|
جدار برلين!
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 2737 - 2009 / 8 / 13 - 08:17
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
كان الزعيم الألماني الشرقي إريك هونيكر لا يتصور أن جدار برلين سينهدم في يوم قريب، فقد تصور بقاءه 100 عام كما قال، بل إن الألمان الديمقراطيين أسسوا دستورهم الجديد في السبعينيات على أن هناك أمتين ألمانيتين تتسمان بنمط تطور مختلف ومتفاوت اجتماعياً- اقتصادياً، فضلا عن تباين شديد في نظامهما السياسي المتعارض الذي ظل يفصل بينهما على مدار 40 عاماً خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وروّج بعض المنظرين القانونيين والباحثين الاجتماعيين على نحو احتفالي بوجود نظامين ومجتمعين وقواعد قيمية وسلوكية مختلفة بين ألمانيا الغربية وألمانيا الديمقراطية، ولذلك اعتبروا ثمة متغيّر ما حدث، وهو ما تم تكريسه دستورياً يقضي بوجود أمتين حتى إن كانت لغتهما مشتركة وتاريخهما مشتركا، وإن تم فصلهما بدولتين مختلفتين! لم يدر بخلد هونيكر في عام 1989، وهو يستعرض في عيد العمال العالمي (أول مايو) كتلاً بشرية متراصة، كلها تهتف له والنصر لحزبه وللاشتراكية الظافرة، في زهو لقدرات عسكرية ونجاحات اجتماعية وإمكانات إدارية وتنظيمية، وبتباهٍ بحلف مع الاتحاد السوفييتي، أن المجتمع الألماني الديمقراطي كان يخفي في الوقت نفسه هشاشة تراكيب اجتماعية وقيمية، ونقصاً فادحاً في الحريات، وتعطّلاً لعملية التنمية وانحسارا للثقة بين الحاكم وجمهوره، ولعل الجدار الذي قسَّم برلين أو ألمانيا، بل أوروبا ظلّ شاخصاً، جامداً دون حراك، رغم محاولات عبوره والهروب من هذا الجانب إلى ذلك، الأمر الذي أصبح ثمناً للحرية المفقودة، شملت نحو 13500 حالة، لم ينجح منها أكثر من 300 عملية هروب. كنت كلما أعبر من برلين الشرقية متجهاً إلى برلين الغربية، من محطة فريدريش راسه أو ساحة ألكسندر بلاس، أستعيد وأستذكر ثمن الهروب، عندما تضيق فسح الحرية، وقد بنى الألمان الغربيون على الجانب الآخر، متحفاً يعرض بالصور والشواهد والوسائل هروب ألمان شرقيين إلى ألمانيا الغربية معظمهم يلقى حتفه بجدار مكهرب، أو تكتشف سيارته، أو يطلق عليه الرصاص، أو يلقى القبض عليه من جراء وشاية أو غيرها. وكنت أعرف قصصاً استمعنا إليها أنا وصديقة ألمانية وأخرى تشيكية والراحل أبو كاطع (الروائي شمران الياسري) في برلين في جلسة ثقة واطمئنان (في أواسط السبعينيات). لقد انهار الجدار قبل انهياره الفعلي في ضمائر وعقول وأفئدة الناس، وهذا ديدن كل الأنظمة الاستبدادية، ابتدأ الأمر في بولونيا بنجاح نقابة تضامن بقيادة ليخ فاليسيا، ثم امتدت الموجة إلى المجر ووصلت إلى برلين، وفي طريقها كانت براغ تستعيد ربيعها المفقود. وقد احتفظت بذاكرتي بمشاعر متناقضة، يوم صادف وجودي في براغ، اندلاع الثورة المخملية، حين اصطفت الجماهير وكأنها في عرس تريد الحرية والتعددية والحوار، وهو الأمر الذي تطوّر إلى أن طوى النظام الاشتراكي صفحته المؤلمة، بعد وصول الأمور إلى طريق مسدود واختناقات لم يكن من السهل تجاوزها. ورغم أن الاشتراكية المطبقة على جميع أخطائها ونواقصها، وأهمها تعارضها مع جوهرها ومحتوها الإنساني، وسلوكها سبيل الاستبداد والانفراد بالحكم، فإنها بقياسات تلك الأيام حققت بعض النجاحات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، التي لايزال الكثير من الناس يفتقدونها، لاسيما في مجالات التعليم والصحة والعمل وغيرها، لكن غياب الحريات وسيادة نمط استبدادي شمولي توتاليتاري وهيمنة أقلية على الحكم ووصول التنمية إلى طريق مسدود، باستنفاذ أغراضها دفعت الأوضاع إلى تلك النتيجة التي لم يكن هناك فرار منها، وهي أقرب إلى استحقاق حين أصبحت الايديولوجيا أقرب إلى الكابوس وأحد أسباب الاختناق، لاسيما بتطبيقاتها الاقتصادية البيروقراطية والسياسية التسلطية، خصوصاً في منافسات وضغوط إمبريالية عالية، في موضوع التسلح وحرب النجوم وتخصيص أكثر من تريليوني دولار أميركي لها، وميزانيات ضخمة للعلوم والأغراض العسكرية، الأمر الذي لم يكن ممكناً مجاراته في ظروف سياسية واقتصادية معقدة، وسباق تسلح لم يستطع الاتحاد السوفييتي الفوز فيه، رغم محاولاته المتأخرة للانفتاح وما سمي بـ البريسترويكا و الغلاسنوست (إعادة البناء والشفافية)، ولكن بعد فوات الأوان. أتذكر أيضاً في عام 1989 أن المجر قررت في خطوة غير مسبوقة دعوة الصحافيين والإعلاميين إلى حدث مهم، لم يكن أحد يتصور ماذا ستقدم عليه، وإذا بها وتحت ضوء الكاميرات تلتقط الصور لإلغاء السياج الكهربائي الذي يفصلها عن النمسا، وأصبح الطريق سالكاً بين بودابست وفيينا، وهو الذي شجّع مئات الأشخاص من المجر والتشيك والألمان الشرقيين على العبور إلى النمسا يومياً، مثلما فعلوا أيام ربيع براغ الأول عام 1968. لقد كان إلغاء السياج المكهرب أول خطوة كبرى لتعويم النظام الاشتراكي البيروقراطي، وطوال أربعة عقود أو ما يزيد على ذلك كانت القبضة الحديدية مستمرة وخانقة إزاء اختراقات الحدود، واضعة شعوباً خلف الستار الحديدي الذي ظلّ قلعة كبرى لا يمكن اقتحامها من الخارج على حد تعبير سارتر، لكنها كانت هشة وخاوية من الداخل، وهو الأمر الذي شهدناه بانهيار السياج المكهرب وتظاهرات العمال في بولونيا واحتجاج التشيك وفيما بعد انهيار جدار برلين. وخلال بضعة أشهر شهدت برلين وألمانيا الديمقراطية هروباً شبه جماعي إلى النمسا عبر المجر، حيث بلغت أعداد الفارين أكثر من 50 ألفاً، وهو ما أطلقت عليه مجلة نيوزويك الأميركية في حينها الهروب الكبير ، ولعل هذا كان أحد أسباب انهيار جدار برلين وتمهيداً له. إن مناسبة هذا الحديث هو مرور 20 عاماً على ذكرى تفكيك الستار الحديدي سواء السياج المكهرب، الذي كان تمهيداً لهدم جدار برلين حين كرّت المسبحة دولة بعد أخرى، مما أدى إلى انحلال النظام الاشتراكي العالمي، لاسيما بانهيار الاتحاد السوفييتي وتفكيكه عام 1991، وهو التفكيك الذي شهدته بعض دول أوروبا الشرقية، حيث تفككت يوغسلافيا إلى دويلات وعاشت حروباً واقتتالاً وإبادات، لاسيما بصعود نزعات قومية واثنية ودينية عبّرت فيها عن هويات فرعية، بالضد من الهوية الجامعة، خصوصاً لشعورها بالإجحاف والكبت، وانفصلت تشيكوسلوفاكيا إلى التشيك والسلوفاك، رغم أن انقسامها كان هو الآخر مخملياً، في حين اتجهت الأمة الألمانية نحن وحدتها، ولم ينفع معها دساتير أو قيود أو حدود أو جدار، فإرادة الوحدة الألمانية كانت هي الأقوى. جدار برلين لم يعد سوى ذكرى مؤلمة- تعكس حقبة وطريقة تفكير سادت في فترة من الفترات على صعيد الدول الاشتراكية الداخلية، أو على صعيد العلاقات الدولية، لكن طيف الاشتراكية سيبقى يداعب عيون الحالمين في نومهم وفي يقظتهم، خصوصاً في ظل أزمة الرأسمالية العالمية الحالية وانهياراتها الاقتصادية والمالية المدوّية. * باحث ومفكر عربي
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفارقة السيادة والتدخل الإنساني!
-
نفط العراق.. وجوهر الخلاف
-
النفط والاقتصاد الريعي
-
الابرتهايد..
-
يوم السيادة -العراقي- وشيء من المصارحة
-
هل هي هموم «شيوعية» أم وطنية؟!
-
استعصاء الديمقراطية؟
-
خصوصية الحالة الإيرانية!
-
هل القدس عاصمة للثقافة العربية؟
-
سوسيولوجية المدينة وسايكولوجية الجماهير!!
-
هل عادت أطياف ماركس أم أن نجمه قد أفل؟
-
المجتمع المدني العراقي: هواجس ومطارحات!
-
استراتيجيات المجتمع المدني
-
الانسحاب الأمريكي الشامل من العراق أمر مشكوك فيه
-
التنمية والمجتمع المدني العربي ..
-
الديمقراطية التوافقية والديمقراطية «التواقفية»!!
-
الجواهري نهر العراق الثالث!
-
عن الاستفتاء والإصلاح في العراق
-
التنمية والمجتمع المدني: الشراكة والتجربة العالمية!
-
المجتمع المدني والعقد الاجتماعي
المزيد.....
-
أشرف عبدالباقي وابنته زينة من العرض الخاص لفيلمها -مين يصدق-
...
-
لبنان.. ما هو القرار 1701 ودوره بوقف إطلاق النار بين الجيش ا
...
-
ملابسات انتحار أسطول والملجأ الأخير إلى أكبر قاعدة بحرية عرب
...
-
شي: سنواصل العمل مع المجتمع الدولي لوقف القتال في غزة
-
لبنان.. بدء إزالة آثار القصف الإسرائيلي وعودة الأهالي إلى أم
...
-
السعودية تحذر مواطنيها من -أمطار وسيول- وتدعو للبقاء في -أما
...
-
الحكومة الألمانية توافق على مبيعات أسلحة لإسرائيل بـ131 مليو
...
-
بعد التهديدات الإسرائيلية.. مقتدى الصدر يصدر 4 أوامر لـ-سراي
...
-
ماسك يعلق على طلب بايدن تخصيص أموال إضافية لكييف
-
لافروف: التصعيد المستمر في الشرق الأوسط ناجم عن نهج إسرائيل
...
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|