|
العيش في الصورة وصورة الانسحاب الامريكي
عماد حسن
الحوار المتمدن-العدد: 2730 - 2009 / 8 / 6 - 09:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يدر بخلد الجنود الذين حملوا الصورة الكبيرة لرئيس وزراء العراق نوري المالكي بانهم يساهمون دون علمهم – كعادة العسكر- في استحضار ثقافة سادت طوال نصف قرن من الزمن منذ قفزتهم التاريخية على حكم العراق عام 1958 ولغاية نيسان 2003 . الثقافة القديمة ذاتها حين شٌرع للصورة أنْ تكون اذرع السلطة الممتدة من الجدران الى لا وعي الفرد أو الى الفرد اللاواعي ،المنٌوَم ( بفتح الواو) الذي قبل الصورة ، في النهاية ، على انها الوجه الآخر والشرعي للحكم أو هي الحكم ذاته ومن ثم فانها هي نفسه بدلا ً من صورته المشوهة والكالحة ، صورته المنتزعة من سياقها التاريخي ومن شخصيتها المعنوية وربما الانسانية لتتحول ، مقارنة مع الصورة الاصلية للقائد ، الى ملامح لأشباح ياكلون ويتكاثرون ويمارسون شعائرهم ويحزنون وينشؤن أبنائهم ، كاشباح أيضاً ، لكنهم سرعان ما يخرجون من شبحيتهم تلك عندما يموتون في حروب الصورة المديدة . حينها فقط لايعودون صوراً ً في وثائق رسمية أو حتى انعكاساً ً لصورة لا تستهلَك باي شكل من الاشكال ، يصبحون تاريخا ً من الموت غامضا ً ، كئيبا ً ولايعني أي شيء . تم اعداد الاحتفال لإخراج الشكل الجديد للمكان ، مدن خلعت آليات عمل لحشود جاءت بها فضائع نظام قديم مع تبني طرائق جديدة لمنهج تفكير قديم في النظر الى الآخر وقوات غيرت مبررات وجودها لتمايز قوات انتقلت الى مكان آخر . لم يفت المنظمون للحفل أن يولوا الكثير من الاهمية للصورة بمعنييها الواقعي والرمزي لإعطاء الزخم المناسب لمتفرجين افتقروا الى الكثير من الحماس لإيجاد علاقة ، حتى وان كانت طفيفة ، بين الوطن وما درجوا عليه من إغتراب عنه . الصورة هنا كانت بمثابة النواة لاستعراض القوة هذا ، لغة اللحظة الابدية القادمة من تاريخ لا نعرف عنه الكثير والذي احاط ، ممتزجا ً بالغموض ، ملامح الرجل الواقف بكثير من خيلاء وجدت انعكاسا ً لها في جنود يقبلون الصورة بلا مهنية أو احتراف عرفت به جيوش العالم المتقدم كما هو الحال مع المنسحبين ، ويا للمفارقة ، قبل ساعات من هذا الاحتفال .
فالصورة هي المجال الحيوي لتوليد الانطباعات وتعميمها كبديل عن الواقع فهي تنطلق من مقولة قمعية في مقدماتها ونتائجها على السواء "بان كل زمان كان أحسن" مما يربط الزمن إلى سلسلة من السوء الذي يفقد قوامه باستمرار ليصبح بعد مضي فترة وجيزة قابلا ً للاحتمال مقارنة بما يحدثه السيء ، الآن ، من ضرر في الواقع ، لذا تصبح الصورة تواطئاً ً مستمرا ً مع الماضي فهو الهاديء وسط صخب العنف والسلاح ، الملون وسط رمادية الافق وعواصفه السياسية والواثق وسط لا يقينية وعدمية كل شيء . فكل شيء يدور في الصورة وحولها باعتبارها الناطق البليغ الوحيد والمستحوذ ديمقراطيا ً لشروط استبدادها على الرؤية . فبمجرد رؤية تلك الصورة العملاقة المحمولة على اكتاف الجنود سرعان ما يحيلك الى العلاقة الرمزية بين الأثنين من جهة ومن جهة اخرى بتوظيف اللحظة المتوقفة من التاريخ لصالحها كبديل مزور للواقع . " فعندما يستدعي مصور حديث هذا العالم الرمزي - المحمل بمعناه الثقافي - فاننا نجد انفسنا مدفوعين الى التساؤل عما إذا لم يكن المصور قد اخفى بذلك واقعا ً قاسيا ً يجب أن نعرفه بل ونعرفه بالفعل " غادامير مما لاشك فيه أن طريقة مشاهداتنا لما حولنا تخضع بصورة مباشرة لمجمل ثقافتنا وما يتعلق بطريقة تعاطي المجتمع معها والتعاطي الأشد قتامة بالنسبة الى الماضي هي الصورة فهي حصيلة نهائية لتحالف السلطة مع تمظهراتها وفيما بعد تحالف الدين مع السلطة ونتيجة لهذا نَتًج على نحو محزن طبقات من الطغاة انتجت بدورها طبقات اخرى حتى وصلنا إلى ما وصلنا اليه من خراب حرث ونسل . فالتاريخ الذي يعيد نفسه دائما، حسب فيورباخ وعلق ماركس عليها فيما بعد، لم يكن يوما ً هو عودة الاحداث إلا على إشتراط انها سيرورته التي تدفعه الى الأمام . فاي عودة الى الوراء هي انقلاب على التاريخ واي انقلاب على التاريخ هو عدم فهم للزمن حين أوقعنا في دائرة العنف والتخلف والتي لم يستطع من أتى من بعدها الا أن يكون في نطاقها مرة أخرى فهو يلعب على خياراتها البدائية والمحدودة، الصورة، الشعار، الخطاب المطول، الكلام كبديل عن الفعل، الايهام كبديل عن الواقع والواقع كبديل عن اصلاحه. قد تصبح مقارنة من هذا النوع صعبة لكنها ممكنة فالصورة التي أنتخبت كخيار فاجع لإقناع " جمهور الاشباح " الجديد بها لم تنتخب كما يحدث في الغرب أي كخيار قابل للنقض أو للرفض أو للاثنين معا ً ، الصورة هنا هي الحق المكتمل والحائز على مطلق قبول أولي أمر الدين والمذهب . فالصورة إذن كانت ترفع على الملأ وتتلى وتقرأ وتكتب وترسم وتعلق عليهم بدين القوة والآن تفعل كل ذلك بقوة الدين ومن ثم فهي تستعير مفرداته واصطلاحاتة من نصوصه المقدسة الى مقدماته النضالية كالشهيد والمجاهد .انه تشظي الصورة القديمة والمكنونة والمسكونة فينا جميعا ً . إنما اسوأ من الخوف ذاته هو خوفنا المستمر منه وخوفنا من أن يتكرر الماضي من جراء فقر الحاضر وغباءه كل ذلك يدفعنا للنظر اليه بكثير من الارتياب سواء كان ذلك في الصورة أم فيمن ينتجها . فلا يمكن لإستبداد صوري أن يتاصل مثلما فعل ويفعل فمن أقصى الخريطة الى أقصاها وعلى امتداد الطرق القصيرة والطويلة ، على امتداد القرى وفي مداخل المدن ومخارجها ، المدن الكبيرة منها والصغيرة وفي الصحارى المتغولة والبيوت النائية وسط مزارع لم تصلها الحضارة ، إذا ما اعتبرنا الكهرباء هو الوجه الجلي للحضارة ، نجد الصورة هناك ، شاخصة وحاضرة واكثر مرئية من ابطالها ، أكثر حضورا ً منهم وحظوظا ً، ربما ، في بقاءها بعدهم ، انه " صندوق الصور العراقي " على حد تعبير الشاعر عباس بيضون ، البوم الصور الوطني هذا ، الواسع والمبتكر لاناس لا يجمعهم جامع ولا يربط بينهم إلا وجود صورهم متقابلة ومتنابذة آيدلوجيا ً ووظائفيا ً ومعرفيا ً فمن صورة السياسي والمرشح ورجل الدين الى رجل السلطة وشيخ العشيرة والاقطاعي الى مجاهدين ولاعبين وقضاة ، محتالين سابقين وموظفي دولة حاليين ، سراق نهاريين وقتلة ليليين ، رؤساء احزاب وقوائم وقبائل وقواعد ، محافظين ومدراء أمن وطلوبين أمنيين الى طائفيين وعنصريين ومذهبين . عالم ساحر ومترام من الصور الملونة وجيدة الطباعة ، غابة الصور تلك التي جهد العراقيون على ازالتها في نيسان 2003 سرعان ما بدأت تنمو في أيلول 2003 لكنها كانت انفجارية هذه المرة ، كانت تصفية حساب مكلف مع صورة قديمة ووحيدة بخلق الآف الصور لكنها في النهاية ، للأسف ، ليست سوى تسجيل مكرر ومزعج للحظة أستقطعت من التاريخ لتعرض في الحاضر . لانريد للصورة أن تعيش فينا كما لا نريد لنا أن نعيش فيها وان نحول خطاب الصورة الى خطاب بيننا وبين المستقبل . الصورة بابعادها النفسية تلك قد تتحول يوما ً الى إله صغير يراد له أن يدير عالما ً كبيرا ً. فلا يمكن باي حال من الأحوال أن ننجح بشروط حياة قديمة وفاشلة بعد أن جربنا العيش فيها لعقود .
#عماد_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات
...
-
علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
-
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
-
مصادر مثالية للبروتين النباتي
-
هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل
...
-
الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
-
سوريا وغاز قطر
-
الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع
...
-
مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو
...
-
مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|