|
من خرافة سياسية إلى أخرى..
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2714 - 2009 / 7 / 21 - 10:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يمنع التنافي التام بين خرافتين سياسيتين من تعايشهما في البلدان العربية ذات النظم التسلطية. تقرر إحدى الخرافتين وأكثرهما ابتذالا أن من يحكمون بلداننا يحظون بما يقارب إجماعا من محكوميهم الذين يقفون "صفاً واحدا" خلفهم. "والبرهان" النافل على صحة هذه الخرافة هو استفتاء دوري يفوز فيه الحاكم بنحو 99% من أصوات محكوميه المحبين. أما الخرافة الثانية فأقل شيوعا، وهي تقرر، على عكس سالفتها، أن "الشارعَ إسلاميٌ" في بلداننا، وأنه في انتخابات حرة سوف يفوز الإسلاميون بأكثرية ساحقة، ما قد يؤول إلى صراعات أهلية أو إلى استبداد إسلاموي متطرف. يستحسن، لذلك، أن لا تجري انتخابات حرة. فأولا الديمقراطية لا ترتد إلى صناديق الاقتراع، وثانيا "الأكثرية العددية" ليست هي الأكثرية الديمقراطية، وثالثا سوف يرفس الإسلاميون السلّم خلفهم.. وهناك المزيد لمن يستزيد. نفضل من جهتنا مزيدا من الفهم. الخرافة الأولى تصدر عن الأجهزة الإيديولوجية لنظمنا التسلطية، وهي موجهة للجمهور العام، "الشعب"، وغرضها إضفاء نوع من الشرعية على الحكم، ونزع الصفة السياسية للشعب (وهو ما تحقق بنجاح باهر عموما، أثمر "نزع" الشعب نفسه). لسان حالها يقول إن الحاكم يحكم برضاكم وإجماعكم، فلا يسعكم الاعتراض عليه. بل إنكم لا ترغبون بذلك حقا. ولا تكف هذه الخرافة عن إقامة وحدة حال بين الشعب ومحبوبه القائد، الأمر الذي لو كان ربع صحيح لما جرى الإلحاح عليه بهذا القدر. الخرافة الثانية تصدر عن الجهات التي تتولى سحق مخالفي الخرافة الأولى، الجهات الأمنية. وهي ليست موجهة للجمهور العام بل للنخبة المثقفة والسياسية المستقلة. الغرض تخويف هذا الجمهور الأصغر، لكن الفعال. تشكو من الاستبداد؟ لكن هناك استبداد أسوأ، لا يصادر حرياتك السياسية والفكرية، بل وحرياتك الاجتماعية أيضا. يتدخل في علاقتك بالجنس الآخر، وفي طعامك وشرابك، وفي زيك وقيافتك.. وهذا الاستبداد الأسوأ هو البديل الوحيد عنا. فاختر لنفسك! ولما كان المثقفون حساسون بحق لأنماط الحياة وللاستقلالية في تحديدها، كان من المحتمل أن يستجيبوا لهذه "السردية" الشائعة إيجابيا. هذا يحصل كثيرا بالفعل. ولا يكاد "العلم" السياسي لمثقفين مكرسين يفيض شيئا عن هذه الخرافة. ..التي يبدو أنها تحوز صدقية معززة من كون الإسلاميين يعتبرونها البداهة عينها. "الشارع" إسلامي، و"الأمة" إسلامية، فإذا جرى تحكيم صندوق الاقتراع، فسوف يتطابق الجوهر العقدي للأمة ("صندوق رأسها" على قول قائل) مع حصائل ذلك الصندوق، الأمر الذي ربما يغني عنه بعد تجريبه لمرة واحدة. والحال، ليست الخرافة الثانية أقل خرافية من الأولى. ما يتخذ برهانا على صحة الأولى هو ذاته البرهان على خرافيتها: الاستفتاء المهرجاني الدوري. هذا ليس مباراة مرجحة النتيجة، الغرض منها حسم شك المتشككين بأرقام لا تكذب، بقدر ما هو مهرجان ترهيبي، لا يفوت أحدا إدراك مغزاه: عليك أن تحضر المباراة التي سبق أن حضرتها مرات وتعرف نتيجتها سلفا، وأن تعمل كالجميع جامع كرات للبطل وهو يسجل أهدافه التسعة وتسعين في مرماك، وأن تصفق له وتهتف بحياته أيضا. وسحق من يتشكك في عدالة المباراة هو البرهان الساحق على أنها عادلة. وعلى أن الخرافة علم قراح. أما الخرافة الثانية فلا نملك "تجارب حاسمة" لدحضها كما هو الحال بخصوص الأولى. لكن لدينا اعتبار تاريخي عام يفيد بأن أكثرية كبيرة من الجمهور قد تنحاز في أوقات بعينها إلى هذا التيار الإيديولوجي أو السياسي أو ذاك، دون أن تثبت عليه. في خمسينات القرن العشرين وستيناته بدا أن الحركة القومية العربية تحوز ولاء واسعا في "المشرق". هذا ما يستخلص من أنزه انتخابات حرة عرفتها سورية عام 1954. كان السوريون هم السوريون وبنية المجتمع السوري البشرية والدينية لم تتغير تغيرا جوهريا، لكن الإسلاميين بالكاد أوصلوا مرشحا واحدا للبرلمان. ولم يكن ورادا حينها أن يكون لهم مرشح لرئاسة الجمهورية أو أن يكون رئيس الوزراء منهم. هذا يرجّح أن السلوك التصويتي للجمهور لا يتحدد تحددا حتميا ونهائيا بالانتماءات الدينية. وعلى أن ما يخرج من صناديق الاقتراع لا يطابق أي "جوهر" مفترض للمجتمع. ولعل عدم التطابق هذا سيكون أكبر بقدر ما يتطور لصندوق الاقتراع رأس مستقل أو شخصية أقوى، الأمر الذي نفترض أنه يتوافق مع تكرر العمليات الانتخابية. لم يثبت في أي بلد عربي أو إسلامي أن استقر التصويت على نسق واحد يعكس توزع الجماعات الدينية والمذهبية إلا في لبنان الذي تحتم القوانين أن يجري الأمر كذلك. في آخر انتخابات عراقية مطلع هذا العام تقرر للمراقبين أن العراقيين صوتوا أقل للطائفيين بعد أن كانوا صوتوا لهم أكثر في انتخابات سابقة، كانت الأولى بعد عقود من تسلطية بلا ضفاف. وفي المغرب والكويت تراجعت حصص الإسلاميين مؤخرا. وليس لدينا ما يبرهن أن ما بعد صندوق الاقتراع (نتائج انتخابات حرة) سيعكس ما قبل صندوق الاقتراع (بنية المجتمع الدينية) إلا إذا ألزمت القوانين بأن يكون الأمر كذلك، أو ربما في التمرين الأول للانتخاب الحر. هذا لأن الأهلي، المحلة والعشيرة والطائفة ..، هو "الحديدة" السياسية التي يقعد عليها مجتمع حرم من المبادرة السياسية المستقلة. ولا نعرف مثالا واحدا ثابر الناس فيه على تفضيل قراباتهم الدينية على مصالحهم المادية. مجتمعاتنا ليست استثناءا عن هذه القاعدة، رغم أن لدى أصحاب الخرافة الثانية (التي لا ترضى أقل من "العقل" نسباً لها) ما يكاد يكون نظرية عنصرية في هذا الشأن. ونقدر أنه بعد دورتين انتخابيتين أو ثلاثة سوف ينفلت الجمهور من سياسة "الحديدة"، فيصوّت لمن يحتمل أن يلبوا مصالحه الحيوية، وليس لإيديولوجيين يمثلون "الدين الصحيح" أو ما شابه. قد تتشكل في المحصلة خريطة إيديولوجية وسياسية معتدلة، يعبر فيها الناس عن توجهاتهم بلغة المصالح العقلانية. هذا حتى لو افترضنا أن انتخابات حرة تجري الآن: دون أي إعداد وطني مسبق، دون مرحلة انتقالية من بضع سنوات، دون توافق وطني أولي على قواعد ناظمة للحياة السياسية الوطنية في طور ما بعد التسلطية؛ وحتى مع رد التغير السياسي إلى تحكيم صناديق اقتراع حرة، ورد الديمقراطية إلى التمثيل المرآوي للمجتمع. لكن، بلى، يمكن للإسلاميين أن يفوزوا بأكثرية ساحقة، ربما 100%: بالسير على سنة سابقيهم ممن حققوا هذه النسبة، بالانقلاب لا بالانتخاب. إذ كيف لا يفوز بأكثرية ساحقة من يستطيع سحق كل اعتراض بالقوة؟
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عودة إلى مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري
-
-الحل- غير موجود... أين هو؟
-
في بئري الدين والدولة
-
في شأن الديمقراطية والإصلاح السياسي... سيرة استهلاك إيديولوج
...
-
الطائفية والأحوال الشخصية في سورية
-
عالم السادة الرجال -المسلمين- وما وراءه
-
بحثا عن توازنات جديدة.. إيران تتحرك!
-
تساؤلات بصدد السياق السياسي والمؤسسي لمشروع قانون الأحوال ال
...
-
نتنياهو، كيف حصلنا عليه؟ وأي سلم يتحصل منه؟
-
ما معنى البقاء في السلطة إلى الأبد؟
-
الكثير الذي فات خطابك يا أخ أوباما!
-
هذه أو هذه وإلا فتلك: عقائد الحتمية في السياسة السورية
-
نظرات في اللوحة الإيديولوجية العربية السائدة
-
العلمانية والقومية والامبريالية.. أسئلة مفتوحة
-
نظريتان في الطائفية.. بلا نظر
-
الكتابة العمومية كسياسة كتابة
-
نظرية الحتمية الثقافية في الثقافة السورية مقالة ضد العناد
-
الفكرة القومية العربية (والإسلامية) كإيديولوجيتي حرب أهلية
-
مسار حرج لتطور الوضع الكردي السوري
-
في ذهنية المنفعة ونقد الثقافة
المزيد.....
-
بيونسيه تتوج مسيرتها بجائزة طال انتظارها ونانسي عجرم تطوي صف
...
-
فرنسا: هل ينجو بايرو من حجب الثقة؟
-
أمريكا - إسرائيل: أي حدود للتحالف بين ترامب ونتنياهو؟
-
بعد تبرعه بـ 100 مليار دولار للأعمال الخيرية، هل يترك بيل غي
...
-
شتاينماير يطالب من الرياض بإطلاق الرهائن وبتطبيق حل الدولتين
...
-
-مازلت متعطشا-.. نوير مستمر في حراسة عرين بايرن ميونيخ
-
ترامب يعلن رغبة بلاده في الحصول على المعادن من أوكرانيا مقاب
...
-
-زومبي من أجناس متعددة-.. زاخاروفا تعلق على عدم قدرة أوروبا
...
-
رئيس البرلمان البولندي يدعو أوروبا لتقليص الاعتماد على الولا
...
-
بيسكوف: لا يوجد أي تقدم في عملية تنظيم لقاء بوتين وترامب
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|