|
ماذا يعني مفهوم الحريات الاجتماعية؟
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2720 - 2009 / 7 / 27 - 10:50
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ليس هذا بالمفهوم المتداول أو المألوف في ثقافتنا، ولعله ليس كذلك في أية ثقافة أخرى. لكنه مفيد في الإطار الاجتماعي الثقافي العربي والإسلامي المعاصر لكونه يحيل إلى رزمة من الخبرات والتطلعات والهواجس التي ربما ينجح المفهوم في تسميتها وتوحيدها. نقصد بالحريات الاجتماعية تمكّن الناس، أفرادا أو مجموعات أو جماعات، من تحديد أنماط حياتهم، ما يتصل بالزي والقيافة والاختلاط العلني بين الجنسين والمأكل والمشرب والأنشطة الفنية والجمالية وتصريف أوقات الفراغ.. في استقلال عن تدخل أية سلطات سياسية أو دينية. لا يسع السلطات هذه أن تفرض على السكان، النساء كما الرجال، زيا معياريا، أو تتدخل في علاقاتهم غير المنتهكة لمصلحة عامة بينة، أو في نوعية ما يأكلون وما يشربون. فرض الحجاب يتعارض مع الحريات الاجتماعية، لكن كذلك نزعه القسري. مفهوم الحريات الاجتماعية يسمي الوجوب المضمر في الجملتين الأخيرتين. بالطبع هناك عنصر ثقافي واجتماعي في تحديد مستوى الحريات هذه، يجعل من الصعب وضع تعريف ناجز ونهائي لها. وهناك عنصر تاريخي أيضا يحيل إلى تذبذب مستوى الحريات المعنية وارتفاع سقفها حينا وانخفاضه حينا آخر. هذا يزكّي مزيدا من الشغل على المفهوم باتجاه صقله وصوغه بصورة مضبوطة. واضح أن الجهات الأكثر تهديدا للحريات الاجتماعية في بلداننا، وفي العالم الإسلامي ككل، هي الجهات الدينية التي تحمل تصورا للحياة والتنظيم الاجتماعي يركز على التفاعلات الصُّغرية (الميكروية) بين الناس أكثر مما على التفاعلات الكبرية (الماكروية). كيف ترتدي المرأة، وماذا يشرب الناس أو يأكلون، وكيف يتواصل الجنسان.. هذه مسائل تشغل بال الجهات الدينية أكثر بكثير من الأوضاع الديمغرافية والبنى الاقتصادية والتماسك الوطني العام، ومستوى الجامعات العلمي، وما إلى ذلك. وترث الجهات هذه من "الشريعة الإسلامية" عدم التمييز بين المجالين الخاص والعام، فتجعل من سلوك الأفراد والأسر والأصدقاء والزملاء موضوعا لتدخلها. الأمثلة التي نعرفها من أكثر من بلد إسلامي تسوغ التخوف من فرض ضرب من الشمولية الدينية المفرطة التدخلية في الحياة الخاصة. والأكيد أن مستوى الحريات الاجتماعية تراجع في مصر في العقود الثلاثة الأخيرة، ولم يكد يتقدم على مستوى وطني عام في أي من بلداننا خلال الفترة نفسها. ويغذي هذا الشرط مخاوف من موجة تدين، تفرض معاييرها المتشددة للسلوك الاجتماعي الصحيح، دون ما يضمن لها كفاءة وإنجازا على أية مستويات أخرى. لكن يتواتر في العقود الأخيرة ذاتها، الأخير منها بخاصة، أن تتقاطع الخشية من تراجع الحريات الاجتماعية مع الرغبة في فرض تصور إيديولوجي خاص لهذه الحريات. هناك معركة إيديولوجية محتدمة حول الموضوع راهنا تثير السؤال عن حدود الحريات الاجتماعية في أي وقت. هل يكون الانتشار الطوعي للحجاب بفعل نشاط علني لوعاظ وواعظات تهديدا للحريات الاجتماعية؟ هل "العرف العام" يصلح مقياسا لمستوى الحريات هذه؟ وفي غياب عرف مهيمن، هل نكون إلا حيال أعراف متنازعة؟ وهل يحتمل أن يكون مفهوم الحريات الاجتماعية مجرد عرف بديل، يحمل انحيازات قيمية وسلوكية "حديثة"، يراد فرضها على مجتمع قد لا يكون متقبلا لها؟ في ظروفنا الراهنة، المفهوم معرض للوقوع في محذور خطير: جعل الحريات الاجتماعية هوية تمييزية، اسما أو شعارا لأنماط محددة من الحياة أو لجماعات بعينها. هذا ضرب من التطييف يبدو شائعا في أوساطنا، أو يشكل وجها من وجوه تطييف أوسع، أبرز مظاهره بلا ريب النمط الإسلامي ذاته. هذا "حديث" مثل غيره، وصنعي مثل غيره، وما "أصالته" إلا نتاج صناعة اجتماعية وسياسية وثقافية حديثة بحق. الحريات الاجتماعية مفهوم نقدي، يفقد قيمته إن لم يكن مضادا للجمود والشيئية والتطييف، قدر ما هو مضاد للإكراه الاجتماعي باسم الدين أو غيره. الحريات الاجتماعية هي أولا حريات، تحيل إلى تطلب الاقتدار والتمكن والسيطرة على شروط الحياة، بل صنع الحياة على يد الناس الأحياء، وليست "أنماط حياة" جامدة، يحمل كل منها ضمانات تفوقه في عين منتحليه. والحريات ليست هوية لأحد. من منظور الحريات الاجتماعية تعرض النظم السياسية في البلدان العربية الأكثر حداثة سمات ليبرالية ننكرها عليها بحق حين نفكر في مستوى الحريات السياسية. النظم هذه لا تكف عن انتهاك حريات سكانها السياسية، لكنها قلما تتدخل في حرياتهم الاجتماعية. لهم أن يرتدوا ما يشاؤون في نطاق عرف عام غير محدد، سقفه دون ما هو متاح في المجتمعات الغربية، لكن مصدر تدنيه الأول هو ضغوط السلطات الدينية. ولا تتدخل أكثر السلطات السياسة في اختلاط الجنسين بدءا من المرحلة الجامعية، ولا في نوعية ما يأكله أناس وما يشربونه في منازلهم أو في أماكن عامة، وموقفها من الفن مشجع عموما. ولم تكن كل هذه المناشط تعتبر شيئا مهما إلا حين برزت جماعات ومنظمات إسلامية يشتبه عموما أنها سوف تفرض نظاما للحياة أشد صرامة وتدخلية، دون أن تكون أكثر تحررية على المستوى السياسي على الأرجح. هذا الواقع منح شرعية غير منتظرة لحكومات لطالما كان أداؤها السياسي والاقتصادي والعسكري بائسا أو أشد بؤسا. بهذا قدم الإسلاميون خدمة لا تنسى لهذه الأنظمة بأن حققوا انقساما اجتماعيا عميقا في مجتمعاتنا المعاصرة، يتضاءل أمامه الانقسام السياسي أو يحوز صفة نسبية في أحسن الأحوال. هذا هو الوضع الذي نجدنا فيه اليوم: ليس هناك عارضون مؤكدون لمستوى أعلى من الحريات الاجتماعية ومن الحريات السياسية معا. السلطات الحاكمة التي تبقى محكوميها تحت خط الفقر السياسي تضمن لهم حريات اجتماعية معقولة. الإسلاميون يغطسون المجتمعات التي يحكمونها دون خط الفقر الاجتماعي (يتدخلون في الزي والاختلاط والفن والطعام..) دون إغنائها سياسيا. وهذا مصدر أساسي للاستعصاء السياسي الراهن في مجتمعاتنا. ليس فيها قوى "تقدمية". المجموعات الصغيرة من مثقفين وناشطين سياسيين معارضين في موقع هش لكونها تشارك الإسلاميين معارضة الحكومات سياسيا، لكن هذه (أي الحكومات) هي من تحوز صدقية أكبر في حماية نمط الحياة الذي يعيشونه. نرجح أن يستمر الاستعصاء راهنا بفعل توازن القوى بين الدين والدولة. وقد نلاحظ أن الحكومات تقيد حاجات سياسية حيوية (التجمع المستقل، التعبير الحر عن الرأي..)، فيما يقيد الإسلاميون رغبات حيوية (الجمال، الحب، التمتع ..). هذا ينجب مجتمعا مشلولا في حركته وفي مخيلته. إن كان ما نقول صحيحا فإن مفهوم الحريات الاجتماعية أداة ناجعة لوصف جملة من الخبرات ولتفسير جانب كبير من أوضاعنا الحالية، كما لاقتراح مخارج محتملة منها. المفهوم يقوي شخصية الخبرة فيجعل تجاوزها متعذرا.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موقع -الديني السياسي- في وثيقتين معارضتين سوريتين
-
من خرافة سياسية إلى أخرى..
-
عودة إلى مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري
-
-الحل- غير موجود... أين هو؟
-
في بئري الدين والدولة
-
في شأن الديمقراطية والإصلاح السياسي... سيرة استهلاك إيديولوج
...
-
الطائفية والأحوال الشخصية في سورية
-
عالم السادة الرجال -المسلمين- وما وراءه
-
بحثا عن توازنات جديدة.. إيران تتحرك!
-
تساؤلات بصدد السياق السياسي والمؤسسي لمشروع قانون الأحوال ال
...
-
نتنياهو، كيف حصلنا عليه؟ وأي سلم يتحصل منه؟
-
ما معنى البقاء في السلطة إلى الأبد؟
-
الكثير الذي فات خطابك يا أخ أوباما!
-
هذه أو هذه وإلا فتلك: عقائد الحتمية في السياسة السورية
-
نظرات في اللوحة الإيديولوجية العربية السائدة
-
العلمانية والقومية والامبريالية.. أسئلة مفتوحة
-
نظريتان في الطائفية.. بلا نظر
-
الكتابة العمومية كسياسة كتابة
-
نظرية الحتمية الثقافية في الثقافة السورية مقالة ضد العناد
-
الفكرة القومية العربية (والإسلامية) كإيديولوجيتي حرب أهلية
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|