|
ملحوظات أولية في نقد السياسة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2722 - 2009 / 7 / 29 - 07:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إما أن في معرفتنا السياسية ثغرات كبيرة جدا تحكم عليها بأن تأتي خلف الأحداث، قلما تضيئها بصورة كافية، ولا تأثير لها عليها دوما؛ أو أن هناك عوامل خفية تقلل من جدوى معرفتنا دون أن تنجح هذه في الإحاطة بها. هذا، إن صح، يجعلها معرفة ساذجة وإيديولوجية، توجهها ظروف غير محللة بدل أن تتولى هي تحليل أية ظروف محيطة بها. لقد انقضت عقود من الشعور العام بالإحباط حيال السياسة والسياسيين في أوساط المثقفين والجمهور العربي العام. مع ذلك لا يبدو أنه تطورت لدينا قواعد وأصول للمعرفة السياسية. العالم العربي، والمشرق منه بخاصة، يغرق في السياسة؛ ومع ذلك، أو ربما بسببه، المعرفة السياسية ضحلة جدا. وقد يسهل أمر غرقنا في السياسة افتقارنا إلى قواعد صلبة، منهجية ومؤسسية، لضبط العمليات السياسية عقليا، ما قد يكون من شأنه تسهيل ضبطها عمليا. حال المعرفة يحاكي حال السياسة ذاتها: منفتلة من أية قواعد أيا تكن. هل أصابت السياسة بعدواها المثقفين المعنيين بها؟ هل إن معرفتنا السياسية هي ذاتها سياسة: معرفة جزئية، مغرضة، مسخرة لخدمة وتبرير تفضيلات وانحيازات سياسية؟ هذا ما يبدو. ولعله متصل بسيولة السياسة لدينا كممارسة كما كتفكير، أعني افتقارنا في آن إلى أصول للعلم السياسي وإلى مؤسسات مستقلة للتفكير في السياسة. الإحباط حيال السياسة يقترن بإحباط حيال المعرفة السياسية وحيال النشاط السياسي. وهذا مرجح أن يستمر إن لم تتحقق طفرة في التفكير السياسي تجعله أكثر إنتاجية وعلمية وإيجابية.
إنكار الدولة مرتين لكن ما هي أوجه القصور المحتملة في تفكيرنا السياسي، تعوق مبادرته وإنتاجيته؟ أولها، وربما أكبرها فيما نقدر، موقف سلبي من الدولة القائمة. هذا لا يقتصر على تيارين إيديولوجيين عريضين هما القوميين والإسلاميين، بل يتعداه إلى أطقم الحكم في الدول ذاتها. الأولون ينكرون الدول ككيانات أو أوطان كاملة الأهلية، الآخرون ينكرونها كمؤسسات حكم عامة، فيختزلونها إلى وظيفة السلطة. دولنا في آن كيانات غير شرعية لا تستحق التماهي بها، وركائز جهازية (نقيض مؤسسية) لسلطة أطقم حاكمة لا تبدي عطفا خاصا عليها (على الدول) أو ولاءا خالصا لها. هي في الحالين مجردة من أية أبعاد فكرية وأخلاقية وجدانية. لا تبدو أوطانا يتماهى المرء فيها بيسر (هذا رغم كثرة الكلام على الوطن والتضحية في سبيله)، وليس ثمة ما يبث الشعور في نفس المتابع بأن من يحكمون البلاد يتفانون من أجل ترقيها ونهوضها ورفاه سكانها، أو أن المحكومين يعون أنفسهم كمواطنين متساوين في ظلها. يتقدم على ذلك دوما عند الأولين وبصورة حاسمة أولوية سلطتهم. السلطة أولا وأساسا، والوطن بعد ذلك. وما يلقيه القوميون والإسلاميون من شك في شرعية وجود الدول يضعف الشعور بوجوب تطوير شرعيتها كمؤسسات حكم. أما عند عموم المحكومين فيتطور شعور سياسي فاتر، يتعارض مع المعرفة السياسية بدرجة لا تقل عن تعارضه مع الالتزام الوطني. ومن موقع الطرفين المذكورين، الإيديولوجيين الإسلاميين والقوميين كما أطقم الحكم، يُنظر إلى مجتمعاتنا الراهنة كصناديق مغلقة، إما أنه لا يجري فيها شيء، أو أن ما يجري غير مهم سياسيا. لكنه هو المهم بالفعل. كيف نفكر في السياسة أو تتطور لدينا معرفة سياسية مثمرة بينما نحن نمتنع عن النظر في حال وعلاقات الجماعات الدينية والعشائر والطوائف فيما بينها، أو مع الدولة؟ نهتم بهذا العنصر أكثر من غيره لأنه أكثر مساسا بعقلانية السياسة وأكثر تداخلا مع البنية الوطنية للدولة والمجتمع معا. إيديولوجية "الوحدة الوطنية"، الناجزة دوما، تحول دون التفكير في الاندماج الوطني كمسألة. فإذا كنا نصادر على أننا إخوة وموحدون، "فلا دين يفرقنا ولا حد يباعدنا" على ما يقول نشيد قومي قديم لا يرضى غير "بلاد العرب" أوطانا، فلن ننشغل بدراسة وقائع التباعد والتفرق المتنوعة، ولا بتطوير سياسات قد تساعد على الالتئام والتقارب. في واقع الحال، المناقض بالكامل لهذه الصورة الغنائية المقررة كعلم سياسي رسمي، تحوز التكوينات الأهلية وزنا يزداد أهمية، وتنافس الدولة على ولاء الأفراد. ينبغي أن تكون الدولة قوية جدا، ماديا ومعنويا، حتى تفوز في المنافسة. لكن الدولة مشكوك بأمرها مبدئيا، ومنازع كثيرا في الولاء لها، وفي واقعها هي عنيفة كجهاز وضامرة كقيمة، فكيف تفوز؟ تخسر. الإيديولوجيون يرفضونها، السياسيون لا يحتاجون لها، الطوائف والعشائر والإثنيات تنازعها (وتتنازع عليها). ما الذي يدفع أيا كان، إذن، إلى تعريف نفسه بها؟ ستبقى الدولة برانية في الوعي العام، العالِم والشعبي، وفي الوقت نفسه جهاز سلطة يطور، بدرجة تتناسب مع ضموره القيمي، ركائز أهلية أو ما يعادلها. غير أن الدولة هي إطار التراكم السياسي، مؤسسيا وعمليا وفكريا. وهي الركيزة الصلبة لتنظيم التفكير بالسياسة وتطور الفن السياسي. وقبل كل شيء، الدولة موضوع السياسة الأول. تفكيرنا السياسي عقيم ولا طائل من تحته لأنه بلا موضوع. فإذا أضفنا أن المجتمع مطرود أيضا من التفكير السياسي، تيسر لنا فهم البؤس المقيم لمعرفتنا السياسية. الدولة والمجتمع غائبان. فما حال السياسة؟ غائبة بالمطلق كسياسة دولة وكمعرفة سياسية مقعّدة. لكنها حاضرة جدا كتسييس كلي لا ينجو منه شيء. كل شيء موضع صراع وتنازع وخصام، لا شيء موضع إجماع، تماما عكس ما يقرره علم السياسة القومي والرسمي. يفاقم من ذلك أن في ثقافتنا حضور كبير لفكرة الخصم أكثر مما لفكرة الموضوع، أي للهوية والعصبية أكثر من المعرفة ومن العمل. الخصم هو أخي أو ابن عمي أو الغريب الذي من عشيرة أخرى أو الأغرب الذي هو من طائفة أخرى أو من دين آخر. لكن كل هذا غريب على منطق الدولة الحديثة المكونة أساسا وحصرا من أغراب (الأخوّة حد خارجي للسياسة، مثل الحرب)، وهي غريبة عليه. قوة الروابط الأهلية، المنازعة للدولة والمتنازعة فيما بينها، تغذي فرط صراعية السياسة. أسوأ من ذلك، تيسر امّحاء الحدود بين المعرفة السياسية والممارسة السياسية، فتجعل المعرفة سياسة، أداة في التنازع السياسي المنتشر، بدرجة تتناسب مع نكرانها ورفض الاعتراف بها. كم نشعر بأن ما يقال، بما في ذلك تآليف "نظرية"، هو في الواقع سياسة مكشوفة أو تكاد؟ نُصرةٌ لانحيازات ناجزة، منبثقة عن "الأصل" أو الفئة الخاصة؟ نمارس (بتذاكٍ قصير النظر) السياسة في المعرفة. ما الإيديولوجية إن لم تكن ذلك؟ الموقف السلبي من الدولة وضعفها في الفكر والواقع يعطلان إمكانية تشكل مفهوم واضح للمصلحة الوطنية بوصفها مصلحة الدولة. الفكرة المهيمنة شكليا هي المصلحة القومية العربية، لكن لما كانت هذه بلا سند واقعي، أي لا تتطابق مع دولة أو مؤسسة سياسية من أي نوع، فإن الفراغ الذي يتركه المفهوم يمتلئ عمليا بمصلحة الحكم أو السلطات القائمة. ويتواتر أن تحيل هذه إلى مصلحة الأسرة والعشيرة والطائفية. كيف يمكن عقل السياسة وتطوير المعرفة السياسية دون مفهوم واضح للمصلحة الوطنية؟ أو لنقل دون "ذات" يمكن تعريفها بوضوح تدور السياسة حولها، حول بنائها ووحدتها ومصالحها؟ بأي معيار نحكم على سياسات الحكومات حين يتخارج مفهوم المصلحة الوطنية ومفهوم الدولة؟ أو حين لا تتطابق الذات الظاهرة مع الذات الحقيقية للدولة (طغمة أو أسرة أو فرد..)؟ العقلنة ممتنعة حتما. مثل ذلك يصح أيضا على مفهوم الأمن الوطني. بمفهوم كالأمن القومي العربي متخارج عن الدول القائمة، ولا يسعف في ضبط سياساتها، تنضبط هذه عمليا بأمن السلطات القائمة، أمن "الذات" الحقة. وأحد مصادر تهديد هذا أو التهديد الأساس هو السكان. وهذا واقع يتعين إخفاؤه لأن ظهوره علانية من علامات زواله. لا بد من تصنيع الحقائق المناسبة لذلك. الكذب ومواكبه وعلاقاته الاجتماعية ولياقاته السياسية ومنتجي الكذب وميزانياته ونجومه وعلمائه.
الثقافوية وصناعة الخصوصية إلى إنكار الدولة والمجتمع (المعرفة السياسية بلا موضوع) وفرط التسييس والصراعية السياسية، وإلى نظام الكذب العام، يبدو أنه ثمة عاملان "خفيان" يجعلان معرفتنا السياسية بلا محصول. أولهما "الخصوصية"، وثانيهما "المؤامرة". عقيدة الخصوصية منتشرة عند القوميين والإسلاميين أيضا. مجتمعاتنا مختلفة، دولنا مختلفة، ثقافتنا مختلفة، ديننا مختلف. إذن إما أن ما هو متاح من معرفة لأحوالنا كافٍ ومناسب، أو إننا مقصرون فلما نطور بعد المعرفة المناسبة. في الحالين الخصوصية شيء إيجابي. وهي مكنونة دوما في الثقافة أو في الدين. ثمة تنويعة أخرى تدين الخصوصية، وتحملها المسؤولية عن عقمنا الثقافي والسياسي، وعن تخلفنا وهزائمنا... لكنها تصدر عن التسليم بها، بفرادة أوضاعنا وباستثنائيتها المركوزة بدورها في الثقافة والدين. الفارق بين التنويعتين فارق في الحكم على الخصوصية: هي مرة أصالة وتفرد إيجابي، ومرة شذوذ وتخلف جوهري؛ لكنها دوما واقع محقق لا يُشرح بغيره، ويشرح به كل شيء. وبينما تجنح سياسة الأولين إلى مطابقة أوضاعنا مع جوهرنا الخاص أو هويتنا الأصيلة، فإن سياسة الأخيرين تنزع بالأحرى إلى مطابقة ما يفترض أنه جوهر عالمي عام وناجز، قد يسمى "الحداثة" أو "العام الكلي" أو "الكوني". فالمحطة الأخيرة عمومية عند الخصوصيين من الصنف الثاني. أسميهم العموميون. يشترك الطرفان أيضا في اعتبار أن "الخاص" و"العام" جوهران، شيئا محققان قائمان برأسيهما، ثقافتان أو حتى دينان، وليسا عمليتي صراع وتفاعل واختلاط... غير مكفولين بحال، لا من الله ولا من التاريخ. أو بلغة نيتشوية هما إرادتا قوة أو صراع على السلطة. أهم من الخصوصيين و"العموميين"، تتصرف الحكومات بناء على عقيدة الخصوصية. هذا يناسبها جدا، ولكانت اخترعت الخصوصية لو لم يخترعها لها إيديولوجيون مختصون. مناسب لأنه يتعارض مع أية قاعدة عامة، ويتوافق مع أحوال الاستثناء القانونية كتلك التي أمست "طبيعة ثانية" لسورية. طبيعي أن تكون سياسة المختلف سياسة مختلفة، ليس عن غيرها بل عن نفسها أيضا، فلا تنضبط بقاعدة مطردة ولا ينتظمها منطق مستقر، ولا يحكمها قانون عام. ليس أنسب من ذهنية تقوم على الخصوصية، على أننا مختلفون عن غيرنا من أجل أن نطيق العيش إلى ما لا نهاية في أوضاع مختلفة عن غيرنا، متحررة حتى من مشابهة ذاتها، فلا تعترف بسوابق، ولا يتشكل لها تراث، ولا تتشكل في تقليد أو عرف. إنها سلطة مطلقة على عالم من الفوضى المطلقة. ومن غير المرجح لثقافة تهيمن فيها فكرة الخصوصية (ولو في الصيغة "العمومية") أن تتمكن من تطوير معايير ونظريات متسقة لضبط العالم من حولها وتنظيمه، ولتطوير سياسة كبيرة أو حيازة أهلية لسياسة العالم. وإذ تتوافق الخصوصية في صيغتها الشائعة أيضا مع نزعة انعزالية عن العالم، فإنها تؤول إلى غربة عنه وتشكك فيه وانسحاب منه، وعجز عن مجاراته أو التفاعل معه. أما في صيغتها العمومية فتؤول الخصوصية إلى إرادة تماهي بصورة متخيلة للعالم (الحداثة)، وتماثل سلبي معه. يتعين أن نلاحظ أننا، عموم المثقفين العرب، نتوزع على تنويعة الخصوصية تلك أو هذه. فمن يعترضون على الخصوصية ذات السند الإسلامي هم خصوصويون ذوي سند "حداثي"، ويغلب على من ينكرون الصيغة العمومية للخصوصية أن يكنّوا بوداعة في حضن "الأصالة". لا يكاد يكون بيننا من يسائلون السندين معا، وسندهما المشترك: الثقافوية. ينبغي الانفلات من الثقافوية لنرى ابتذال مجتمعاتنا ونثريتها، وتاريخيتها، ولتولد في ثقافتنا علوم النثر والابتذال، من الجغرافيا إلى السكان إلى التاريخ والسوسيولوجيا إلى .. السياسة. على أرضية الثقافوية لا تنبت غير علوم "شريفة"، كلها "شعر" و"فكر" و"مفكرين". علوم "الجوهر". في صيغتيها معا، ليست الخصوصية فكرة ضالة تتملك أذهان مثقفين وناشطين سياسيين وسلطات مستبدة، بقدر ما هي صناعة سياسية، فرضت كثقافة. هذه نقطة جوهرية. ليست خصوصيتنا هي الأصل في نظمنا السياسة والاجتماعية، في استبدادنا وتخلفنا؛ بالعكس، إن خصوصيتنا تنبع من هياكلنا السياسية والاجتماعية المفروضة كما من هياكل السلطة الدولية القائمة؛ إنها نتاج سياسي من الدرجة الأولى، وإن لم يكن سياسيون وحدهم هم من أنتجوه. هذا ينطبق على كلا الصيغتين، الخصوصية منهما و"العمومية"، أي الخصوصية الأخرى. تلك التي تفضي إلى الانعزال الثقافي، وتلك التي تفترض التماهي ممكنا (حتى لو كان مقبولا). كلتاهما عرضان انهزاميان، رفضان للصراع. الخصوصية مفعول لهيمنة سياسية وإيديولوجية، تحركها نوازع ورهانات عامة لا خصوصية فيها. فليس لأنا "مسلمون" أو "عرب" أوضاعنا هي ما هي، بل إننا نُصنَع كـ"مسلمين" وكـ"عرب" في العمليات ذاتها التي تصنع بها أوضاعنا، عمليات توجهها مقتضيات السلطة والثروة والنفوذ والمكانة، المحلية منها والعالمية. وإنما لذلك لا يجدي نقد الخصوصية بمحصلاتها الخاصة ("إسلام"، "عروبة"، "هوية"..). ينبغي نقد عملياتها العامة أو المكوّنة. هذا لأنك تجد معترضين على المحصلات يستبطنون العمليات وينكرون صفتها الصنعية أو كونها نتاجات سلطوية وليست مفاهيم مجردة أو هويات بسيطة. منهم أسماء كبيرة مكرسة جدا (تكريسها أيضا نتاج هيمنة و"تصنيع"..). لا يكفي أن ننفي الخصوصية أو نندد بها، ينبغي أن ننتج تحليلا عاما بشأنها. والخلاصة أن الخصوصيات (والعموميات) صنائع وليست طبائع. وصفتها الصنعية لا تجعلها أقل إضعافا لعقلانية السياسة العملية، أو أدنى تعارضا مع عقلنة المعرفة للسياسة. "الطبيعة" ذاتها مخلوق ثقافي، نتاج للهيمنة. في المحصلة، تتكون خريطة "خصوصية"، يشارك في رسم معالمها (1) إسلاميون انعزاليون صراحة، (2) قوميون يشاركون الإسلاميون مركزيتهم الذاتية وانعزاليتهم، لكن بوسائل أخرى، و(3) منسوبون إلى "الحداثة" و"العلمانية" و"التنوير" من موقع استهلاكها لا إنتاجها. ومفعولها الدائم إنكار شخصية أو استقلال الوقائع الاجتماعية والسياسية، وإذابتها في مخطط عام تجريدي، "ميتافيزيقي" بحق، يحصل أن يسمى "الهوية" أو "الأصالة" أو "الإسلام"، أو أيضا "الكونية" أو "الحداثة".. وفي الحالين تتعطل إمكانية قيام معرفة اعتراضية ومبادرة، تنتج موضوعها ومنهجها وأدواتها. يكفي أن نتنبه كم هي شائعة وأساسية المدركات التي ذكرنا للتو في مداولاتنا، مدركات قد تكون أبرز خصائصها أنه ليس لها معنى محدد.
"التشكيلة التآمرية" عقيدة المؤامرة شائعة أيضا. عند القوميين والإسلاميين، وعند الحكومات. وعند جمهور شعبي واسع يدين بمعرفته السياسية إلى وسائل الإعلام الجماهيرية، الأقنية الفضائية بخاصة. يناسب الجميع الاعتقاد بالمؤامرة وتفسير العالم بها. بيد أن المؤامرة موجودة فعلا. بدلا من السخرية السهلة من "نظرية المؤامرة"، يتعين أن ننتبه إلى أن لها نواة عقلانية كبيرة: التدويل العميق للمنطقة العربية وتبعية نظم كثيرة حاكمة فيها لقوى وأقطاب دوليين؛ وحرص نظم الحكم على البقاء الأبدي، واستنادها من ثم لهياكل أمنية سرية، محلية وأجنبية، وإلى حمايات أجنبية أكثرها محجوب لا نعلم عنه شيئا؛ والمصلحة الإسرائيلية الثابتة في اختراق الدول العربية والتأثير على سياساتها، والاختراق محقق في غير حالة، وسري دوما طبعا؛ والمال الريعي الوفير الذي يغري باستتباع "ذوات" الحكم أو الحد من أية نوازع استقلالية ممكنة في دول المنطقة؛ وكثرة أصابع أجهزة الأمن المحلية والأجهزة الإقليمية والدولية، فضلا عن سرية الدول (الأجهزة والحكام) وحذرها من السجلات المكتوبة، وامتناعها عن كشف سجلاتها بعد حين من الزمن؛ فضلا أيضا عن اللقاء الميسور بين "التخرجات الداخلية" (طوائف وعشائر وإثنيات ميالة إلى التنازع والكيد ومضعِفة لعقلانية السياسة..) والتدخلات الخارجية. كل هذه العناصر، ما نسميه "البنية التحتية" التآمرية، إما غير مرئية من عموم المتابعين السياسيين، ومن "علماء السياسية" وأنبه مراقبيها، أو لا يبنى عليها مقتضاها: إن عالم السياسة عندنا يغرق في السر. عالم محجوب، محاط بظلمات كثيفة، لا سبيل لاكتناه ما ورائها من عموم الناس ولا من الدارسين والمراقبين الذين يصدرون عن افتراضات عامة حول الدولة والسياسة والطبيعة الإنسانية. وخفائه وسريته يجعلان التنبؤ السياسي مستحيلا، والعقلنة السياسية ممتنعة. قد يستدل المرء استدلالا منطقيا من مراقبة السياسات أن هناك مؤثرات خفية توجهها وجهات مستغربة من وجهة نظر منطق الدولة الوطنية، ويتواتر أن تكون متعارضة مع المصلحة الوطنية للدولة ومع الأمن الوطني، وحتى مع المصالح المستنيرة لـ"الذوات". لكن الاستدلال لا يغني عن المعرفة اليقينية شيئا. وتأثير عامل المؤامرة بالمعنى المذكور هنا ربما يفسر طابع السرية والكتامة الذي يلفّع الدول وسياساتها، وكذلك التفاوت أو حتى التناقض التام بين السياسة المعلنة للدولة وسياستها الحقيقية. تجاهل هذا العامل لا يدل على حصافة فكرية أو سياسية في رأينا. ثمة كثافة في الألعاب الخفية والمؤثرات غير المرئية في سياسة دولنا، تجعلنا نتخبط في الظلام حين نكتفي بالمرئي ونحن نكتب وندرس ونحلل. ولعل من أهم آثارها أنها تجعل معرفتنا السياسية بلا تاريخ. من منا يُسَرُّ، وهو يقرأ ما كتبه هو قبل عشرة أعوام أو عشرين عاما عن "السياسة"؟ الأرجح أن هذه التجربة مُحرِجة، بل محرَقة. وفي الواقع هي الباعث على التأملات المسطورة هنا. ما هو عقلاني في فرضية "المؤامرة" هو تحسس ذلك التأثير الكبير المحجوب. هذا لا يسوّغ نظرية المؤامرة بحال. لماذا؟ لأن هذه ضرب من دوغما، تجعل من عنصر التآمر عاملا يقينيا واضحا مفسرا لكل شيء؛ لأنها تلجأ إلى افتراض (بل إلى الجزم بوجود) لعبة كبرى، كلية الخفاء، ورائها عقل قدير عليم مستور، متماثل مع ذاته دوما، يحرك كل خيوط السياسة وفق بروتوكولات حكيمة خفية، ويرد اللاعبين السياسيين إلى دمى ملعوب بها. هذا غير صحيح. عنصر المؤامرة ليس عاملا واضحا ومتماثلا مع ذاته دوما، وليس ثمة عقل خفي كلي يلعب من وراء الستار. هناك أفعال تآمر متنوعة، نثرية، عقلانية، وليست غامضة إلا لأنها محجوبة عن الأنظار بحرص (لكن يحصل أن ينكشف بعضها، وأن يمكن تقدير بعضها، وأن ينقلب سحر بعضها على سحرتها)، يتواطأ فيها لاعبون متعددون ضمن أوضاع واقعية معطاة. وهناك بنية تحتية تآمرية ميزنا بعض ملامحها، تمثل النواة العقلانية في نظرية المؤامرة. مفارقة نظرية المؤامرة أنها نظرية واضحة جدا فيما هو غامض ومحجوب، ومتيقنة جدا مما هو مريب. هي نظرية صحيحة قبليا. لذلك خاطئة. ولعل النظرية وثيقة هذه الصلة بالقومية والسياسة القومية والنظرة القومية إلى العالم عموما. فالقوميات تنزع إلى تصور العالم كـ"شخصيات" قومية، أي إلى إضفاء الشخصنة والإغراض والإرادة والوعي على الأمم والدول وعلى العلاقات بينها. وهذا ما تقوم عليه نظرية المؤامرة: إحلال الأشخاص محل العلاقات، والإغراض محل اختلالات التوازن وسوء السياسة، والأسرار محل مفاعيل النظرة القومية إلى العالم والعالم ذاته كنظام دول قومية. لا ننسى أن عصر القوميات هو عصر الدبلوماسية السرية الذي لما ينقض رغم التنديد العام بها. على أن الفرق المهم بين أفعال التآمر والبنية التآمرية وبين نظرية المؤامرة أن هذه "مصنوعة" على نحو ما الخصوصية مصنوعة، أو لنقل إنها هي ذاتها "مؤامرة"، تصنعها هياكل سياسية وثقافية حفظا لنفسها وضمانا لدوامها وهيمنتها. إبطال نظرية المؤامرة يقتضي كشف السياسة ونزع حجبها، فتحها للجمهور العام. في دول سرية، "مشخصنة"، يحكمها رجال غير منتخبين، وتسيطر فيها أجهزة سرية، ولا يعلن شيء من تفاهمات حكامها مع جهات أجنبية نافذة، ولا تفتح سجلاتها للعموم أبدا، كيف نفكر في السياسة كما يفكر فيها الغربيون؟ إن دولهم الديمقراطية هي الأطر الاجتماعية لعلمهم السياسي، واستبعادهم المبدئي لنظرية المؤامرة منقوش في البنية الوطنية (القومية) العامة للدولة والمجتمع، وفي كون السياسيين وكلاء للأمة، لا مصالح لهم متعارضة مع مصالحها. هذا ليس حالنا. دولنا عكس دولهم معتمة حيال الداخل، سرية ومحجوبة؛ ويتواتر أن تكون مكشوفة، كأنها كتاب مفتوح، للخارج. لذلك يبقى نقد نظرية المؤامرة لدينا غير مؤثر، بقدر ما هو يقصر عن بلورة مفهوم أوضح للبنية التحتية التآمرية، ويربطها بالتدويل والاستبداد، ويفكر في "البنية الفوقية"، أعني نظرية المؤامرة نفسها، كصناعة، تحرِّكها أساسا إرادة السلطة. وخلاصة الأمر أن التشكيلة التآمرية (وحدة البنيتين التحتية والفوقية، إن تكلمنا بلغة "المادية التاريخية") تحكم على معرفتنا السياسية بالسطحية والسذاجة وضآلة المردود. وما قد يكون منطلقا لمعرفة سياسية صلبة هي الفصل بين أفعال وبنى التآمر "العلمانية" و"نظرية المؤامرة" الميتافيزيقية. ليس لنقد نظرية المؤامرة أن يمنع عنا التنبه إلى وفرة أفعال التآمر في منطقتنا، وليس لتبين هذه الأفعال أن يسوغ تلك النظرية الكسول والمريضة. محصلة عامة وكمحصلة عامة، لدينا ثلاثة عناصر كبرى تحكم على علمنا السياسي باختلاط مريع: إنكار الدولة، الخصوصية وصناعتها، التشكيلة التآمرية. العلم مختلط لأن العالم مزيف بشدة. غياب الدولة يؤدي إلى رد السياسة إلى الصراع على السلطة، وبين هذه والسياسوية نسب أكيد. والسياسوية نظرة إلى المجتمع تختزله إلى أقوال السياسيين وأفعالهم وحرتقاتهم. وفي أي من صيغتيها تحيل الخصوصية إلى الثقافوية، أي اعتبار المجتمع ثقافة أو "روحا"، فيكون حال العلم به أشبه بحال "علم النفس" قبل فرويد والتحليل النفسي. وللتشكيلة التآمرية مفعول يحاكي مفعول الإيمان بعالم من الجن والأشباح والعفاريت غير المرئية، كل شيء ممكن فيه إلا معرفة منهجية. هذا عالم مفرط السيولة، سياسوي كله صراع، وثقافوي كله أرواح، ومؤامرة كلها شياطين. الله وحده يمكن أن يعلم أي شيء عنه. أين الغريب، إذاً، في أن الله متوفر جدا في هذا العالم؟ فإن كان ما قلناه قريبا من الصواب، على ما نرجح، استوجب تحرير المعرفة السياسية إقرار الدولة، دولنا القائمة، أو عقد سلم حقيقي معها؛ وإبطال الخصوصية، أعني نقدها كذهنية وتعطيلها كصنعة؛ وتفكيك التشكيلة التآمرية بالمزج بين نقد نظرية المؤامرة وتقويض بنيتها التحتية.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماذا يعني مفهوم الحريات الاجتماعية؟
-
موقع -الديني السياسي- في وثيقتين معارضتين سوريتين
-
من خرافة سياسية إلى أخرى..
-
عودة إلى مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري
-
-الحل- غير موجود... أين هو؟
-
في بئري الدين والدولة
-
في شأن الديمقراطية والإصلاح السياسي... سيرة استهلاك إيديولوج
...
-
الطائفية والأحوال الشخصية في سورية
-
عالم السادة الرجال -المسلمين- وما وراءه
-
بحثا عن توازنات جديدة.. إيران تتحرك!
-
تساؤلات بصدد السياق السياسي والمؤسسي لمشروع قانون الأحوال ال
...
-
نتنياهو، كيف حصلنا عليه؟ وأي سلم يتحصل منه؟
-
ما معنى البقاء في السلطة إلى الأبد؟
-
الكثير الذي فات خطابك يا أخ أوباما!
-
هذه أو هذه وإلا فتلك: عقائد الحتمية في السياسة السورية
-
نظرات في اللوحة الإيديولوجية العربية السائدة
-
العلمانية والقومية والامبريالية.. أسئلة مفتوحة
-
نظريتان في الطائفية.. بلا نظر
-
الكتابة العمومية كسياسة كتابة
-
نظرية الحتمية الثقافية في الثقافة السورية مقالة ضد العناد
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|