدنَّ سرد مغامراته بحضوري, أصبح اللعين الأكثر شهرة في المدينة, انتشرت أخبار خيالية عن شدة بطشه ولياليه الحمراء التي يمضيها في أحضان عشيقاته وأمواله الطائلة المخبأة التي لم ينضبها إسرافه المزعوم وعن أبيه قاطع الطريق الذي أورثه قسوة القلب والنزعة الإجرامية.
كان يؤلمني كثيرا تعاطف العديد من المغفلين معه, ومما زاد الطين بلة انتشاؤه وتصديقه لهذه الأكاذيب المضحكة فعاد تبختره وخيلاؤه الفارغ إلى عهده السابق وتوردت وجنتاه.
كنت اعلم أن اغلب ما يقال عنه محض أكاذيب فقد عرفته عن قرب رعديدا لا يبطش بغير الضعفاء, ابن سفاح لم يرث غير البخل عن نباش القبور الذي ادعى أبوته, محتالا يجيد التطفل على موائد الأغبياء.
جأرت كلبوة جريحة وعاد سيل الكلام الجارف يتدفق من فمها: في الوقت الذي شرعت بوجهه بعض الأبواب مرة أخرى وعادت بعض عافيته إليه أوصدت السبل بوجهي تماما وامتنع الجميع عن التواصل معي وكأني جيفة أزكمت أنوفهم فتفاقمت رغبتي بالانتقام منه لكن قبضته لا تزال مرعبة, فقررت طعن كرامته في الصميم بالاستجابة لمغازلات عتاة المجرمين من أصدقائه الذين انقلبوا عليه.
أعمتني رغبتي بالاقتصاص منه وكرهي له فأسلمتهم نفسي بثمن بخس وكنت أنت يا جنيني المسكين ثمرة انتقامي الكسيح, ثم أجهشت تولول قائلة: لم يغتصبني ويعذبني هذا الزوج المجرم فقط بل مسخني وسحق كرامتي, انتقامي البشع منه أحالني إلى زانية, سارقة, مرائية, آه لسقوطي الذريع وضياعي, آه لروحي المتهرئة.
قفزت من السرير بجنون وما كادت تطأ أقدامها الأرض حتى سقطت على وجهها فانطلقت منها صرخة مرعبة وأغمي عليها.
استعادت بعض وعيها ولما تزل محمولة من ردهة الطوارئ إلى صالة الولادة وكان أول ما وقع عليه بصرها جثة زوجها المسجاة بإهمال في نهاية الممر المؤدي إلى ثلاجة حفظ الموتى.
د.عدنان الدراجي
[email protected]
#عدنان_الدراجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟