أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أبو الحسن سلام - ديموقراطية اليونان بين الفلسفة والسياسة والمسرح















المزيد.....


ديموقراطية اليونان بين الفلسفة والسياسة والمسرح


أبو الحسن سلام

الحوار المتمدن-العدد: 2720 - 2009 / 7 / 27 - 10:37
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مع مابين النظرة التأملية لواقع الممارسة السياسية في مجتمع اليونان القديم في تعارضها الحاد الذي كان الأقرب إلى حالة انفصام الفكر الفلسفي عن الواقع السياسي المعيش على أرض الواقع الاجتماعي ، إلاّ أن تلك النظرة إلى الممارسة الفعلية تبدو منسجمة مع النظرة الأفقية الاستعادية في استقرائنا للتعارضات الحادة فيما بين المدارس الفلسفية اليونانية التي سادت القرن الخامس ق.م ، مابين سوفسطائية وذرية وفيزيائية وروحانيين وشكيين وأصحاب منطق القوة ومابين دعاة أوليجاركية ( حكم رجال المال) ودعاة حكم ( أوتوقراطي) ديني ، ودعاة إلحاد وكلبيين دعاة عالمية المواطنة ؛ دارت رحى النقاش في بلاد اليونان واشتعلت نيرانها في القرن الخامس - بعد إنتهاء الحروب الفارسية متوجة بانتصار اليونان – فيما بين حواريات متزنة ومناقاشات سوفسطائية وجدلية تخلط الحق بالباطل وتزيف الحقائق . على أن ذلك الذي جري في مجتمع اليونان بعد الحرب لم يكن خارجا عن النزعة الطبيعية للفكر اليوناني القديم إذ " كانت النزعة الطبيعية للفكر اليوناني القديم هي قبول نظام الدولة والنظم التي تنفذها دون اعتراض أو مناقشة "( راجع أرنست باركر ، النظرية السياسية عند اليونان، ترجمة لويس اسكندر، سلسلة الألف كتاب(566 ) القاهرة ، وزارة التعليم العالي ، نشر مؤسسة سجل العرب 1966 نص 111) فالإنسان يعيش في حلقة سحرية من القانون والعادة ، بينما الدنيا بأسرها لا قانون لها . حتى تمكن المفكر ( أنا كسيماندر) من محاولة إدخال النظام في العالم الطبيعي بأن بيّن أن هذا العالم يخضع لمبدأ العدالة . في كل تغيراته ، وبذلك انتزع حجة من القانون الإنساني الذي هو حقيقة لا شك فيها ، تؤيد ما ذهب إليه من احتمال وجود قانون لهذا العالم . وعندما تبين الناس أن في هذا العالم قانونا ، كان من الطبيعي أن يستخدموه لتوضيح القانون الإنساني وتأييده. من حيث مماثلته لقانون الطبيعة ويساويه في الفاعلية. إلاّ أن الأحوال تغيرت مع تغير الشرائع والعادات والقيم والقوانين ، مع تعارضها ، إذ سّن ( سولون) قوانين ل( أثينا) ووضع ( كارونداس) قوانين ل ( كاتانا) ، وشغل المفكرون بمشكلة الإنسان وما يتعارض بين الطبيعة كجوهر دائم والقانون أو العرف المتغير . فبينما نادي الفلاسفة الأيونيين بين الأساس الطبيعي للفرد الدائم والمظاهر الطبيعية الكثيرة المتغيّرة في هذا العالم المتطور في أثينا في القرن الخامس ق.م ،" اندفع الناس إلى الأمام بعد الحروب الفارسية ، يملأ صدورهم الزهو بما حققوه من أعمال ؛ فاعتبروا كل أنواع المعرفة ميدانا يصولون فيه ويجولون دون تفرقة بين هذا وذاك ، بل ذهبوا ينشدون الأوسع والأوسع من الدراسات" – حسبما يقول أرسطو- ( كتاب السياسة: 1341 ، 301 – 32 )
وإلى جانب تلك المواجهات الفكرية والفلسفية التي نشبت بين الفلاسفة والمفكرين في تعارضاتها ، بما يكشف عن صحة الحياة الديموقراطية الفكرية، كانت العلاقات الاجتماعية منفصمة فيما بين ديموقراطية الحياة الفكرية والممارسة الطبقية فيما بين مجتمع السادة الرجال الأحرار وطبقة العبيد من ناحية ثانية ، فضلا عن غياب المواطنة عن مجتمع النساء. أما الديموقراطية فقد تميزت " بخاصتين أساسيتين أولاهما: أنها كانت ديموقراطية مباشرة ، أي أن الشعب يشترك إشتراكا مباشرا في حكم نفسه عن طريق الجمعية : Assembly
وباليونانية Ecelesia . كان حق الدخول إلى الجمعية والاشتراك في المناقشات مباحا لجميع أفراد الشعب الذين تتوافر فيهم الشروط التي تتوافر عادة فيمن يباشرون حقوقهم السياسية ، حيث لا يكون أجنبيا ، ويكون من الرجال الأحرار دون العبيد." ( عبد الفتاح حسنين العدوى، الديمقراطية وفكرة الدولة ،سلسلة اللف كتاب(532 ) القاهرة وزارة التعليم العالي، ط.دار الاتحاد العربي للطباعة د/ت) فالديمقراطية ومبدأ المشاركة الجماعية في الحكم للرجال الأحرار دون غيرهم والعبودية للفقراء العمال والفلاحين والأجراء ، ولا مجال للمشاركة السياسية للنساء !! فهو مجتمع ديموقراطي فكري مقصور على أحرار الرجال وعبودى الممارسة الاجتماعية اليومية لغير أولئك الرجال الأحرار؛ وذلك هو وجه الانفصام في المجتمع اليوناني القديم.

وهو الأمر الذي يقف أمامه الباحث متحيرا في مواجهة ذلك التناقض البيّن ببن ممارسة فكرية متحضرة ، مع عبودية الممارسة الواقعية الفعلية ، حيث حالة الانفصام السياسي الاجتماعي والاقتصادي التي يعيشها المجتمع اليوناني القديم بين الوهج التحرري في التفكير وإعمال الذهن إعلاء للغة الحوار بإخضاع المسائل الوجودية الجوهرية للمناقشات المستفيضة العلنية وشبه العلنية في الساحات والمنتديات وفي الجمعية وفي الأسواق وفي دار القضاء ؛ شدّا وجذبا بين أطراف مؤيدة وأخرى معارضة ، يتخذ بعضها هيئة الجدل المشائى والمحاورات المكتوبة والخطب السياسية والخطب المعدة للدفاع أمام القضاء عند عرض قضايا سياسية ، كتلك التي عقدت لمحاكمة ثيوكيديس وأنتيفون الأوليجاركي خطيب ثورة الأربعمائة في عام 411 ضد نظام الدولة – وهو حسب د. جرنفل غير أنتيفون السفسطائي -
ومن دلائل انفصام الممارسة الفكرية الديموقراطية لأحرار الرجال في اليونان، ما مارسه نظام الحكم من إرهاب ضد ثيوكيديس مفجر ثورة 411 ورفيقه أنتيفون الأوليجاركي بعد اتهامهما والحكم عليهما بالإعدام وتنفيذه ، رفض النظام دفن جثة أنتيفون، خطيب مجلسها البارع ، ليس هذا فحسب ، بل رفض دفن جثمانه في أي أرض لبلد صديق لأيثاكي ، ولم تكتف الحكومة بذلك أيضا بل صادرت ممتلكاتهما ، وشردت أولاهما و أحفادهما وحرمتهم من ممارسة حقوق المواطنة ومن المميزات. وكلها إجراءات لا تتماشي مع فكرة الديموقراطية. ومرد هذا الانفصام فيما ىبين مسار الديموقراطي الفكري والمسار الحياتي على أرض الواقع الاجتماعي ، راجع إلى طبيعة النظام السائد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا في كل المجتمعات في العالم القديم ، حيث يشكل العبيد والنساء وسائل إنتاج رائجة في سوق النخاسة ، تدر عوائد مالية إلى جانب فيء الأرض من المحاصيل الزراعية والمعادن المستخرجة من الجبال والمناجم ، وكلها تشكل طبيعة الاقتصاد الريعى الذي ساد مجتمعات العبودية والمجتمعات الإقطاعية . وقد تكفلت التراجيديا اليونانية بتصوير طبيعة العلاقة بين الطبقات في تلك العصور القديمة ، ودور الكهنة وسدنة المعابد في مساندة الملوك والأغنياء ، بوصفها ذلك الفن الراقي الذي اقتصر علي تصوير نبل أفراد الطبقة الحاكمة وسدنتها ، في حين خص الفقراء والعبيد بلون مسرحي يتناسب مع دناءتهم وتدني منزلتهم الاجتماعية أو الإنسانية بالأحرى.
وفضلا عن ذلك فإن اقتصار التفكير أو حصره في مسارات الفلسفة الكلاسيكية على المجردات المتصلة بقضايا الوجود والمعرفة ، والعلاقة فيما بين قوانين الطبيعة وقوانين المدينة والأنا العليا والأنا الصغرى ، والوجود الدنيوي والوجود الأخروي ، والثنائية المشتركة بينهما ، فضلا عن فكرة الثنائيات حيث لكل شيء نقيضه ؛ كالحياة والموت أو الوجود الأول والوجود الثاني والسعادة والحزن والألم واللذة والألم والمرض والألم والموت والجسد والروح أو المادة والروح ، والعقل والإرادة، والإرادة والقوة والعقل والعاطفة ، والحرية والالتزام ، والجمال والقبح ، والحرية والعبودية. فهذه الثنائية في الممارسات الفكرية التي قامت على وجود الشيء وضده ، عكست نفسها أو أن ظلالها على الأصح ، عكست نفسها على الحياة الفكرية الفلسفية في بلاد اليونان ، من واقع ممارساتهم الاقتصادية في تدوير عوائد ها الريعية ، حيث ثنائية الأحرار والعبيد باعتبار الأحرار ملاكا للعبيد وللنساء وللأرض ولآليات السوق والتجارة وباعتبار العبيد وسائل إنتاج تباع وتشترى وتعمل بالسخرة. ومع أن صبغة التناقض بين حرية التفكير وحرية تدوير وسائل الإنتاج ( العبيد) إلاّ أن كونه تناقضا جوهريا من حيث اتساع الهوة بين الممارستين ، لم يتحول في بلاد اليونان ، إلى ثورة للعبيد على نحو ما حدث مع الإمبراطورية الرومانية ؛ ذلك أن ممارسات السيادة اليونانية لطبقة الملاك لم تكن ممارسات حادة مع مجتمع العبيد ، ولم تكن قائمة على المواجهات بين الملاك والعبيد . وفي ذلك يقول جوزيف فوجت:" إذا أدركنا حدود اتجاه بلاد الإغريق الإنساني في الفترة الكلاسيكية، فلن يؤدي ذلك بنا إلى نقد الإغريق ، ولا إلى إيجاد عذر لهم على موقفهم من نظام العبودية. إن أولئك الذين يؤمنون أن العبودية نظام طبيعي تماما يعجبون بالإغريق لأنهم عاملوا عبيدهم بشكل ليبرالي عموما ." ( جوزيف فوجت ، نظام العبودية القديم والنموذج المثالي للإنسان، القاهرة ، المجلس الأعلى للثقافة ، المشروع القومي للترجمة(122 ) 1999 ص30 )
ومع أن" فوجت" نفسه ، يبرر ذلك التناقض بين الممارستين حرية التفكير في ممارسات السادة الأحرار وحريتهم غي استعباد ثلاث الأرباع الأدنى من المجتمع الإغريقي ، منعا لقياس حضارتهم بحضارات أخرى ، إلاّ أن واقع الأمر في المجتمعات القديمة ذات الحضارة كان واقعا قائما علي ثنائية السادة الأحرار الذين يتسق تفكيره وثقافتهم مع ممارساتهم الاجتماعية والاقتصادية مع مجتمع العبيد في بلادهم بوصفهم ملاكا لوسائل إنتاج وسلعة اقتصادية يتم تداولها بيعا وشراء ، بمعني أنها كانت مجتمعات غير منفصمة بين فكرها الطبقي وممارساتها الاقتصادية والاجتماعية . وهذا هو وده الاختلاف بين المجتمعات العبودية القديمة ومجتمع اليونان الديموقراطي العبودى في آن. كانت مصر الفرعونية ومصر المتعاقبة النظم حتي عصر توفيق دولة إقطاعية ، وكانت الصين وبابل والهند وآشور وفينيقيا ذات نظم عبودية ، ولم يمنع ذلك حمورابي من أن يستن لبابل أول قانون عرفته الإنسانية ، دون أن يشكل نظام من نظم تلك البلاد لونا من ألوان الانفصام بين فكرها الرسمي الذي تستظل به طبقتها الحاكمة وممارساتها الاجتماعية والاقتصادية ، ولربما ظهر مثل ذلك الانفصام بين فكر الإمبراطورية الرومانية وممارساتها الاجتماعية والاقتصادية ضد أبناء مستعمراتها ، حيث قصرت مظلتها القانونية – قانون كاركاللا – على مواطنيها. كانت العبودية مرحلة تاريخية في حياة الأمم القديمة والوسيطة التي ارتقت إلى مرحلة الإقطاع غير أن حالة الانفصام المشار إليها لم تكن في أمة من الأمم القديمة على النحو من التعايش السلمي شبه الرسمي الذي كانت عليه الأمة اليونانية القديمة ، وهذا هو مناط دهشتي من قناعة الفلسفة اليونانية نفسها بصحة ذلك الوضع الانفصامي بين حرية التفكير وتعالي الفكر نفسه عن الواقع المادي لممارسات المفكر الفيلسوف ، وهو الأمر الذي يجسده قول هيراكليديس البونتيHeraclides Pontious أحد أتباع أفلاطون باقتناع الحاكم الفيلسوف:" إن السعادة والحياة الطيبة مكفولة للرجال الأحرار ، لأن ذلك يرقّي الروح ويرفعها. أما العمل فيكون للعبيد والطبقات الأدنى، ولهذا فإن شخصياتهم تتدهور." وأنا هنا لم اقتنع بوجهة نظر فوجت الذي انتهى إلى القول:" لقد كانت العبودية وما يصاحبها من ضياع الإنسانية جزءا من التضحية التي يجب القيام بها من اجل هذا الإنجاز " ( فوجت ، مرجع سابق،ص 30) وهو يقصد تضحية السادة الإغريق بالعبيد الإغريق، حيث يؤكد قوله السابق فيقول: " لن نغفل حقيقة ان كل إنسان منتج في البلدان الصناعية اليوم يكون مسؤولا عن إحدى الماكينات وهو ما يعني أنه مسؤول عن عدّة عشرات من العبيد الآليين غير المرئيين." فالإنسان العبد آلة إذن وفق رأي فوجت. لقد ألغيت آدميته!! هل هذا تفكير سوي ؟! الإنسان العبد ليس إنسانا هو آلة ، وسيلة إنتاج مملوكة للرجال الأحرار النبلاء . وهل تغير هذا المفهوم في عصرنا ومجتمعاتنا الحديثة والمعاصرة عنه في المجتمع القديم ، يوناني وفرعوني وبابلي آشوري وفينيقي أو هندي أو صيني؟! فمازال الأجراء والعمال يبيعون قوة عملهم لرأسمالي الملاك باقل القليل الذي لا يعادل 5% أو 10% من قوة عملهم، مازال فائض قيمة عملهم نهبا للسيد الرأسمالي. وتبرير ذلك عند السيد فوجت:" ممارسات النبلاء الأحرار المادية حيث " تطلّب أن يتمتع الإنسان بحياة كاملة ونشيطة حتى على حساب الآخرين . وأيضا على أساس طريقة التفكير التي تنظر للقوة باعتبارها وسيلة عاقلة لتحقيق النظام" ( المرجع السابق نفسه) وهو يضيف مؤكدا وجهة نظره تلك " لقد كان نظام العبودية ضروريا لتوفير هذه الرغبة السياسية للحياة وكذلك لكي يكرس الإنسان نفسه للعبادات الروحية." هل هناك شك في وجود حالة انفصام بين التوجهات الفكرية الديموقراطية والممارسات المادية لتكريس فكرة العبودية على غالبية المجتمع اليوناني؟ وهل هناك شك في أن فلسفة القوة التي تبناها ( كاليكليس) و( اكسينفون) تلميذ سقراط وزميل أفلاطون في تلمذتهما على سقراط ، وكانا متحيزين ضد الديموقراطية الإثينية ، فضلا عن رأي اكسينفون في ضرورة أن تكون الدولة كالجيش تقوم على نظام محكم من الرتب وتقسيم سليم للعمل . كما كان ذلك رأي( أبوقراط) أيضا مبنيا على فلسفة القوة أيضا . وهذا ما تبنته فلسفة نيتشه في العصر الحديث ، إذ نراه يقول:
" ما الضمير إلاّ كلمة يلوكها الجبناء ،
ابتكرت أول ما ابتكرت اردع الأقوياء .
فلتكن أذرعتنا القوية هي ضميرنا"
وقد انتشرت بعد نيتشه كانتشار النار في الهشيم فأنتجت فكر الحداثة وما بعد الحداثة في الواقع المعاصر.هذا ما يرى فيه" فوجت" صحة الفكر الفلسفي اليوناني لأكسينفون وكاليكليس وأبقراط ، دعاة فلسفة القوة إلى جانب فكر أفلاطون وكلهم تلاميذ سقراط حيث أن استعباد السادة الأقوياء الأحرار للمستضعفين وقهرهم ضروري لتمكين السادة أنفسهم بوصف عملهم في استعباد الأغلبية ( وسيلة عاقلة لتحقيق النظام) وتمكينهم من ( تكريس أنفسهم للعبادات الروحية) كما لو كانت العبادة الروحية لا تتحقق للسادة الرجال الأحرار دون العبيد ، ودون النساء ؛إلاّ مسبوقة بطقوس استعباد السادة الأحرار المتعبدين روحيا لغالبية شعوبهم رجالا ونساء !! هل هذا تفكير منطقي متزن أم أنه حالة انفصام اجتماعي فكري مرضي / مجتمع مصاب بالشيزوفرينيا!! إنه انفصام بين آلة الفكر الفلسفي التي تقود المجتمع وممارساته المادية
وهل هناك ذرة شك في أن الفكر الفلسفي لسقراط وأفلاطون من بعده كانت قاعدة الفكر السياسي للأوتوقراطية ونحن نراه يقول في كتابه (السياسي Politicus في الفقرة التي يتحدث فيها عن سقراط بعد إعدامه عام 299 ق.م " إن أي رجل ينادي بسيادة الحكمة في أي فن ، وانها فوق حرفية القانون ، لابد من أن يكون موضع إدانة ، وأن يحكم عليه بالإعدام على أساس أنه يفسد الشباب ، باستمالتهم إلى محاولة إقامة حكومة أوتوقراطية." كما أنه رأي في ( الجمهورية) أن الموسيقي والرسم والتمثيل فنون تعلم الميوعة وتبثها في الشباب. وهل كانت تلك سوي تنظيرات داعية للحكم الأوتوقراطي ، ولا ننس أن أستاذه سقراط الذي تحول عن الفلسفة الفيزيائية أي من البحث عن الكيفية التي صنعت بها الأشياء إلى البحث عن الباعث على وجودها وصولا إلى السبب النهائي للأشياء ، وصولا إلى البحث عن مهبط الوحي في دلفى . وهكذا رأى نفسه مكلفا من إله دلفى برسالة ضد من رأى أنهم أدعياء العلم ، وتحوله عن عبادة الدولة الرسمية إلى عبادة مضادة لها ، مما اتهم معه بتهمتين إحداهما دينية ، والأخرى أخلاقية ، وهي إفساد الشباب. ، لأنه( وضع الحكمة فوق القانون) . ÷كذا أثر سقراط في الفكر الفلسفي لمجنمع القرن الخامس وما بعده ، فشاعت على أيدي تلامذته الفلسفة السوفسطائية ، عند جورجياس ، وفيدون ، وأنتيفون السوفسطائي وبروديكس فيلسوف الكلبية التي تبنت فكرة عالمية المواطنة ، مما جعل أفلاطون يكتب عنه في( محاورة بروتاجوراس)ويصوره رجلا يعتبر الناس جميعا " زملاء مواطنين بحكم الطبيعة" وقد كان بروديكيس هذا ينادي في نهاية القرن الخامس بمبدأ العالمية ، وكانت عالميته هو وأصحاب تلك الدعوة ومنهم أنتيفون السوفسطائي مختلفة عن عالمية الرواقيين ذات الطابع السلبي ، حيث كانت كراهيتهم كيكروبس أكثر من حبهم لمدينة زيوس" ( أرنست باركر ،النظرية السياسية عند اليونان ج1 نفسه ص189 ) ومن صفات فلاسفة الكلبية أن " الفيلسوف الكلبي مكتف بنفسه ، ولا يعتمد على أي شيء سوي ذاته، وتستوي في نظره كل الأمور ، أما الدولة ، فهي في اعتباره شيء لا يحمل معني" ( المرجع السابق نفسه ، ص190 ) ومن أقوال فلاسفة الكلبية:
" لماذا أفخر بالانتماء إلى أرض "أتيكا" شأني شأن الديدان والحشرات التي تهلك النبت." وهم في عدم اعترافهم بأية مواطنة غير المواطنة العالمية ، أشبه بهم جماعات الإخوان المسلمين ، إذ لأن دعوتهم عالمية ، كما أنهم لا يؤمنون بالإنتماء لغير الدين الإسلامي وفق رؤيتهم التأويلية ، ويتطابق تصريح مرشدهم الأخير مع فكرة إزدراء الوطن ، فكل بلاد العالم هي وطنه ،وهو يعمل وإخوانه على مواطنة عالمية إسلامية . وهي دعوة جسدتها غزوات الإسكندر الأكبر منذ فجر التاريخ في عام 323 قزم ، وهو الأمر الذي جعل المؤرخ القديم بلوتارخوس بنسب الإسكندر الأكبر إلى العالمية فيقول: " إن إقامة الإسكندر لإمبراطوريته العالمية إنما تدل على استيعابه للمثل الأعلى الكلبي في ناحية السياسة."( مقتبس في المرجع نفسه ص190 ) ولا ننس أن معلمه كان أرسطو.
لقد دار المسرحيون الأغارقة مع الفكر الفلسفي دورات متعددة ومتنوعة تنوع الفلسفات ومساراتها، فهذا أرستوفانيس في ( برلمان النساء) يقف موقفا عدائيا ضد فكرة النظام الشيوعي التي سادت إسبرطة التي هزمت دولته أو مدينته الدولة ( إيثاكي) شر هزيمة مما جعله يهيل التراب على الرجال في بلده ويشوه صورة الشيوعية ، ويتهمها بالشيوع الجنسي خوفا مما سيلحق بثرواته وهو من أغني الرجال العشرة في وطنه ، وهو نفسه يقف للفلسفة السقراطية في مرحلتها الأولى ( السوفسطائية) في مسرحية (السحب) ثم هاهو يبدع ( الضفادع) كسبا لفكرة المثوبة والعقوبة في العالم الآخر( هاديس) فيرفع منه ( أسيخيلوس) ويترك ( يوريبيديس) إذ يهبط إله الربيع ( ديونيزوس) ليأتي بيوريبيديس إلى عالم الأحياء بعد موته تقديرا لإنتاجه المسرحي فإذا به يصعد بإسيخلوس وهو المعروف بميوله القوية نحو الآلهة ، بينما يترك يوربيديس الذي ميله نحو المجتمع وإرادة الإنسان بوصفه صاحب فعله ، لا الآلهة مما يكشف عن ميل أرستوفانيس نفسه ميلا انحيازيا نحو مناصري طبقته العليا المستحوذة على كل الثروات في إيثاكي ولا نذهب بعيدا في هذا الشأن إذا رأينا سوفوكليس نفسه وكذلك إسيخلوس يعالجان مواقف من حياة الملوك وأبناء الملوك في صور النبل السرمدي من الميلاد إلى المعاد ,هي لا شك نظرة طبقية ، حيث التفريق الأرسطي بين الكوميديا بصفتها صورة لدناءة الطبقات الدنيا والتراجيديا صورة لنبل سرمدي للملوك والأمراء والنبلاء . ومن العجيب أن نرى كل النقاد والباحثين في الفن المسرحي ينظرون على نظرية أرسطو في الفصل بين النوعين ( التراجيديا والكوميديا) مما ينسب ذلك الرأي إلى فكرة الفصل بين الشكل والمضمون ، تلك القضية النقدية القديمة المتجددة بين فترة وأخرى.حتى فكرة الديموقراطية التي يفسر بها بعض النقاد موقف أنتيجوني من خالها الحاكم (كريون) وتمردها على قراره بدفن أخيها بولينكس وترك جثة إتيوكلس أخيها القاتل و القتيل الآخر كل بيد أخيه ؛ فإن التحليل المتمعن لخطابها الدرامي سيكتشف أن غضبة أنتيجوني لم تكت سوى غضبة دينية ، إذ أن كل ما كان يهمها من الأمر هو إقامة شعيرة الدفن تأكيدا للفكرة الدينية( من التراب وإلى التراب) ولم تكن لوقفتها المتمردة أية علاقة بفكرة الديموقراطية ، ولو كان الأمر متعلقا بالديموقراطية حتى وفق ممارستها في إطار طبقة النبلاء والأحرار دون العبيد على نحو ما أوضحنا لما كان خالها الحاكم كريون قد أعدمها. كانت الممارسة الديموقراطية إذن عند اليونان مقصورة على طبقة النبلاء ، مما يؤكد حالة انفصام الفكر عند أمة اليونان عن الممارسة ، في السياسة وفي الواقع الحياتي المعيش وفي فنون التعبير المسرحي الذي برزوا فيه على الأمم القديمة كلها ، وفرض نفسه تعبيرا ساميا عن الإنسان تاريخا وحيوات ذاوات إرادات ومشاعر متعارضة وفي حالة دائمة من الصراع المتدرج تصاعدا وسكونا ووثوبا وتحايلافي صور ممتعة مقنعة في آن واحد ، وقد كان المسرح هبة اليونان لإنسانية كلها على مر الأزمان.



#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مونودراما ( مذكرات شمعة)
- الدين والدولة
- المبدعون وآفة سوء فهم الناقد
- التطوير الجامعي والقفز على الواقع المعيش
- في انتظار أوباما .. في انتظار جودو
- المثاقفة والتناص (تطبيقات في النقد الفني والمسرحي)
- التنسيق الحضاري وسور السياسات العظيم
- القرد في عين أمه
- الإنتاج المسرحي في عصر العولمة
- القرد .. هدية مصرية للعمال في عيدهم
- دفاعا عن الوطن
- في ذكرى كادح مسرحي مات مغتربا
- تكوين رأي عام بوسيط مسرحي
- كورس وزاري
- نشيد المكسحين
- المونولوج الوزاري
- قمة بعمة وقمة بغمة
- ليلى تخلع قيس ( نميمة مسرحية)
- صوت قرنفلة الشعراء
- عيد يروح وعيد يجيء


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أبو الحسن سلام - ديموقراطية اليونان بين الفلسفة والسياسة والمسرح