|
اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة التاسعة)
سعدون محسن ضمد
الحوار المتمدن-العدد: 2734 - 2009 / 8 / 10 - 07:51
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الخطيئة شرط الفناء
عندما يحقق الصوفي توحيد الصفات ويشهد على أن ليس في الوجود موصوف غير الواحد، سيكون واقفاً على عتبة توحيد الذات، أي عتبة الفناء التام، وسيكون شرط تجاوز هذه العتبة هو فناء ذات الصوفي بذات الله، ومعنى فناء ذاته هو انهدام أناه وانمحاء استقلاله (وتسامي) هويته.. لكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟ كيف يمكن التحقق بالإلوهية والخروج من البشرية والتخلص من كل الشكوك التي تعوق ذلك: (أأنت أم أنا هذا في رداءين.. حاشاك حاشاك من اثبات اثنين بيني وبينك إنيي ينازعني.. فارفع بلطفك إنيي من البين).. والبينية التي يتحدث عنها الحلاج هنا هي بينية الذات، ذاته الحائرة والمترددة بين حدين، حدها الإنساني وحدها الإلهي، أو كما يعبر المتصوفة، حد الناسوت وحد اللاهوت.. والشكوك التي تطرحها الأحوال التي يعاني خلالها الصوفي مصاعب الانتقال من ناسوته إلى لاهوته تأتي من أسباب كثيرة، منها ما يتعلق بالموروثات الدينية كتحريم القول بالحلول او الاتحاد. وهو ما يوقف الصوفي مرددا بين تصديق مايجزم به من مشاعر واحاسيس ومعارف تدفعه اتجاه الايمان بوحدة الوجود، وبين الخوف من أن تكون هذه المشاعر أو الاحاسيس نوعاً من أنواع السقوط في محذورات دينية ناشئة من أوهام إدراكية. وهنا يجدر بي تثبيت حقيقة مهمة هي أن العلاقة بين سرعة العروج بمدارج التصوف وبين كون عقلية الصوفي منطقية هي علاقة عكسية. فالتفكير المنطقي هو سبب آخر من الأسباب التي تنشأ عنها شكوك الصوفي بصدق فناءه. فكلما كانت تركيبة منظومة الوعي خاصة الصوفي منطقية أكثر كانت سرعته في العروج أقل؛ فأكثر أحوال ومقامات التصوف لا منطقية؛ كما هو الأمر مع مقام التوكل الذي يُجَمِّد فيه الصوفي خياراته ويتخلى شيئاً فشيئا عن إرادته، أو أحوال التوحيد وهو يؤمن أن أفعاله أو صفاته أو ذاته هي أفعال وصفات وذات الله. فهذا الإيمان هو الآخر لامنطقي، فكيف يصدق إنسان ما، أن فعله للأشياء وممارسته لها إنما هو نوع من أنواع الوهم وأن الحقيقة تقول بأن فاعل الأشياء الحقيقي وممارسها الأوحد هو الله؟ منظومة الوعي المنطقية تطرح تساؤلات كثيرة حول معقولية القول بوحدة الوجود. الأمر الذي يجعلها مصدراً من مصادر التشكيك بجدية الأحوال والمقامات التي يمر بها الصوفي. ومن هنا نجد أن أغلب رياضات الصوفية، بالذات منها التي تتعلق بما بعد مقامات التوكل، تركز على تمييع الجهد المنطقي في منظومة الوعي الصاعدة في رحلة العروج نحو الفناء. ولأن كثرة اعتماد المنطق في منظومات الوعي أمر نسبي، تكون المنظومة التي تلجأ للمنطق بمستوى أقل هي الأقدر على تحقيق أحوال ومقاقات التصوف بصورة أسرع.. والأمر هنا أشبه بلحظات الإبداع التي تشترط اللامنطق، فمثلاً التفكير الذي يشكل رحماً لولادة الشعر أو الفن التشكيلي هو تفكير لا يحكمه المنطق بصورة تامة، بينما التفكير الذي يشكل رحماً لولادة البحث العلمي تفكير يتحكم به ويسوده المنطق. لقد عبرت أبيات الحلاج السابقة بشكل مباشر عن الشكوك المنطقية التي تعيق تصديقه بفناءه، خاصة وهو يقول: (أأنت أم أنا هذا في ردائين؟؟)، فهنا الشك مخيف، لأنه شك (بالأنا.. بالهوية)، أنا أم أنت؟ وهو شك منطقي، فكيف أكون أنا ومع ذلك أكون أنت؟ وعندما يصل الشك حدود الضمير (أنا) فمن المؤكد أنه سيكون شكاً مرعباً، لأنه يكشف عن أن الشاك يسعى جاهداً للتخلي عن ذاته ونزع أناه، ولا يمكن أن تكون عملية نزع الأنا سهلة أو خفيفة.. بالاضافة للأسباب المنطقية التي تعيق تحقيق الفناء يأتي سؤال الخطيئة ليطرح نفسه من جديد وبقوة أكثر، إذ ليس هناك مبعث على تردد الصوفي من عبور ناسوتيته أكثر من ممارسته الخطيئة، ومهما كانت ممارسات الصوفي للأخطاء خلال فنائي الأفعال والصفات ممارسات نابعة عن توحيد حقيقي فإنها لا تمكنه تماماً من عدم التردد أو الشك؛ خاصَّة وأن وقوف الصوفي عند عتبة الفناء بالذات المطلقة (الله) يدفعه اتجاه استحضار حالات الكمال والتجرد عن كل ما يبعث على الارتكاس بالانشغالات (المتدنية) وأهمها انشغالات الجسد، وهي أكثر الانشغالات التي تقطع حالات التأمل التي هي الزاد الوحيد الصالح لرحلة العروج للفناء التام. كما أن الخطيئة تحضر هنا بشكل كبير لأن الصوفي يعجز وهو في حالات الفناء عن ممارسة طقوسه العبادية. فليس من المعقول أن يؤدي عبادة الصلاة (مثلاً)، أو الصيام أو أي عبادة أخرى، لأن هذه العبادات جميعها تشترط (البينية) وتجعلها حاضرة في وعي الصوفي، بينما هو يسعى جاهداً لرفع هذه البينية التي تعيق فناءه أو تتنافى وإيمانه بأن ليس في الوجود سوى الله. الصوفي يريد أن يعبر الناسوت إلى اللاهوت، لكن العبادة تبقيه ثابتاً بناسوته؛ لأن الله لا يعبد نفسه. والعقدة الصعبة في هذا الموضوع هي ترك العبادات، فهي خطأ وخطيئة وذنب ولا يخطر على ذهن الصوفي قبل وصوله للفناء أنه سيفكر يوماً بترك ـ بل بمجرد التهاون بـ ـ موضوع العبادات، خاصة وأن العبادات هي الوسيلة الأكثر فاعلية بالنسبة إليه في رحلته التي أوصلته إلى تخوم الفناء فكيف يمكن له أن يتخلى عنها؟ إن التساؤلات المنطقية والخوف من الوقوع بما يسمى بـ(شبهة الحلول والاتحاد) والخوف من ترك العبادات هي الشكوك أو الأسباب التي دفعت الحلاج إلى أن يطلب من الله رفع البينية بينه وبين ألوهيته (فارفع بلطفك إنيي من البيني). وهي كلها شكوك يمكن أن تختصر بقبول أو عدم قبول عملية ممارسة الخطأ التي قلنا سابقاً بأنها شرط تحقيق الفناء بصورة تامة.
#سعدون_محسن_ضمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
احمد عبد الحسين
-
اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة الثامنة)
-
مدافع الجنرال
-
طقوس وطوائف
-
اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة السابعة)
-
احزان علي الوردي
-
اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة السادسة)
-
عكازنا مكسور
-
اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة الخامسة)
-
موتنا الفاخر
-
اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة الرابعة)*
-
انتحار سياسي
-
اعترافات آخر متصوفة بغداد (الحلقة الثالثة)*
-
خطر الكويت
-
علامة تعجب
-
لعنة ابليس
-
أدباء ومعاول
-
اعترافات آخر متصوفة بغداد الحلقة الثانية*
-
افتى بها سعد وسعد مشتمل
-
اعترافات آخر متصوفة بغداد* (الحلقة الأولى)
المزيد.....
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|