|
تناقضات المشهد السياسي الروسي.
مرعي الحسن
الحوار المتمدن-العدد: 2710 - 2009 / 7 / 17 - 09:34
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن المشهد السياسي الروسي في المرحلة التي أعقبت رحيل الرئيس يلتسين عن السلطة في الأيام الأخيرة من عام 1999 حمل تناقضات ملفتة للإهتمام. ما بين شيوعيين يناضلون من أجل الديموقراطية البرلمانية وليبراليين يدافعون عن الدكتاتورية وضابط استخبارات سوفييتي يقود التحول المؤيد للغرب. بينما الشعب الروسي العادي أصبح أكثر جاهزية للتحديث من نخبة روسية تفضل بقاء الوضع على حاله كونها مستفيدة وغير قادرة على الحكم بوسائل ديموقراطية. أتى الرئيس بوتين إلى السلطة في عام 2000 خلفاً لبوريس يلتسين الذي ترك روسيا غارقة في أزمات مالية وسياسية بدت معها في وضع تتجه به إلى الهاوية. إذ وجد الشعب الروسي نفسه مخدوعاً بخدعة غربية كبيرة عندما أحس أن الإصلاح السياسي والإقتصادي الذي مورس طيلة فترة حكم يلتسين لم يكن سوى وهم وخيال. ترك يلتسين إرثاً سياسياً واقتصادياً معقداً من الفساد والتحول الفكري والسياسي، ومزيجاً من السلطة والتجارة والأعمال والعنف والخصخصة غير القانونية ونظام الإقتصاد الجديد الذي لا يمت للإقتصاد بصلة. حصل بوتين على دعم من الشباب ولكن الدعم الحقيقي كان من الجيش ووزارة الداخلية والاستخبارات والكنيسة. هذه المؤسسات تحظى باحترام الشعب الروسي نوعاً ما بالنسبة لغيرها من مؤسسات الفساد. فلذلك حصل على نسبة كبيرة من أصوات الشيوعيين والقوميين والليبراليين اعتقاداً منهم بأنه ظالتهم المنشودة. تمتع بوتين القادم من أقوى جهاز استخبارات في العالم بطريقة تفكير هذا الجهاز الذي يؤمن بالوحدة ورفض التعددية والشك والغموض والميل إلى السرية. بدأ عمله بدفع زملائه في الأجهزة الأمنية إلى مواقع السلطة مما أدخله في مواجهة مع مجموعة من النخبة وخاصة الإقتصادية التي سيطرت على المشهد الروسي طيلة العشر سنوات السابقة لمجيئه. أما على المستوى الخارجي فقد كان أمام بوتين قضايا ملتبسة كثيرة منها العلاقة مع الغرب والإصلاحات الإقتصادية الداخلية وحقوق الإنسان وموضوع الشيشان مما اضطره للقاء رئيس الوزراء البريطاني والأمين العام لحلف شمال الأطلسي للوقوف على الحقيقة. أما على الصعيد الداخلي فلم يكن بوتين ديموقراطياً ولا ديكتاتورياً ولم تواجه مخططاته مقاومة، ربما بسبب السيطرة على وسائل الإعلام أو لعدم وجود معارضة قوية وسلبية المجتمع أو لربما كان الروس يعلقون عليه آمالاً كبيرة. أما الإستياء فكان محصوراً بطبقة صغيرة من المثقفين الليبراليين. إن بوتين يصلح لأن يكون زعيماً شيوعياً وليس زعيماً لفترة ما بعد الشيوعية نظراً لسلوكه القاسي في وجه منتقديه من الإعلاميين وبخاصة في صيف 2000 في ترويض حكام الأقاليم وإسكات الدوما والمؤسسات السياسية وإرهاب الصحافة ليصبح القوة الوحيدة على المسرح السياسي. من المحتمل أن يكون بوتين أقل ديكتاتورية من يلتسين لكن المجتمع الروسي ملَّ السياسة وأتعبته الحياة العبثية خلال أكثر من عشر سنوات وفقد الثقة بكل السياسيين الذين كانوا أضعف من أن يكونوا في مثل هذه المناصب وجعلت المنافسة معدومة تقريباً. لكن الأحداث التالية لهذه الفترة بينت لبوتين حقيقة الوضع الذي لم يكن يتصوره بهذه الهشاشة والضعف بعد كارثة الغواصة كورسك التي كانت صدمة حقيقية لبوتين والروس بشكل عام. تبين بعدها الترهل والارتباك والفساد في الإدارة الروسية واللامبالاة تجاه حياة المواطنين وأمنهم. فبدأ الشك يساور الحكومة في قدرتها على تحسين الوضع والإستمرارية. ما إن هدأت كورسك حتى شب حريق في برج أستانكينو التلفزيوني، وهو أطول برج في روسيا وأوروبا وهو أحد رموز عظمة الدولة ليصبح شبه مدخنة لإحدى المصانع ينفث دخانه الكثيف في أعالي السماء ولم تبدأ عمليات الإطفاء إلا بعد مرور ثلاث ساعات ولم يبادر أحد من المسؤولين لمواجهة هذه الكارثة. وهذا بين العيوب الكبيرة والكثيرة التي ما زالت تلازم النظام بعد حادثة كورسك. سلطة في قبضة واحدة. بعد سنة من تولي بوتين السلطة بقيت قضية الشيشان الوحيدة التي تقلق الرئيس الجديد لأن أكثر العمليات قد فشلت وأن روسيا خسرت 2500 جندي في عام 2000 فقط. هنا بدأ الجميع في روسيا يعتقد ومن بينهم الشيشان أنه من الواضح أن السلطة العسكرية لا تريد إنهاء الحرب. وأن حسب اللاتوف رئيس البرلمان الروسي سابقاً وهو شخصية سياسية شيشانية يعتقد أن هناك شخصاً ما في مكان ما في القيادة العسكرية الروسية يستفيد من استمرار الحرب الطاحنة هناك لأنها منحت ترقيات وأوسمة كثيرة للعديد من الجنرالات وأن تمويل الجيش والقوات الخاصة لم ينقطع فتنامت الثروة الشخصية لأجهزة السلطة الرئيسية. أما سقوط الجنود وصغار الضباط من الطرفين في المعارك فلم يقلق أحداً على الإطلاق من المسؤولين العسكريين والمدنيين في السلطة. بالرغم من ذلك فقد كان المجتمع يتقبل هذه الحرب على الرغم من بشاعتها وتحولها إلى محرقة على مدار الساعة. في المقابل نشأ جيل شيشاني كامل تربى على الحرب وأعد نفسه للقتال والإنتقام من الروس على عمليات الإضطهاد والقتل العشوائي والاستبداد في ممتلكات الشيشان. بدأ بوتين يستعيد الرموز السوفييتية السابقة للتأكيد على أن روسيا قوة عظمى وهذا استقطب تأييد قطاعات كبيرة من الشعب لكنه ساهم في انقسام النخبة لأن لغة القوة العظمى وحدت الروس من جهة لكنها أصبحت عامل في عدم استقرار العلاقة مع أمريكا نتيجة لبرودة المشاعر تجاه واشنطن وعدم الاهتمام في تطوير العلاقة وجعلها في وضع الانتظار لمرحلة أخرى. تبلَّغ الأمريكان أن روسيا لن تتخلى عن تزويد إيران بالسلاح وحلقت طائرات روسية فوق حاملة الطائرات الأمريكية في البحر المتوسط وهي عملية غير مسبوقة منذ انتهاء الحرب الباردة. وهذه رسالة تعني أننا مازلنا أقوياء ويمكننا أن نسبب لكم الإزعاج. عموماً كان العام الأول من حكم بوتين قد شهد تصاعداً في حرب الشيشان وغرق الغواصة كورسك ومشاكل كبيرة أخرى، لكن رفع مستوى التفاؤل الشعبي وخاصة لدى سكان المقاطعات وكبار السن والمتقاعدين وذوي الدخل المحدود، أما المثقفون وسكان المدن الكبيرة فشعروا بالإحباط والخيبة. هنا تمكن بوتين من جميع الأدوات الرئيسية للسلطة واستطاع أن ينهي تأثير مجموعات يلتسين ووجه لهم ولأفراد الطبقة الحاكمة ضربة قاضية وأجبرهم التخلي عن طموحاتهم السياسية. بدأ الروس بعد التجارب اليلتسنية المؤلمة والإصلاحات العشوائية التي أعقبت انهيار الإتحاد السوفييتي يعتقدون أن النموذج الغربي في التطور غير مناسب لروسيا لتعارض الثقافات والقناعات الشعبية وهذا لم يولد العداء للغرب بل مجرد قناعات الأغلبية الساحقة أن الثقافة الغربية تتعارض جذرياً مع الثقافة الروسية العريقة والتاريخية. لكن طبقة النخبة بقيت تتبع النمط الغربي في الحياة. في خضم هذه التناقضات تولدت الرغبة لدى النخب الحاكمة الروسية في العودة إلى القيم والتقاليد الروسية العريقة وأن روسيا لا تتطور إلا بحكومة مركزية قوية وايديولوجيا القوة العظمى. وهذا لقي صدى واسعاً لدى العامة في الشارع الروسي. بدأ بوتين في تقديم برامجه الواحد تلو الآخر ورؤيته السياسية والإقتصادية وأعلن عزمه الاستمرار في تجديد الإصلاحات الإقتصادية المتوقفة ووعد بالقضاء على المنافع المتأتية من المناصب وإصلاح جهاز الدولة برمته وقدم للبرلمان تركيبة من المشاريع من ضمنها الإصلاح القضائي والقانون الزراعي وإصلاح النظام التقاعدي والضريبي وقانون العمل وتنظيم التجارة. طرد بوتين العديد من رؤساء الشركات العملاقة في روسيا وأجرى تغيرات في عدة شركات احتكارية أخرى واعتقل العديد من المدراء بتهم الفساد وأغلق بعض الصحف والقنوات التلفزيونية بتهمة العمل ضد البلاد. بالنسبة لإصلاح العلاقة مع أمريكا أتت بشكل تلقائي بعد أحداث سبتمبر أيلول وأصبحت في أفضل حالاتها على الإطلاق دون أي تخطيط مسبق، لكن هذا التقارب سرعان ما بدأ بالتراجع بعد أصوات الاستياء في الشارع الروسي نتيجة لكمية التنازلات التي قدمتها روسيا للولايات المتحدة والتي كانت قبل فترة قصيرة من المواضيع التي لا تقبل الجدل. كان بوتين في تلك الفترة يأمل في الحصول على تعويضات مادية واقتصادية مقابل هذه التنازلات المذلة، لكن خاب أمله بعد أن حصل على مجرد اعتراف أوروبي بالوضع القانوني لاقتصاد السوق الروسي. هنا من الممكن القول أن روسيا حصلت على مكسب اقتصادي نوعاً ما، فقد كانت في السابق تخسر حوالي 1,5 مليار دولار سنوياً نتيجة لقيود مفروضة على منتجاتها وبهذا أصبحت الشركات الروسية بإمكانها الدخول بشكل أكبر إلى الأسواق الأوروبية. استطاع بوتين في عام 2004، أن يحصل على فترة رئاسة ثانية واستطاع في نفس الوقت أن يوقف تجربة يلتسين الفوضوية ودخل في مشروعين متناقضين: الأول الحفاظ على الحكم التقليدي والثاني بناء اقتصاد حديث. وهذا أنتج تناقضات جديدة بنيوية بين المحافظين والمجتمع الديناميكي وبين النهج المؤيد للغرب والنزعة المركزية بين الإقتصاد الليبرالي والبيروقراطية المركزية، بين التطلع للحرية وكبتها، بين الاستقرار والتغيير. لقد أنتج بوتين تناقضات لا يستطيع حلها بنفسه لأنه سيضطر لهدم بعض ما بناه بنفسه في السابق. انتهت فترة حكم بوتين الثانية وما زال الكثير لم يتحقق بعد! فجاء زميله الذي يسير على نفس النهج، أتى بشكل ديموقراطي بأكثرية أصوات الناخبين الروس. هذا يعني أن الشعب الروسي مازال يريد المزيد من الخطوات البوتينية ومن غير المهم من سيقوم بذلك، أكان بوتين بنفسه أم أحد من فريقه. المهم أن تسير روسيا على هذا النهج الذي بنى بعضاً من الاستقرار حتى أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية والتي أثبتت أن روسيا لديها الكثير من الحلول والأفكار التي من الممكن أن تنفذها أو تطرحها على المجتمع الدولي. مع كل هذا، مازالت روسيا تعيش فترة انتقالية وتتحرك نحو المستقبل بثقة لكنها تحتاج لأجيال لتكريس المفهوم الجديد الذي نشأ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ويتوجب على الغرب بناء علاقات مع روسيا بلا شكوك واستياءات متبادلة لأن الإقتصاد الروسي مازال غير مستقر وغير منظم ويهتز لأدنى تأثير لأنه أصبح مرتبطاً بالاقتصاد العالمي. لا يمكن تجنب محنة أخرى لروسيا فما زالت الظروف مواتية لهيمنة قوة أخرى أكثر قوة وتشنجاً بالنسبة للغرب ولأمريكا. وليس واضحاً كيف سيتصرف الحكام القادمون بطريقة ديموقراطية إذا ما حصلت أزمة أخرى مع الغرب. مازالت روسيا بعيدة عن الإجابة الواضحة والحاسمة وستبقى هكذا لفترة زمنية ليست بالقصيرة وسيكون لدى الجميع حججهم على ذلك وتفسيرهم الذي يعتبروه صحيحاً.
#مرعي_الحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيديو مرعب يظهر لحظة دهس ضحايا نيو أورليانز.. إليكم ما نعلمه
...
-
-شكرا يا أم هذا العالم-.. أصالة تشكر السعودية على تقديمها ال
...
-
وزير التعليم السوري يعلق على تعديل المناهج الدراسية: حذفنا م
...
-
غزة.. آمال بوقف الحرب بالعام الجديد
-
ماذا نعرف عن علم التنجيم وتوقعات الأبراج؟
-
من هو سلمان الخالدي الذي سلمه العراق للكويت لمحاكمته؟
-
قائد شرطة حماس ونائبه من بين القتلى في غارة إسرائيلية على مخ
...
-
تعديلات على مواد تعليمية تثير الجدل والمخاوف في سوريا
-
غارة إسرائيلية على مستودعات للجيش السوري في ريف دمشق
-
شاهد ما عثر عليه في سيارة -تسلا سايبرترك- التي انفجرت أمام ف
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|