|
في أصول صناعة التشاؤم العربية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2727 - 2009 / 8 / 3 - 08:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الأوضاع العربية المتردية، المرحلة التاريخية الحرجة، الزمن العربي الرديء، الأمة في خطر، العرب والثقافة العربية ينقرضان... هذه تنويعات من خطاب شائع، تشترك في تداوله وسائل الإعلام والحكومات ومثقفين مكرسين وعموم المتعلمين. ويفترض أن هذه الصيغ المرسلة تتضمن في آن تعبيرا عن حساسية مرهفة، واحتجاجا على واقع غير مقبول أو نقدا له، وصدقا مع الذات. لكن سمتها المشتركة اجتناب فكرة المسؤولية أو تجهيلها. ولعل مثقفين و"مفكرين" هم مبتكرو هذه الصيغ الجامدة، بغرض نقدي ربما، غير أن عمومية السلطات تزايد عليهم في تقرير رداءة الزمن العربي وحراجة المرحلة التاريخية وتعاقب الأزمات وفداحة الأخطار. هذا لأن عمومية الصيغ المذكورة و"قوميتها"، تفرغها من أي محتوى نقدي، وتسهل إقامة شراكة بين "العرب" على اختلاف بلدانهم، حاكمين ومحكومين، في التردي، الذي ربما يكون "الاستعمار"هو المسؤول عنه. وينافس الطرفين رجالُ الدين. هؤلاء، المسيحيون منهم بدرجة لا تقل كثيرا عن المسلمين، لا يكفون عن تقريع جمهور المؤمنين على أخلاقه المتدهورة وتخليه عن إيمانه. ويضيف المسلمون من بينهم ربطا بين أوضاع "الأمة" البائسة وبين تخلي جمهور المؤمنين عن دينهم، أو قلة ترددهم على المساجد، أو تساهلهم في ضبط أنفسهم وأسرهم. أو نسيانهم للموت. ينبغي دوما تذكيرهم بالموت، لأنهم إذا شغفوا بالحياة خسر هؤلاء سلطانهم. ويبدو أن الجميع يجدون ما يناسبهم في رسم الواقع بألوان قاتمة ونشر جو تشاؤمي حولهم، إلى درجة أن صار التشاؤم خصيصة ثقافية عربية متأصلة. "المتشائمون دائما على حق"، يقول الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس. غير أن هذا الشعار يناسب تماما في بلداننا أهل الثقافة والسياسة والدين (نخب السلطة بالمعنى الواسع) الذين يبدو أن التشاؤم هو ما يعطيهم الشعور بأنهم على حق. هم لهذا محتاجون للتشاؤم، لا يستغنون عنه. لكن ما سر هذه الحاجة للتشاؤم؟ السلطة. عند المثقفين، كما عند أطقم السلطة وأرباب الدين، سوء الأحوال ورداءة المراحل وسيلة لإحكام سيطرتهم على الجمهور، لفرض انضباط أكبر عليه. مؤامرات الأعداء وإغواءات الشيطان كلية الجبروت لأنها بالغة الفائدة في تكبيل أرواح الناس وأجسادهم. وتقصير جمهور المؤمنين ثيمة ثابتة في الوعظ الديني لأنه إذ يثير شعورا بالذنب عند أفراد الجمهور يسهل سيطرة الواعظين والأجهزة الدينية عليهم. والمخاطر الأمنية التي تحدق ببلدنا والأوضاع الصعبة للأمة والعولمة ومشروع الشرق الأوسط الكبير... تتيح السيطرة على السكان وقمع الانشقاق في أوساطهم، كما تقلل التوقعات الإيجابية إلى درجة التعود على حياة ليست حياة. ويسهم مثقفون ومناضلون في المزاد بمثابرتهم على كشف خطط معادية جديدة ومشاريع خطرة لأنهم بدورهم يطلبون سلطة على جمهور مستهلكي خطابهم الصغير، أو كي يمنحوا أنفسهم شعورا نبويا، أو للمشاركة في شرعية عامة يبدو أن الاستنفار الدائم حيال الدواهم يدرّها. هذا فوق أن العمل ناطقا باسم الخراب يغني المثقف عن قول شيء ذي قيمة في ميدانه. المهم، في الحالات جميعا، أن يبقى الجمهور المعنى منفعلا، قلقا، ما يسهل قياده والتحكم به. إلى ذلك يشبع تقرير فساد الزمن الحاجة إلى البراءة والتحرر من الشعور بالذنب عند النخب، المثقفين والسياسيين ورجال الدين. فإذا كان كل شيء سيئا بحكم طبيعة المرحلة أو انحطاط الزمن، فلن يسع أحدا أن يطالبهم بالكثير، بل ولن يسع أحدا لومهم والاعتراض عليهم. إذ لما لم يكن أحد مسؤولا عن السيئ، فإن المسؤول عنه هو "القدر" الذي يفضل المنذرون بالانقراض تسميته "الثقافة". هذه أعلى مراحل اللامسؤولية. يثلم التشاؤم المستقر حس التنبه للواقع، لما يستجد فيه ويختلف، فيحذف منه كل ما يخالف المخطط التشاؤمي. من هذا الباب يميل التشاؤميون إلى إنكار التغير. ينبغي أن يكون كل شيء سيئا كيلا تتزلزل النفوس التي سكنت إليه وفيه. التشاؤم "يعيد إنتاج" نفسه على هذه الشاكلة. وعلى هذه الشاكلة يغدو ثقافة. وبينما قد يكون تشاؤمنا الأولي نشأ من صعوبات واقعية، إلا أن تحوله إلى طبع وثقافة جعله محتاجا إلى الصعوبات الواقعية كي يستمر. كنا متشائمين لأن الواقع سيء، فصار الواقع سيئا لأننا متشائمون، أو لنقل تشاؤميون، ننتسب للتشاؤم ونخلص له. نناضل لإثبات أن السيئ مقيم على سوئه. هذا ليس تشاؤما وجوديا أو فلسفيا. إنه تشاؤم بلا صراع ولا تراجيديا، طقس وعادة، أرثوذكسية شائعة وببغائية. مثله مثل التفاؤل في وقت سبق. والحال ليست المرحلة حرجة، ولا الزمن العربي رديئا، ولا انقراضنا وشيك أو له معنى أصلا. هناك أوضاع عسيرة، ومشكلات متنوعة، وأزمات معقدة، لكنها لا تكف عن التبدل. الشيء الوحيد الذي يبدو أنه لا يتبدل هو استعداد نفسي ثابت عند نخب نافذة ثقافيا وسياسيا ودينيا لرؤية العالم بألوان سوداء. هذا لا يبدو ملائما جدا لجميع أصحاب السلطة بيننا فقط، وإنما هو يبدو مقياسا لما يحوزون من سلطة. سلطة أكبر، تشاؤم أكبر. بيد أن هذا هو أخطر الأخطار. هو العدو. أوضاعنا صعبة فعلا، لكن تزيدها صعوبة وعسرا ردود أفعال واستعدادات نفسية وثقافية ترعاها النخب المهيمنة. وينبغي القول إنها ناجحة جدا في إنتاج مزاج ثقافي قانط ومتجهم، يكاد يكون اسما آخر للثقافة العربية. وبدل أن يعتبر هذا انسحابا من العالم واستسلاما له، ينتحل نفسه قناع الجدية وصعوبة المراس. لسنا ندافع عن موقف التفاؤل، رؤية العالم بألوان وردية. هذا موقف أبله. العالم ليس إنسانيا وبهيجا من تلقاء نفسه، فلا شيء يبرر الوردية. لكنه قابل للإصلاح وليس كتيما حيال التدخل الإنساني. إنه ميدان صراع مفتوح، الفوز فيه غير مضمون، لكن الهزيمة فيه ليست محتومة. ضد تشاؤم سلطوي وتفاؤل أخرق سلطوي بدوره، ننحاز إلى التفاعل والصراع، الانفتاح على الصيرورة، والمشاركة فيها دون تشنج ودون انجراف وتخاذل. ليس لذلك علاقة بالثقة بالمستقبل. ليس عن المستقبل (المؤجل دوما) نتكلم، بل عن الإقبال على ما يصير، ما يحدث ولا يكف عن الحدوث؛ عن الصراع معه والتمرس به.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بصدد العنف والنخبوية
-
ملحوظات أولية في نقد السياسة
-
ماذا يعني مفهوم الحريات الاجتماعية؟
-
موقع -الديني السياسي- في وثيقتين معارضتين سوريتين
-
من خرافة سياسية إلى أخرى..
-
عودة إلى مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري
-
-الحل- غير موجود... أين هو؟
-
في بئري الدين والدولة
-
في شأن الديمقراطية والإصلاح السياسي... سيرة استهلاك إيديولوج
...
-
الطائفية والأحوال الشخصية في سورية
-
عالم السادة الرجال -المسلمين- وما وراءه
-
بحثا عن توازنات جديدة.. إيران تتحرك!
-
تساؤلات بصدد السياق السياسي والمؤسسي لمشروع قانون الأحوال ال
...
-
نتنياهو، كيف حصلنا عليه؟ وأي سلم يتحصل منه؟
-
ما معنى البقاء في السلطة إلى الأبد؟
-
الكثير الذي فات خطابك يا أخ أوباما!
-
هذه أو هذه وإلا فتلك: عقائد الحتمية في السياسة السورية
-
نظرات في اللوحة الإيديولوجية العربية السائدة
-
العلمانية والقومية والامبريالية.. أسئلة مفتوحة
-
نظريتان في الطائفية.. بلا نظر
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|