نادية الألوسي
الحوار المتمدن-العدد: 2725 - 2009 / 8 / 1 - 09:13
المحور:
الادب والفن
هل كنت مخدر العقل يومها ؟ . مؤكد أنني كنت مخدر العقل .. وعينا قلبي الأحمق لم تبصرا جيدا كل شيء . ما الذي أصابها ؟ , يوما بعد آخر تبدي لي غرابة لا افهمها . كان بوسعي معاندتها ورفع صوت التلفزيون وسماع التعليق على المباراة بشكل واضح , حتى لو كان المعلق ينعق كالغراب , لكنها كانت ستصر وينتهي الأمر بثورة غضب محسومة لصالحها , ثم تغلق التلفزيون .
منذ أن صار سمعها مرهفا , لا أذكر متى , جعلتنا نتكلم دائما بصوت منخفض , أخفض من المعتاد . خفضنا نحن أصواتنا وظل صوتها وحده مدويا لايهمها حتى ان كان لا يلائم موضوع حديثها . ولم تشعر مرة بأنها متجنية . أخشى أن يأتي يوم نتحاور فيه بصمت . والآن صوت التلفزيون . عجبا كيف إنني احتملها ! . لكن , لم أضني نفسي لأفهم غرابتها .. أليست شيئا من غرابة أهلها ؟! .
فأبوها , الرجل الذي شرب أبناؤه من كفيه , ليس هو ذاته الذي تقدمت أليه خاطبا فيما مضى واستحوذت على روحي هيبته , ورجوت قبوله . أنه واحد آخر لا يشبهه . رجل على الدوام يتجول في البيت بمطرقة وكيس مسامير , يدق على الجدران أو في كعوب الأحذية القديمة . أن لم نشاهده بأعيننا فإننا نسمع صوت الدق . وأخوها الأكبر , فخر أبيه , ترك كل شيء وارتحل إلى أقصى الأرض باحثا عن حياة جديدة قاطعا كل خيط أمل بعودته .
_ ماهي نتيجة المباراة ؟
_ لا اعلم . لم أتابعها إلى النهاية .
وهل تدعنا أختك نفهم شيئا أو نستمتع بشيء ؟ .. فجأة صار لآكل النباتات شغف بكرة القدم , وهو من بعد فصله من الجامعة يقضي غالب وقته معتزلا في غرفته . يقولون إنهم لايعرفون سببا لفصله لكن أنا اعرف . فمن يحمل عش غباء فوق كتفيه يحصل له ذلك , ولو لم يكن غبيا لما أضاع أربع سنوات من الجهد والمعاناة . حتى العجوز , مرضها غريب . المرأة تداهمها بين حين وآخر حملات من الألم مرعبة , تربك الجميع . ويجيء أطباء ويذهبون ولا سبب يعرف لمرضها , ولن يعرفوا أبدا .
_ هيا استعدا , حان وقت عودتنا ويجب أن تناما مبكرين .
ها .. ها هو صوتها يجلجل كأنه نذير حرب . ما ذنب الولدين ؟ . آه .. أحمد الله أن ولدي يتمتعان بصحة وفطنة عقل تهديهما إلى مستقبلهما بأمان . بورك فيهما , ابني أبيهما .
نشر جناحي نسر وضم إليه الولدين بقوة ثم أشار لزوجته ولهما ليتجهوا ناحية الشارع الفرعي الذي قطعوه في الصباح عندما جاءوا لزيارة الجدة المريضة . كان محرما لسنوات المرور عبر هذا الشارع , ولا أحد يعرف سببا غير أن دائرة أمنية تملكت واحدا من بيوته , ولا السبب الذي دعا إلى فتحه لمرور الناس من جديد .
كان المساء معتما والفضاء أمام أعينهم مضبب بضوء بنفسجي باهت تنفثه مصابيح الشارع . ولم يكن ثمة ضوء غيره سوى بعض خطوط رفيعة متوازية بدت من وراء الستائر المسدلة على نوافذ البيوت . كل شيء من حولهم كان ساكنا وتمنى لو انه استطاع المضي في هذا الصمت أطول وقت ممكن لكنه كان مرهقا وبحاجة شديدة للنوم . غير إن السكون كان مشوبا بشيء غامض يبعث الهواجس في القلوب .
دخلوا الشارع الفرعي , وكانت كل البيوت والدكاكين المجاورة للبيت , الدائرة الأمنية , مهجورة . ساروا دون كلام محاطين بالهواجس المريبة . ساروا بخطوات حريصة على أن لا يصدر عنها أي صوت وإلا فهو ذنب حصى الشارع المتطاير من تحت أقدامهم . الضجيج الواسع في النهار يمتص كل أصوات الحياة ويمزجها يبعضها , لكن في سكون الليل حتى الأنفاس لها صوت مسموع . تناهى إلى أسماعهم صوت , أو صدى صوت مكتوم بعيد . بل أصوات بعضها كأنها آهات وبعضها تضرعات إلى الله . نظروا إلى بعضهم برعب وعيونهم تفسر ماسمعوه . كانت أصوات رجال يعذبون . أمسكوا قلوب بعضهم بأيديهم وساروا بنفس حذرهم ينظرون صوب نهاية الشارع .
لم البكاء بحق الله ؟ , منذ دخولنا البيت وهي تبكي بلا توقف , حتى الولدين , دخلا غرفتهما فزعين . في الصباح غضب ومزاج متعكر والآن بكاء !! . بل هي تنشج . يا الهي هل اصرخ صرخة تسقط سقف الغرفة فوقي وفوقها ؟!
ارتفع صوت النشيج .
_ مابك ؟ ماسبب كل هذا البكاء ؟ .
أشفق عليها حين استدارت نحوه وهاله ما رآه من دموع منهمرة بغزارة لا مثيل لها . كفكف دموعها بيديه . كانت محرقة أذابت قلبه . همست بكلمات مبحوحة :
_ سمعت صوت أحدهم يقول .. أه .. يا أماه . يا لقلب أمه . بأي شيء كانوا يعذبوه وأي الم كان ألمه ؟
صحا في قلبه شوق حملته نبرة في صوتها قديمة , حلوة , يحبها وكان قد نسيها . وعرف الآن إنها مازالت في أعماقها . وضع رأسها على صدره فارتعشت كبرعم رقيق لمسته ريح صباحية .
_ تعالي إلى قلبي أيتها الأم الحنون , أن لحزنك الآن أن يهدأ . ولتستريحي يا طيبة القلب من فيض حنانك الذي يرهقك . نامي وانسي كل شيء سمعته أذنيك . وأولئك لن ينساهم الله .
أغمض عينيه وقرر أن ينسى الصوت الغاضب الذي كان في رأسه طوال المساء .
#نادية_الألوسي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟