|
نجيـب ســرور الفنـان الرقيـق .. المنــاضل العنيـد - ترتيــــــلة ثـوريـــَّـة لمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لاستشهادفــرج الله الحلــو
مفيد مسوح
الحوار المتمدن-العدد: 875 - 2004 / 6 / 25 - 04:59
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
" فـرج الله والغستــابو"
الإهـداء إلى السيدة ﭬيرجيني الحلو باسم حبات البذار ... - تحيــاتي عبدالله .. لك عندي مفـاجـأة - أهــــلا ً بصديقي العزيز .. الحمد لله على سلامتك .. هـات مـا عندك
وبطريقة تشبه التسلل تمشينـا إلى المكان الذي اعتدنـا أنـا وعبدالله وآخرون من الأصدقاء المقربين الإنزواء به لتبادل الأحاديث، بعيداً عن المتطفلين من الأولاد ذوي التربية السطحية، وهو أبعد واحدة من قناطر كنيسة الضيعة القديمة .. وأدرك عبدالله على الفور أن المفاجـأة من النوع الذي يحب .. مادة ٌ للقـراءة !! كانت الشمس ترسل آخر أشعتهـا الصفراء قبيل غروب ذاك اليوم التمـوزي الدافيء والذي عادت في ساعات مسائه لذَّّة ُ ما تبقى من برد الليالي الربيعية المعتاد في بداية صيف القرى الجبلية .. الضوء الواصل إلى القنطرة المتجهة إلى الغرب كان كـافياً لتمكيننا من قراءة ما جلبتـه معي من مدينة بانيـاس مقصوصاً من جريدة لبنانية اعتاد الأهل قراءتها باستمرار .. تبادلنـا أولاً أحاديثنا التقليدية للاطمئنان عن الأحوال الصحية والدراسية وعن الأهل والأصدقاء بعد انقطاع لفترة تسعة أشهر كما هي الحال كـل َّ عام. كـانت أجوبة عبدالله مقتضبة وسريعة وكانت أسئلته لي قصيرة جداً لأنـه كان متلهفـا ً لرؤية ما بيدي دون أن يخفف ذلك من حالة الفرح باللقـاء والبهجة وتعالي القهقهات .. ولم أُطـِلْ انتظارَه .. فتحت الورقة التي أخذتها للتو من الحقيبة المملوءة بمـا اخترته من كتب ومجلات أحملهـا مؤونة ً لأيام الصيف الطويلة في قريتي (حبنمرة) التي تبعد حوالي ستين كيلومتراً من بانياس، حيث كنت أعيش مع جزء من عائلتي بينما كان كبارنا في دمشق. كنت قد وصلت مع عائلتي إلى الضيعة قبل ساعة واحدة قضيتها بمتعة كبيرة في البيت مع جـدَّي وآخرين .. ولكنني كنت متلهفـاً للذهاب إلى الساحة المتاخمة للكنيسة حيث يلتقي عادة الشباب والفتيان بعيداً عن ساحة الضيعة التقليدية، الملتقى اليومي للشـَّيب .. - يـالله خلصني .. هات لشوف شو معك .. - مهـلاً يـاصـاحبي سنقرأ معـاً .. ولكننـا بحاجة أولا ً إلى فاصل من الصمت .. فالموقف حزين وما لدي يثير ولا يـُبهـج .. - حسنـاً مـا هذا ؟ - إنهـا قصيدة رائعـة لشاعر مصري اسمـه نجيب سرور عن الشهيد فرج الله الحلـو .. والتصقنـا على المقعد الحجري القديم، غيرَ عابئـَـين ببرودته أو خشونة سطحه ولا مكترثـَـين بالمـارة، واضعـَين القـُصاصة بيننـا .. قرأتُ بصوت طفولي متهدِّج وسمعَ بصمت ما لبث أن اعتراه الخشوع بعد بـُرهة ٍ قصيرة:
القـرن ُ يُــقال ُ العشــرونْ والعـام التاسـع ُ والخمسـونْ لكنْ لا أذكرُ ما الشـَّهرُ لا أذكر حتى ما اليـوم ْ والساعة لا أعرف كـم ْ فهنــا .. في جوف الزنزانـــة ْ خلفَ الشمس ِ يجري توقيتُ الغستابـــو
سألوني من زمن ٍ مااسـْمـُك ْ تيلمـانْ أو شــهدي أو فوتشيـك أو قولوا الحلــو ماشئتـم قولـوا أيَّ اسْـــم ِ عســَّافٌ إسمـي عسـَّـاف ْ .. جـُنَّ الغستابو وانفجرت ْ في وجهي آبـارُ الــَّدمِّْ فبصقت ُ دما ً ملءَ الفـمِّ فـي وجه الغستابو الجَهم ِ وأنا أضحكْ ركـْـلـه ْ...! زعقوا ... مااسـْمـُك ْ ؟ إنســـان ٌ أيُّ إنســانْ .. إبــن ُ العمـَّال ْ من رأسي حتى قدمـي ْ من أغور أغـوار القـلب ِ جندي ٌّ في جيش الشـعب ِ قربان ٌ من أجل الحـزب ِ في مصرَ أنا في سوريا في لبنــان ْ في العالم في كل مكــان ْ أنا وطني كـل ُّ القـارَّات ْ أمشي في زحف العمـَّال ْ عســَّافٌ إسمـي عسـَّـاف ْ ..
انغمسنـا في جو القصيدة .. الذي كـان يعنينـا حقــا ً هو الشعر .. لم نكن نعرف الشاعر .. ربمـا عرفه غيرنـا في ذلك الحين ولكن أغلب الظن أن قلائـل سمعوا عن نجيب سرور .. ومن المرجح أن معظمهم من لبنـان، المتميزة بحرياتها العامة وخصوصا ً حرية الفكر والتعبير والنشر والتداول بفارق هائل عما كانت عليه الحـال في سوريـا .. أنـا نفسي سـألت أهـلي عندمـا قرأت القصيدة لأول مـرة عن الشـاعر ولم أعرف أكثر من أنه فنان مصري شيوعي ويعيش في موسكو .. عشنـا صور القصيدة ورحلاتها بحزن عميق هزَّ كياننا ومـلأ عيوننا بالدمع واشرأب الوبر النـاعم على سواعدنـا الطرية .. توقفت عن القراءة عدة مرات بسبب جفاف حلقي أو تقلص عضلات وجهي القريبة من فمي .. ولكن فكرة إلغاء القراءة أو تأجيلهـا لم تكن واردة .. استغرق إكمـال القصيدة من الزمن ما يزيد عن الحـاجة لقراءة قصيدة عادية بنفس الحجم نظراً لبرهات صمت إضطرارية اشتهيت عندهـا جرعة مـاء من "عين مريم" ولم يكن المـاء قريباً ..
وأعـاد الغستابو الكــَّرة ْ لا أدري في هذي المـرَّة ْ من أيــن الآبارُ الثـَّرَّة ْ في جسمي ْ كانت ْ تتدفـَّق ْ حاولت ُ كثيرا ً أن أبصـُق ْ جاهدت ُ ولكن لم أبصـُق ْ وتـدور الأرض ُ والسقف ُ الصخري ُّ يدور ْ وتدور الجـدران ُ تدور ْ ويلفُّ الأشياءَ ضبــاب ُ وتغيب وجوه ُ الغستـابو و أغيب أنا ....
الضوء تخامد تدريجيـا ً وكاد أن يختفي نهائيـا ً مـا جعلني أبذل جهـدا ً أكبر لرؤية مـا تبقى من الكلمـات على ورقة الجريدة الباهتة اللون والمطبوعة بأحرف صغيرة على صفحة واحدة منسقة وفق أعمدة مترادفة دون أي تعليق. الورقة شارفت على الإهتراء لكثرة مـا قـُرئتْ وطويت وفتحت وانتقلت من جيب إلى آخر .. من حسن حظي في ذاك الوقت أنني كنت قد حفظت قسمـا ً من القصيـدة بعد أن قرأتهـا عدة مرات أو سمعت الآخرين في البيت يرددونهـا كي يكبر السخط في نفوسنا على القتـلة أعداء الإنسانية .. وكم كنت متأنيـا ً في مسك الورقة بنعومة خشية ازديـاد اهتراء أطرافهـا أو خطوط ثنيهـا حرصـا ً مني على الإلتزام بتعهدي الحفـاظ عليهـا سليمة ً، بالرغم من أنني رأيت أخي الذي يكبرني وقد نسخهـا على دفتر عزيز على قلبه كإضافة قيمة لرموز مقدسـاته .. كانت القصيدة قد أعيد نشرهـا في ذاك العدد من (الأخبار) صحيفة الحزب الشيوعي اللبناني بمناسبة الذكرى السابعة لاستشهـاد فرج الله الحلو تحت التعذيب الوحشي بأيدي أجهزة أمن عبد الحميد السرَّاج في دمشق في الخامس والعشرين من حزيران 1959 بتهمة قيادة تنظيـم سياسي محظور. والقصيدة التي كتبهـا الشاعر والفنان نجيب سرور تحمل عنوان "فرج الله والغستـابو" تركت أثـرا ً بـالغا ً في نفوس الوطنيين واليساريين في مصر وبلاد الشـام كمـا أنهـا أثارت حفيظة أجهزة الأمن في سوريـا ومصـر. لـم نكن في تلك الأيـام، ونحن في الخامسة عشر من العمر، ندرك الأوضاع السياسية وتفاصيلها ولم يتجاوز اهتمامنـا كفتيان من منبت فقير ثوري إبان فترة الوحدة المصرية-السورية وبعدهـا بعدة سنوات سوى تذكر وحشية الجلادين في تعاملهم اللاإنساني مع المعتقلين السياسيين ممن لم ترقْ للسلطة آراؤهم وانتمـاءاتهم ونشـاطاتهم الفكرية والجماهيرية وكانت قضية فرج الله الحلو، الذي طـالما سمعنـا الأحاديث المستفيضة عن أخلاقه العالية ووطنيته الصادقة ومحبته للناس ونضاله من أجل قضاياهم وكذلك عن ثقافته العميقة وموقعه الكبير في أوساط الأدب والسياسة في عدة بلدان عربية، كانت هذه القضية المثـال الصارخ للديكتاتورية والقمع والإستبداد ومصادرة حرية التعبير والتنكيـل بسجناء الرأي وتعذيبهم حتى الموت. نجيب الذي يذكر في قصيدته على لسـان فرج الله الحلو، المنـاضل َ والأديب التشيكي يوليوس فوتشيك، صـاحب الرواية الشهيرة (تحت أعـواد المشـانق)، الذي مـات تحت التعذيب الوحشي بأيدي الشرطة النـازية (الغستابو) رافضـا ً الاعتراف أمـامهـم بـأسمـاء رفاقـه أعضـاء خـلايا المقاومة الوطنية وأرنيست تيلمـان المنـاضل الألمـاني الذي استشهد أيضـا ً في سجـون هتلر عـام 1941 يذكـر إلى جـانبهمـا المناضل والكاتب الشيوعي المصري شهدي عطية الشافعي الذي مـات تحت التعذيب في أقبية المخـابرات المصرية أيـام حكـم جمـال عبد النـاصر عـام 1960 عن 48 عـامـا ً .. إنهـا لمقـارنة سليمـة وصحيحة جعلتنـا نقبـل عنـوان القصيدة وتسمية الجـلادين الذين عذبوا شهدي ويعذبون فرج بـأنهم الغستـابو نفسه الذي ارتكب أفظع الجرائم بحق المنـاضلين والشعوب الأوروبية وبحق الإنسانية جمعـاء .. تنهيدة !! وأكمـلُ:
القـرن ُ يُــقال ُ العشــرونْ والعـام التاسـع ُ والخمسـونْ وحدي أنتظــرُ الغستابــو وحدي .. وحدي ؟! ومئات ٌ من حــولي ومئات ٌ من قبــلي ومئات من بعــدي وألوف ُ ألوف ُ العمـــَّال ْ في الخارج لا بل في قلبـي ورفـاقي كل ُّ الشرفاء ْ في وطني يحضنهم ْ شعبـي أأنا وحدي ؟
كنت أسير ْ وســْط َ دمشـق ْ والساعة ُ منتصف ُ الليـل ْ والبرد رصاص ٌ مسمـوم ْ والـريح تنـوح كما بوم ْ والشارع خـال ٍ من نسمة ْ ودمشق ُ تلفـِّحــُها الظــلمة ْ والليل ضرير ْ لم تبسم ْ حتى نـَجمة ْ ويجيءُ نـُباح ُ الغستابــو: " يحيــا القائـد ْ هايـل الرائـد ْ " أذكرُ أذكــر ْ يذكر ُمثـلي فوتشيـك ْ يذكر تيلمــان ْ " يحيـا الفوهرر ْ هايــل هتلر ْ " أذكر ُ أذكــر ْ " يحيا الحسنــي والحنـــَّاوي والشيشكــلي " أضحك ُ ... أضحك ْ يضحك ُ كـل ُّ العالـم ْ تضحك ُ كـل ُّ دمشق ْ يضحك ُ كـلُّ الشرق ْ أيـن الفوهرر ْ ؟ صـِرت ُ أفكـِّر ْ: أكبادي .. زوجي .. بيروت ْ وأبـــو زعبـل ْ أكبادي في كل العالم ْ يابيروت ُ من مات َ ومن سوف يموت ُ أو يحيا من أجل الشـَّعب ِ
البرد رصاص ٌ مسمـوم ْ والـريح تنـوح كما بوم ْ والشارع خـال ٍ من نسمة ْ ودمشق ُ تلفـِّحــُها الظــلمة ْ والنجمة تهمس للنجمة ْ هجمـة ْ ... هجمـة ْ فـِرِّي قـد هجـم َ الغستابـو ضربـو .. ضربـو .. آه ٍ .. لكأني أركب ُ أرجوحة ْ تعلو تهبط ْ..... تعلو تهبط ْ غابت ْ عنـِّي الرؤيـا أسقط ْ ... أسقط ْ
نسمـات الهواء القادمة من الفتحة الطبيعية التي تحد القرية من جهة الغرب تودع الشمس وتـُنبؤنا بليلة باردة تتطلب احتياطات كافية .. الأمهات يحرصن على إبقاء اللحف الثقيلة والحرامات لحماية الأولاد من برد الليل .. ليالي شهر حزيران وحتى أواسط تموز ليست كليالي شهر آب التي يتلذذ فيها الكثيرون بالنوم على السطوح والأماكن المكشوفة بالرغم من أن الليل في آب بارد ولكنه محبب بالمقارنة مع نهاره الحار .. بدأت أحس بالبرد وأنا في أول يوم من إجازة الصيف بعيدا ً عن شاطىء البحر الدافيء. السماء التي تركتها زرقاء صافية كشرشف أزرق وحيد اللون فوق بانياس أراها مرقعة بغيوم رمادية فوق الضيعة وممتزجة مع أخرى برتقالية فوق بلدة صافيتا والبحر وهي تضم الشمس وداعا ً إلى الغد بينما راحت الرياح الخفيفة تغازل الأوراق الفتية النضرة لأشجار التين والتوت والمشمش والتفاح التي تبرز أجزاؤها العليا من خلف أسوار المنازل القريبة على الغصون المتراقصة لربيعها الشاب.
قصة جريمة اغتيـال فرج الله المختطف، التي لم تتأكد إلا بعد قرابة السنة من استشهاده تحت التعذيب الهمجي، كـانت على كـل لسان في سوريا ولبنان ومصر وغيرهـا .. سمعنـاها من أهـالينا ونحن أطفـال وكـان من الصعب أن تجـد أحدا ً تردد في التنديد العلني بالجريمة البشعة التي أثارت الأهالي في سوريا ولبنان مثلمـا أثارت السياسيين .. وتكرر التذكير بالرواية سنة بعد سنة .. قيل لنـا فيما بعد أن السخط والإستنكـار عـمَّ الأوساط الشعبية وحركات التحرر والسلم في العالم وتشكلت لجـان دولية ضمَّت ْ شخصيات ٍ لامعة ً من بلدان أوروبية وآسيوية ومن بلدان عربية وأخرى في أميريكا اللاتينية مـارست ضغوطـاً سياسية على القيادة المصرية، التي كـانت في ذلك الوقت تسيطر على القيادة السورية عبر شخصيات سيئة السيرة وتتميز بقدرات خاصة على القمع والتنكيل بالمواطنين وتكريس الإستبداد .. وقد سجل التاريخ فشل هذا التضامن الدولي بسبب تهرب أجهزة الأمن في سوريا والقيادة المصرية من مسؤوليتها تجاه جريمة نكـراء اهتـزت لهـا مشاعر أحرار العالم .. وقد أثـار لغز غياب فرج الله وانعدام تسرب أي خبـر من أروقـة أجهزة القمع الناصري في سوريـا قلق َ أهلـه وذويه وقيـادة الحزب وجمـاهيره وكـافة القوى الوطنية .. ولكن هذا القلق لم يـُفقد المناضلين الأمـل بإمكـانية بقـائه حيـا ً في سجون عبد الحميد السـرَّاج. عرف فرج الله الحلو دمشق بحاراتها وشخصياتها وأحبها .. قبـْلها عرف حمص التي درَّس في إحدى مدارسها وتعرف إلى أهاليها .. وسافر كثيرا ً إلى بلدات وقرى معظم المحافظات السورية فالتقى كوادر الحزب فيها وعائلاتهم فأحبوه كثيرا ً لما كانت تحمله شخصيته من صفات الإنسان الوديع الودود المتواضع الهاديء المحب للآخرين والناكر للذات أمام إيمانه المطلق بالعمل الجماعي معيارا ً للرقي والتطور .. لقد كان فرج في مرحلة العمل السري منذ قيام الوحدة وتوليه قيادة الحزب في سوريا كما كان في المرحلة العلنية السابقة نموذجا ً للقائد الشيوعي والرفيق المحب لوطنه وشعبه والغيور على الحزب. كان يتمتع بثقافة عالية وإلمام بأسس الفكر الماركسي والتراث الثوري العالمي إضافة إلى اهتمامه بالتاريخ والفلسفة والأدب العربي والعالمي.
مسـاء القرية في أواخر أيـام الربيع وطيلـة أيـام الصيف يعج ُّ بالمـارة والمتسكعين .. بعد نهـاية السنة الدراسية يتقاطر إلى البلدة الوديعة أبنـاء أهـاليها من المدن التي يعمـل فيها الموظفون والمدرسون وعمال المصانع فتزداد ساحاتها وأزقتها حيوية ً .. حتى أولئك الموظفون الساكنون في المدن القريبة والذين يقتصر ترددهم على الضيعة أيام الخريف والشتاء على عطلات الأعياد يعودون إليها مسـاء كل يوم مع اقتراب مواسم الخضار والفواكه وخاصة العنب والتين وقبلها موسم حصاد القمح يليه موسم سلق الحنطة لتحضير البرغل، المـادة الغذائية الرئيسية لكل بيت في قرى وبلدات المجتمع السوري آنذاك، لهذه المواسم رونقٌ لا تخبو فرحة النـاس به لمـا تعكسه طقوسها من مشـاعر ودٍّ وتحـابٍّ يتحرض الشباب في ظلِّهـا إلى الخطوبة والزواج فتمتليء أيام الضيعة بالأعراس في صيفهـا البهي . من أجمـل صور الاستمتاع البسيط نزهـات فرق من الفتيان والفتيات على طول طريق امتد من "عين مريم" ، النبع الذي شربت منه أجيال أكثر من أربعمائة عـام وما نضب ومـا قلت مياهه الطيبة، إلى آخر نقطة مسكونة في القرية عند مـا اتـُّفق على تسميته "أبواب الهوى".. ومن المؤكد أن من أطلق التسمية لأول مرة قصد بهـا "أبواب الهواء" نظرا ً للفتحة بين التلال المحيطة بالمكان والتي مررت الهواء النقي حاملا ً معه رائحة غابات السنديان والكروم وعطر الطيّـون ولكن شباب القرية راق لهم استخدام الألف المقصورة ذريعة لتبرير نزهات المساء اليومية المحببة مشكلين قطـارا ً بشريـا ً أضيف إلى جمـال الطبيعة الساحر .. حتى سيدات البيوت وكبيرات السن تشجعن مسـاءً للتوافد إلى العين لملء جرارهن .. كن َّ يمشين مثنى ً أو ثـلاث، والجرار الملأى بالماء البارد على أكتافهن، يتحادثن طوال الطريق وأجسـامهن تتمايل بحركة إيقاعية دلعـا ً يغطي التحايل ضمانا ً للحفاظ على التوازن المطلوب للوصول إلى البيت بمـاء الشرب النقي الطيب .. - عطشت يا عبدالله .. وأنـا مشتاق لميـّة العين .. لم أشرب في البيت إلا كأسـا ً منها .. وبقفزة واحدة وعدة خطوات ودون الكثير من الكـلام خـُلقت في يد عبدالله طـاسة نحاسية بحجم الكفين المتكورتين: - بقي أن نستوقف إحدى المــّلايات .. بعد ثوان ٍ كانت طاسة الماء بيدي .. شربتها كـلها .. تمنيت أن أشربهـا على مهـل ٍ لتحقيق أكبر قدر من الاستمتاع ولكنني لم أكن بعد قد قرأت أكثر من نصف القصيدة فغببت الماء اللذيذ دفعة واحدة واندلق بعضه على صدري .. ضحك عبدالله مني لأنني لا أتقن الشرب من الطاسة .. كـان باردا ً أثار فيَّ رعشة ً .. الطقس يميل إلى البرودة والضوء إلى أفول .. - لا أعرف إن كنـا سنكمل القراءة .. مـا رأيك ؟ - رأيـي أن نذهب إلى البيت .. هناك سنشعل السـِراج ونكمل القراءة وسنشرب المـاء والشاي أيضـا ً وسأطعمك حصـرمـا ً من كرمنـا. لم أتردد في الموافقـة على اقتراح عبدالله، صديقي الأول الطيب الودود الذي كنت أكن له ولأهله كل محبة واحترام .. كان بيته بسيطـا ً للغاية وكنت أشعر في ترحاب أهله وتعابيرهم الصادقة دفئا ً لا أجده في بيوت أخرى .. كان الجو في بيت العم أبي جبور مـلائمـا ً جدَّا ً لإكمـال قراءة القصيدة.. لم يفسح عبدالله المجـال لإضاعة الوقت بالترحيب بي والاطمئنان عن الأهل .. جلسنـا على المقعد الخشبي المغطي بطرَّاحة محشوة بالقماش العتيق وساندَين ظهرَينـا إلى الخلف حيث وُضع مسندان محشوان بالقش المضغوط .. كنـا قصيري القامة وكان المقعد عريضـا ً وكأنه مصنوع للعمالقة فقط مما ترك أرجلنـا متدليـة وبعيدة عن الأرض المفروشة بالتراب المرصوص والمغطـاة بحصيرة سميكة. استأنفت القراءة على ضوء خافت تراجعت معه سرعتي وازداد تلعثمي، مستعيدا ً أحاسيس التعايش مع فرج الله وهو يتعرض لأبشع أشكـال التعذيب بينمـا عادت لعبدالله حالة الخشوع المترافقة مع حقد على الجـلادين وكراهية لرؤسائهم:
القـرن ُ يُــقال ُ العشــرونْ والعـام التاسـع ُ والخمسـونْ مطروح ٌ مشلول ُ الجسـم ِ أتلــوَّى فـي بـِركة دم ِّ بعظامي شيء ٌ بعــُروقـي بكيانـي يجري كالســُّم ِّ نادوني باسـْمي فـرج الله !! لكنـي أحيـا متنكــِّر ْ في عسـَّاف ْ ؟! عرفــوا إسمـي ؟ ! ممـَّن ْ عرفــوه ؟ هابيـل ُ يطعنـُه أخـوه !! مـِن قابيل ْ ؟ مـِن قابيـل ْ ؟ كم ْ غيري في سجن المـزَّة ؟ كم ْ هابيل ْ ؟ كم هابيل ْ ؟ قلبي يتخطـَّىالأسوار ْ ويغافـِل ُ كل َّ الحرِّاس ْ ليعانق َ كل َّ الشـُّرفاء ْ في حـِضن ِ دمشق ْ .. هل عرفوا أنـِّي في المـز َّة ْ في قـَعر ِ الجـُب ّْ ؟ هل كشفوا خنجر َ قابيـــل َ في ظـَهر الحـِزب ْ ؟
ترقرق الدمع في عيوننا .. وأضفنـا إلى حقدنـا على المخابرات والجلادين حقدا ً على الخونة والأنانيين والمستسلمين الذين فضلوا لأنفسهم الأمن والسلامة ولو على حساب حياة رفاقهم وحريتهم .. كنـا قد سمعنـا من أشخاص أكبر سنـَّا ً أن أحد أعضاء القيادة ممن ائـْتـُمنوا على الكثير من أسرارهـا، كـان على علم بموعد قدوم فرج الله الحلو من بيروت إلى دمشق في مهمة حزبية خاصـة .. وقد تبين بأن هذا الشخص، ويدعى رفيق رضـا، هو الخائن والمتخاذل الذي أعطى المعلومات التي أوصلت رجال المخابرات بقيادة عبد الحميد السـرَّاج (مفرزة سامي جمعة وعبد الوهاب الخطيب) إلى فرج الله فاعتقلوه فور وصوله إلى البيت السري في دمشق واقتادوه إلى أحد أقبيتهم القذرة المعروفة في (حي الطلياني).
رائحة الزبل تفوح .. تحملها النسائم التي تأتيني من الباب ومن الشباك الصغير المطل على أرض الدار .. زريبة البقرة قريبة جدا ً وقد عادت بها أم جبور من الكرم مرورا ً بالعين في الطرف الشرقي لملء ما تبقى من فراغ في معدتها بالماء .. هذه عادة كل أهل الضيعة .. من غير المعقول تأمين الماء للدواب في المنزل، كل الدواب تشرب وهي في طريق العودة، حتى تلك القادمة من الغرب ولو طال بها المسير. لم أكن أكره تلك الرائحة .. كانت الفتيات لا يطقـْنها أما الفتيان فكانوا أقل تحسسا ً .. الزبل هو روث البقر فقط ويمثل بالنسبة لأهل الضيعة مادة ذات قيمة يجب عدم إهمالها وهم لذلك يحتفظون بوسائل لالتقاطها من الطريق أو أماكن وقوف البقر وجمعها ومعالجتها بالدعك والمزج بفتات قصب القمح لصنع مادة تسمى (الجـلَّة) تستخدم كوقود .. رائحته الخاصة تميز قرى وادي النصارى وجبال العلويين .. عندما يصبح المزيج جاهزا ً لا بد من تجفيفه لطرد الماء الزائد مما يتطلب تعريضه لشمس النهار ويتم ذلك بلصق أقراصه التي تـُدور ُ كالرغيف السميك على الجدران ذات الحجارة المتنافرة السوداء المتراكبة بدون ملاط فوق بعضها البعض ضمانا ً لالتصاقها. أهل الضيعة سعداء وفخورون بحياتهم البسيطة طالما أنهم ليسوا بعيدين عن الحضارة والسياسة والعلم .. القرى هذه ترفد المدن السورية باستمرار بآلاف المحامين والمدرسين والضباط والأطباء وأساتذة الجامعات ورجال السياسة والأدباء والشعراء وكثيرون منهم سافروا أو أوفدوا على حساب الحكومة للتحصيل العلمي في بلدان أوروبية وأثبتوا جدارة ومهارة، وكانت تحظى بالقليل القليل من الإهتمام وتأمين متطلبات الحياة العصرية وتتميز هذه القرى بانخفاض نسبة الأمية بالمقارنة مع مناطق أخرى وباقي المحافظات.
أغلب الظن أن نجيب سـرور، الذي كـان في بداية مرحلة جديدة في حياته الدراسية في موسكو، ترافقت حملات تنديده المستمر والعلني بالسياسة المصرية المعادية للشيوعيين في مصر وسوريا بحرص على تتبع أخبار المناضلين الملاحقين أو المعتقلين في سجون البلدين .. فكان يتلقف الأخبار المتسربة عن فرج الله في دمشق وعن شهدي عطية في مصر .. ولكن شحَّ المعلومـات وصعوبة نقلها واختلاط المؤكد منها بذاك المبني على التقدير والتخمين وغياب الحقيقة في دمشق التي نـُشرت تصريحات المسؤولين فيها على مستوى عالمي تشيع بأن مرافق الأمن العام عند الحدود السورية لم تسجل دخول شخص يـُدعى "فرج الله الحلو" .. كـلُّ هذا، إضافة إلى أن أحـدا ً لم يكن يود أن يصـِّدق أن فرج الله قد مـات فور اعتقاله، جعل الكثيرين، بمن فيهم نجيب سرور، يعتقد بأن المناضل الكبير مـازال على قيد الحياة ولا بد من الاستمرار في تنظيم الحملات العالمية لإطلاق سراحه. الإعلان عن نهاية البطل أتى متأخرا ً سنة كـاملة ومن دون تفاصيل نظرا ً لاستمرار الأجهزة آنذاك في التستر على الواقعة .. لقد ظن نجيب لأول وهلة مثله مثل الآخرين بأن فرج تعرض في سجنه للاستجواب والتعذيب المتقطع لفترة لا تقل عن السنة وبأنه قضى في زنزانته في أوائل صيف 1960.
عدَّلـْت ْ جلوسي على المقعد غير المريح وأنا آخذ رشفة ً من كأس الشاي الشديد الحلاوة الذي حضرته لنا أم جبور، تخيلت صعوبة غلي الماء في الإبريق المصنوع من الألمنيوم وقد عشعش الشحار الأسود في ثناياه فوق نار البيت أو عند إحدى الجارات، بينمـا نهض عبدالله يزيد من إنارة ضوء الكاز الشحيح برفعه فتيله المشتعل إلى الأعلى دون أن يعبأ للزيادة في حرق الكاز الذي يـُترجم إلى كلفة نقدية .. لم تكن في القرية حينهـا، كمـا هي الحال في أغلب القرى ومناطق الريف السوري، خدمة الطاقة الكهربائية .. كان هناك بيت واحد اعتمد على مولِّدة لإنارة بعض غرف منزله وقد نظر الأهالي إليهم بغيرة، بعضهم كان يقول (الله يتحنن !) دفعا ً للحسد السلبي، وهو بيت المختار الثري صاحب الأراضي والأملاك ووسائط النقل وغيرها من مصادر تراكم الثراء في قرية يعتمد معظم أهـاليها على عطاء حقولهم وبقراتهم المتواضع أو دخل الوظيفة المحدود .. لم يكن اعتماد القرية على الإنارة بهذه الطريقة يزعجني .. كنت أحس عتمة الطرقات في المساء والليل جزءا ً لا يتجـزأ من متعة الصيف لما تضفيه الظلمة، التي تكسِّرهـا أشعة خافتة صادرة من نوافذ البيوت المتراشقة دون أي انتظام، من جو رومانسي محبب في لوحة ليلية امتزجت فيها العتمة بهدوء لا يعكرُّه إلا أصوات "زيز الحصايد" أو نباح كلب .. كنا حريصـَين على البقاء لوحدنا لا بسبب الخوف، فالقرية آمنـة ومطمئنة تجـاه قضايا من هذا النوع .. فالقرية برمتها تعاطفت مع قضية فرج الله الحلو وبكت استشهاده وأعلنت جهارا ً سخطها على القتلة، وإنما رغبة منا بإنجاز ما نقوم به دون عرقلة .. تـابعت:
القـرن ُ يُــقال ُ العشــرونْ والعـام ُ يُــقال ُ الستــُّونْ وأنا في الجب ْ عيناي َ على البـاب المغـْلق ْ أذنـاي َ على الصَّمْت الأخرس ْ من باب ِ فـُضول ْ ماذا في وسع الغستابو ؟ خلـع ُ أظافر ْ ؟ خلعـوها من أول ِّ يــوم ِ خرجت ْ باللحـم ِ وبالـدَّم ِّ لن تنبت َ لي بعـد ُ أظافـر ْ ماذا في وسع الغستابو فوق التعذيب ِ الوحشـي ّْْ فوق الكـي ّْ أو صب ِّ الماءِ المغلي ّْ فـوق َ البارد ِ والبارد ِ فـوق َ المغلي ّْ أسناني ....! هل بقيت سـن ٌ في فكي؟ ! عقب ُ السيجارة في اللحم ِ ؟ حرقوا لحمي هل يـُغرس ُ عقب ٌ في العظم ِ ؟ قطـع ُ لسـاني ؟ هم أحـوج ُ مني للساني ماذا في وسع الغستابـو لمناضل َ غير الموت ْ الموت ُ لعيـن ٌ ورهيب ْ لكن .. في جب ِّ التعذيـب ْ لا نخشـاه ْ ... نتمنـــَّاه ْ فالموت لنا مثـل الواحـة ْ والموت لهـم ... للغستابـو يعني الصمت ْ فالميـِّت ُ من دون لسـان ْ والحـي ُّ لـه ألف ُ لسان ْ قد يضعف ُ يومـا ً قد يركـع ْ يتخاذل ُ ... يرضخ ُ ... ينهار ْ ويبوح بتلـك الأسرار ْ سأموت ُ لكي يحيـا الشـَّعب ْ حملوني فوق النقــَّالة هبطوا سلـَّم ْ ساروا .. لفـُّوا دخلـوا غـُرفـة ْ داخـل َ غـرفة ْ .. داخـل َ غـرفة ْ وقفـوا .. حطـُّوا النقــَّالة ْ ماذا بجراب الغستابـو ؟
الصورة السينمائية التي انتقلنا معها لنراقب ماذا سيحدث وإلى أين يقتاد الجلادون بطلنـا، الذي كان بالنسبة لأهله ورفاقه مسيحَ القرن العشرين الواقع في قبضة جنود بني إسرائيل المتوحشين الساديين، فاديهم الذي ما انفك يردد (سأموت ليحيا الشعب)، خففت للحظات من حالة الألم التي ألمت بنـا ونحن نرى فنون التعذيب فاستغلينا هذه الاستراحة لمسح الدموع عن عينينـا وأخذ جرعة من النفـَس، الذي كان محبوسا ً في صدرينا الصغيرين، ورشفة من الشاي .. أروقة أبنية المخابرات مخيفة .. جدرانها مرتفعة وممراتها طويلة ومتشعبة وأقسامها كثيرة وطوابقها كذلك وغرابتها العمرانية تذكرك بسجون الرومان في قلاعهم .. في زواياها روائح القذارة والتآمر والتربص والتنصت والملاحقة وعلى أسطح جدرانها تتكسر أصداء قهقهات الضباط أو صراخهم في وجوه مرؤوسيهم ممزوجة مع أنين الخاضعين للتعذيب وتلاوات بعض الموقوفين في زنزانات هنا ومهاجع هناك معزولة عن النور والعالم الخارجي سوى من فتحة لا تزيد مساحتها عن سطح كفين مفتوحتين ولها شبك حديدي قابل للتحريك من الجهة الخارجية فقط لتمرير الماء والوجبات المخصصة للموقوفين .. أما من الداخل فالشروط الإنسانية والصحية للمكوث ساعة واحدة معدومة وأول ما يشعر به المرء هنا الذل والمهانة والاحتقار .. وأنت لن تستغرب إن رأيت في مكاتب الضباط أجهزة التلفزيون والراديو والمسجلات وطاولات النرد أو الشطرنج وورق اللعب .. فقد اعتاد هؤلاء أخذ أقساط من الراحة بين جولات الاستجواب والاستنطاق والتعذيب والترفيه عن نفسهم بعد تلك المعاناة.
من هذا ...؟ هل تعرف من...؟ وأشاروا للشخص الواقف ْ بصري من أيام ٍ يضعف ْ لكـنْ أعرف ْ أعرف ُ من ! < لا ، لا أعرف > خــان َ النــَّذْل ْ قالَ: "وقـعـت ْ.. قـد وقـَع َ الكـُل ْ " الخائن ُ هذا قابيـل ْ .. كم غيري في سـِجن المـزَّة ؟ كم هابيـل ْ ؟ كم هابيـل ْ ؟ منذ متى أنت خائـن ْ ياخائـن ْ خذ مني هذه البصقـة ْ الخائن ُ يضحك ُ منـِّي يزعم ُ أنــِّي أحمق ْ ينصح ُ أن أستسـْلم ْ قال : " خسـِرت َ اللـُعبـة ْ " لا لم أخسـر ْ هذا أول ُ شوط ْ هل تتكلم ؟ فضحكت ُ وجــُن َّ الغستابـو وأعادوا وصل َ التيـار ْ قالوا: " لا جدوى في الصمت ْ قـل ْ أو مـُت ْ .. لا تخجل ْ قد قال الكـل ْ " تلك قديمـة ْ قد شاخت ْ حـِيـــَل ُ الغستابــو هاتوا الأخـــرى لن أتكلـَّم ْ... لن أتكلــَّم ْ وأعادوا وصل التيار ْ ياللصـَّدمة ْ قالوا: " الحكمة ْ أن تـُنقـِذ َ نفسـَك ْ .. ماكـِنيـة ُ أعضـاء ِ اللـَّجنـة ؟ من يعمل من أجل الجبهـة ؟ أسماء ُ بضعة ِ أشخاص ٍ تلك الحـِكمة ْ " ..
عادت إلينا حالة الكآبة والحزن والتـألم لعذاب فرج الله وعـادت معها الصعوبة في القراءة التي حاولت تخفيفها برشف المزيد من الشاي الساخن .. أم جبور تجلس على طرَّاحة ممدودة فوق الحصير وتتكيء على مسند أكثر طراوة من الذي نستند عليه، ليس بعيدا ً عنا، بصمت ودون اكتراث بما نقرأه ربمـا تحاشيا ً لإظهارالفضول وعلى الأغلب بسبب التعب الذي نال من همتها في نهاية نهار طويل بدأ مع طلوع الضوء واستمر العمل المضني طيلة ساعاته. أبو جبور ما يزال في الساحة يتبادل مع رجال الحارة أطراف الحديث ويتناقلون أخبار الساعة .. الساحة العربية تغلي والصراع العربي الإسرائيلي ينبيء بتصاعد التوتر وجمال عبد الناصر (بطل الثورة والقومية !) يحرض الـ (تسعين مليون) ويعد بتحرير القدس بقيادته الحكيمة والشجاعة ومع رفاقه الأبطال أعضاء قيادة ثورة 23 تموز وبتعاونه مع أشقائه الرؤساء والحكام العرب .. كان شعراء القومية العربية يحضِّرون مساهماتـِهم وقصائدهم لـ (مسابقة) أغنية القدس التي ستغنيها أم كلثوم من القدس المحررة في أول يوم خميس بعد تحرير فلسطين.. أخبار إذاعات العرب، وخاصة صوت العرب ومذيعها الشهير الذي أكد أن العرب سيلقون بالإسرائيليين في قاع البحر طعاما للسمك كان يحض الجماهير للتهيؤ للحرب المقدسة، لم تكن تلقى المزيد من الإقبال لدى أهالي حبنمرة وجيرانها من قرى (وادي النصارى) وخاصة أقربها إليها (مرمريتا) الذين كانوا حتى مطلع الستينيات متحزبين، مناصفة تقريبا ،ً فعلا ً أو تأييدا ً للحزب الشيوعي السوري وللحزب السوري القومي .. وعلى الرغم من بعض حالات التوتر أو عدم الإتفاق على تفسير قضايا معينة أو تحديد المواقف من بعض الأحداث فإن الرجال والعائلات المؤيدة لكلا الحزبين كانوا على تعاطف مع بعضهم وكم التقى شباب من كلا الحزبين، بمن فيهم السيدة جولييت المير زوجة الشهيد أنطون سعادة، في سجن واحد .. بسطاء من رجال القرية، ومثلهم كثير من المثقفين روجوا لتصور طرحه أحد مؤيدي السوريين القوميين يقول بأن قاتلي فرج الله الحلو هم نفسهم الذين تواطأوا مع قاتلي زعيم الحزب أنطون سعادة .. الوثائق المتعلقة بالحدثين والتي أزيح الستار عنها مؤخرا ً تفيد بأن الشهيدين، برغم الفارق الزمني، وقعا تحت بطش نفس المفرزة ونفس الأشخاص الذين ورثهم الحكم الناصري من حقبة حسني الزعيم وبنفس أسلوبهم الوحشي والدنيء.. مذكرات البعض ممن عاصروا تلك الفترة، بمن فيهم مقربون من السراج وأقارب له، تستعرض تلك الفترة بالأسماء والوقائع والوثائق، إضافة إلى المسلسل التيلفزيوني السوري (حمام القيشاني) الذي عـُرض مؤخرا ً فروى عطش الشعب السوري للكثير من الحقائق التي كشف عنها هذا العمل الناجح والذي استعرض في عدة حلقات وبكثير من الشفافية تلك الفترة بالأسماء الصريحة والوقائع المسجلة والتي كان يكتنفها الغموض إلى وقت قريب.
عبدالله، الذي يدرك بأن القصيدة ستقول في نهايتها بأن فرج مات، كان متلهفا ً لمعرفة رد فعل البطل الذي أصبح رمزا ً للصمود، على طلب الجلادين التعاون وذكر الأسماء التي يبحثون عن أصحابها .. لقد سمع الكثير مما تناقله الرجال عن خيانة رفيق رضا وإصرار فرج الله الحلو على الصمت والكتمان .. لم يستطع إخفاء فضوله الذي اخترق بحر الدموع في عينيه ليقول لي: أكمل ْ !! وأُكمـــل :
قلبي يتخطى الأسوار ْ ويغافـِل ُ كل َّ الحرَّاس ْ ليعانـق َ أعضاء َ اللجنـة ْ ويقبـِّل َ أنصار َ الجبهـة ْ لا تخشـَوا لن أتكلـَّم ْ لا لن أتكلـم ْ لنجـَرِّب ْ فيه المنفـاخ ْ حـِيـَل ُ الغستابـو الملعونة ْ أأنا أُنفـخ ُ كالبــالونة ْ ؟ أأنا أُنفـخ ُ كالبالونة ..
نعم المنفـاخ .. صدقوا .. نجيب يعرف الكثير عن قصص النازية والغستابو وأساليب التعذيب الجسدي الوحشية التي مورست مع المناضلين ضد هتلر والنازية والثوريين منهم خاصة .. وهو لذلك يذكرنا بيوليوس فوتشيك وأرنست تيلمان .. وهو هنا يفضح أجهزة الأمن الناصرية التي قضت على حياة شهدي عطية الشافعي منذ أيام وجلادي عبد الحميد السراج الذين قرروا إنهاء حياة فرج لإثارة الرعب في صفوف الشيوعيين (أعداء الوحدة !) الذين يمارسون نفس أشكال التعذيب النازية ويستخدمون جميع وسائلها القذرة دون رحمة .. أليسوا غستابو ناصر والسرَّاج إذن ؟! في حديثه عن كتابه (خرافة فرج الله الحلو) يصف الكاتب صلاح عيسى أشكال التعذيب الذي تعرض إليه فرج استنادا ً إلى وثائق سـُرِّبت إليه وكذلك إلى مذكرات الرائد سامي جمعة، جلاد السـَّراج الرئيسي والذي عرف بهمجيته، كما قال عنه الراحل مصباح الغفري: "الرجل ولد يحمل في يده سوطاً يُقنع به المعتقلين بأن السلطة، أي ســلطة، على صواب دائماً!" ،وعنوان هذه المذكرات التي نشرت منذ ثلاثة أعوام (أوراق من دفتر الوطن) .. كثيرون تحدثوا عن فنون التعذيب الجسدي وكشفوا النقاب عن أبطال الجرائم البشعة بحق سجناء الرأي أو العمل السياسي الوطني .. العدالة الحقــَّة تقتضي محاكمة هؤلاء حتى ولو كانوا على عتبات قبورهم لكي يكونوا عبرة لمن تسوِّل له نفسه القبيحة ممارسة أي نوع من أساليب التعذيب الجسدي بحق السجناء وهو مستنكر ومحرمٌ دوليا ً!!. في مقال للدكتور شاكر النابلسي تحمل العنوان (زلزال التاسع من نيسان أدخل العرب إلى رحاب الحداثة من أوسع أبوابها) نشر مؤخرا ً في الجريدة الإليكترونية (إيلاف) يرى الكاتب بأن مرحلة جديدة بدأت في العالم العربي بعد سقوط أعتى نظام ديكتاتوري عرفه الشرق في العصر الحديث، نظام الطاغية صدام حسين في العراق، ستخف معها وطأة القمع الفكري وأساليب التنكيل بسجناء الرأي وإعدامهم: " قبل التاسع من نيسان 2003 وقبل سقوط (صنم الوهم) الأكبر في بغداد، كانت الأنظمة العربية تعتقل، وتعذب، وتنفي، وتقتل أصحاب الرأي. فقد سجنت المئات من الصحافيين والمفكرين السياسيين العرب، وطردت من الاوطان المئات منهم إلى المهاجر في الشرق والغرب. وقتلت العشرات منهم: سيد قطب، شهدي عطية، فرج الله الحلو، سليم اللوزي، رياض طه، الامام الصدر، المهدي بن بركة، محمود محمد طه، ناجي العلي، حسين مروة، كمال جنبلاط، مهدي عامل، وغيرهم كثيرون. بعد التاسع من نيسان 2003 وبعد سقوط (صنم الوهم) الأكبر في بغداد، ما زالت بعض هذه الأنظمة العربية تقوم بجرائمها نحو أصحاب الرأي والرأي الآخر، ولكن ليس بالجرأة والشراسة التي كانت تقوم بها قبل هذا التأريخ. اصبحت تخشى مآل “صنم الوهم” الأكبر، وأصبحت تخشى حملات جمعيات حقوق الانسان، وأصبحت تخشى الإعلام الغربي والرأي العام الغربي اللذين بديا متربصين بالأنظمة العربية التي ما زالت تكسر الأقلام، وتحرق الكتب، وتقتل الكتّاب والمفكرين، وأصحاب الرأي والرأي الآخر." للتأكيد على صحة وجهة نظر الأستاذ الدكتور شاكر النابلسي أذكر بأن دار الكلمة اللبنانية نشرت في عام 1981 رواية الكاتب صنع الله إبراهيم (اللجنة) وقامت بحذف أسماء فرج الله الحلو وشهدي عطية وبن بركه وبن بيلا من الرواية خشية إثارة الجهات المعنية في بعض البلدان العربية. أما الآن فالمقالات والكتب التي تكشف الحقائق برمتها أمام الناس وبذكر صريح للأحداث وأسماء المجرمين والمتورطين وليس فقط الضحايا، أصبحت سيولاً جـارفة يستحيل معها على أجهزة الرقابة التدخل لمنعها أو الحد من قدرتها على الوصول إلى عقول المواطنين.
رثاء فرج الله والإشادة بصموده البطولي ورفضه تقديم أية معلومة لأجهزة التحقيق والتنديد بالجريمة ومقترفيهـا استمر لسنوات بعد ذلك ومـازال اسم فرج الله حتى اليوم حيـا ً في نفوس المناضلين الوطنيين الشرفاء كرمـز ساطع على نكران الذات والتضحية بالنفس من أجـل قضايا الشعب والوطن ..
القـرن ُ يُــقال ُ العشــرونْ والعـام ُ يُــقال ُ الستــُّونْ ألألـم ُ يموج علـى شفتـِي ْ والنار جحيم ٌ في حلقي حلقي جف ّْ إشرب ْ .. إشرب ْ رفعـوا رأسي صبـُّوا قـَطرة ْ لكن لم يـُعطوني الأُخرى ياللبــُخل ! نـِصفي مات ْ ويدب ُّ الموت ُ إلى نـِصفي لكن ْ قلبــي في صدري ما زال يــدق ّْ الشـرق ُ الشـــرق ْ بيروت ُ دمشق ْ كل ُّ العالــم ْ ياقلبـي يا أعنـد َ قلب ْ ما زلت َ تـدق ّْ رفـَّت ْ نسـْمة ْ في أعماقــي غـِـنـْوة ْ .. غـِـنـْوة ْ تأتي من أحضان الأرز ْ قلبي في أحضان الأرز ْ أرزة ْ ... أرزة ْ نغـْمـة ْ ... نغـْمـة ْ لكن ماكلمات ُ الغِنوة؟ ما الكلمات ْ بطل ُ الثورة إحنا معاك ْ !! صمتا ً صمتا ً يا غستابـو الشعــــ
قاطعني عبدالله الفتى الذكي والحساس والذي تأثر بأخيه الذي يكبره بحوالي عشر سنوات وقد كان حينها يدرس في ألمانيا الشرقية فعشق القراءة والثقافة وعرف الكثير من الأخبار والمعلومات. قـال: - مـاذا ؟ بطـل الثورة .. يعني عبد الناصر !! عيد يا مفيد .. بالله عيد كانت كراهية أهل القرية والقرى المجاورة لجمال عبد الناصر وحكمه لا تقل عن كراهيتهم للاستعمار الفرنسي أو إسرائيل .. لم يكن من السهل على أحد تذكر عبد الناصر بحسنة واحدة .. الأهالي عانوا القمع الذي لم يشهدوا مثله أيام سلطة الانتداب. أعـدت: لكن ماكلمات ُ الغِنوة؟ ما الكلمات ْ بطل ُ الثورة إحنا معاك ْ !!
يقاطعني عبدالله ثانية ويطلق مسبـَّة ً لم أكن قد عهدتـُه يقول مثلهـا .. فأنا أعرف كم هو مهذب ومؤدب .. أدركت أنه اغتاظ إذ تذكر مـا كان أساتذة المدرسة يجبروننا على ترديده ونحن في المرحلة الابتدائية فرضـا ً لإشاعة حبًّ كاذب للريـِّس .. لم أعـلـِّقْ بل تـابعت على الفور:
صمتا ً صمتا ً يا غستابـو الشعب ُ هو الثورة ْ الشعب ُ هو الثورة ْ لكن ما كلمات ُ الغـِنوة أنا لا أذكر ْ أسمع ُ صوتا ً وزعيقا ً في الظـُّلمةِْ حارس ْ: - هايل هتلر ْ - هايل هتلر ْ أسمع ُ صوت َ المزلاج ْ تيمورلنـك ْ يا زكريـَّا يا سـرَّاج ْ أهلا ً أهلا ً ماذا في وسع الغستابـو لمناضل َ غير الموت ْ الآن َ تذكرت ُ الكلمات ْ: < نحنا ودياب الغابـاتْ ربينـا بالليل الدَّاجي العتماتْ مشينــا للغاب ليالينا .. للريــح غنانينا هيك .. هيك .. نحنا هيك ربينا >
هكذا كان فرج الله الحلو عاشقا ً لوطنه ولشعبه يكرس نفسه ووقته للنضال من أجل حياة سعيدة حرة كريمة ومن أجل وطن عزيز يشمخ أرزه وتصدح في سمائه أهازيج الفرح وأناشيد الأبطال للحب يطيب لهم اختراق العتمات الداجية .. ومن أجل عالم يسوده العدل وتظلله الحرية وابتسامات الأطفال .. رومانسية تتلون بها روايات النضال العنيد لصناديد رافقوا الصخر والغابات وديابها والليل والدروب المليئة بالأشواك .. بلـَوا الأيام مـُرَّهـا وحلوَهـا .. فكانوا المنارة التي يسير بنورها شباب أجيال تكـنُّ لهم العرفان .. لا أعتقد أن نجيب سرور التقى فرج شخصيـا ً .. أغلب الظن أن الشهيد كان بالنسبة إليه ضحية الأنانية الفكرية لشلة الحكم القابع حينها فوق صدور شعبين عزيزين .. وربمـا كانت جنسية فرج اللبنانية عاملا ً إضافيا ً زاد من حقد نجيب على المخابرات الناصرية .. فالرجل يتمتع بحصانة يضمنها الدستور اللبناني في بيئة من الحرية الفردية ميزت الحكومة اللبنانية عن سواها من الحكومات المجاورة في ذلك الوقت، وقد كان بإمكانه الإحجام عن التردد إلى دمشق الواقعة تحت إرهاب عبد الحميد السـَّراج، الذي كان على مستوى من القذارة كافية لأن يتنكر لأي عرف إنساني أو ديبلوماسي. وهذه الرواية المذهلة يصر الكاتب صلاح عيسى، محقـاً، على تسميتها (خرافة) ليس تشابها ً مع مصطلح القيادة السورية السائد آنذاك وإنما حفاظا ً على حقها بالتميز عن سائر روايات البطش وجرائم الإعدام المعروفة في أقبية التعذيب التي يرعاها العديد من الأنظمة الديكتاتورية، فالقصة تكاد لهولهـا لا تصدق .. وكتمان الرواية وتفاصيلها لفترة طويلة من الزمن جعل البعض، وربما لأسباب إضافية تتعلق بالسياسة الدولية والتوازنات على الساحة العربية اقتضت إجراء إعادة اعتبار لجمال عبد الناصر أظهرته بطلا ً قوميـا ً وحليفـا ً للاتحاد السوفييتي والبلدان الإشتراكية ولقوى التحرر العربية والعالمية في نضالها ضد الإستعمار وإسرائيل، يعتقدون بأن عبد الناصر شخصيا لا يتحمل مسؤولية هدر دماء المناضلين وقمع المخالفين له بآرائهم .. في ردِّه مؤخرا ً على أحد هؤلاء وهو يتحدث عن مقتل المناضل الشيوعي المصري شهدي عطية الشافعي تحت التعذيب في السجن عام 1960 يستهجن الدكتور مصباح غيبة (براءة) عبد الناصر التي استنتجها الكاتب حسين عودات من حقيقة أمر الرئيس بـفتح تحقيق قضائي ماطلت بشأنه الأجهزة !! ويتساءل الدكتور غيبة: - " ألم يكن عبد الناصر على علم بتعذيب المعتقلين السياسيين؟ - ألم يكن عبد الناصر يتوقع أن هذا التعذيب سيؤدي إلى مقتل بعض المعذبين؟ - هل كان المناضل الشهيد شهدي عطية هو الوحيد بين المناضلين الذي قتل تحت التعذيب؟ - ألم يصله خبر مقتل المناضل الشيوعي الشهيد فرج الله الحلو تحت التعذيب وإذابة جثته بالأحماض؟ أولم يبلغه مقتل العديد من السجناء السياسيين تحت التعذيب؟ - ما دام عبد الناصر استاء استياءً شديداً من مقتل شهدي عطية تحت التعذيب، فلماذا لم يأمر بإيقاف تعذيب المعتقلين السياسيين بعد ذلك؟ - وأخيراً هل صحيح أن الأجهزة ماطلت بإنهاء التحقيق والمحاكمة رغم أوامر الرئيس عبد الناصر المشددة بسرعة إنهاء هذا التحقيق وهذه المحاكمة؟ هل كانت هذه الأجهزة تجرؤ فعلاً على عدم تلبية أوامر الرئيس أو التلكؤ في تنفيذها، خاصة إذا كانت الأوامر مشددة؟ " ويضيف: "من خلال هذه الأسئلة تبرز الحقيقة: لا يمكن تبرئة الرئيس عبد الناصر من المسؤولية عن مقتل المناضلين شهدي عطية وفرج الله الحلو والمناضلين الآخرين الذين قضوا تحت التعذيب. فقد كان الحكم حكمه والسلطة في قبضته والأجهزة أجهزته والأوامر أوامره. إن من حق الشعوب على مدوني تاريخها سرد الحقائق كما جرت " أنت محق يـا دكتور مصباح وإلا " وإذا كـان عذاب الموتى أصبح سلعة ْ أو أحجية ً أو أيقونة ْ فعلى العصر اللعنة والطوفان قريب !" كمـا قال شاعرنا الكبير نجيب سرور !!
صوت: مات بالأمس فرج ْ أيها العمال ُ في كل مكان ْ منذ أن كانوا وكنـَّا منذ كان العبد ُ يعمل ْ ثم لا يـأكل ُ والسيـُّد ُ يـأكل ْ منذ كان القـن ُّ يعمل ْ ثم لا يـأكل ُ والمالك يـأكل ْ منذ صارت ْ قوة ُ العامل ِ سـِلعة ْ تضمن ُ الرِّبـحَ لربِّ الرأسـِمال ْ قد أرادوها إبــادة ْ حسنا ً.. فليـأخذوها لا هوادة ْ أيها العمال في كل مكان ْ أيها العمال كونوا يقظين ْ
صوت: مات من قبلي وقبلـِك ْ مات من أجلي وأجلـِك ْ مات من أجل الملايين التي حولي وحولـَك ْ مات ْ .. مات َ فرج الله صوت : لا تقـل ْ مات َ فرج ْ هو في قلبي وقلبـِك ْ هو في كل الملايين التي حولي وحولـَك ْ في المصانع ْ والمـزارع ْ والشـوارع ْ في الملايين التي تزحف ْ وتزحف ْ قــُدُمـا ً لا تتوقف ْ هي كالأمواج صف ٌ بعد صف ّْ كلما ماتت ْ على الصخرة موجة ْ عاجلتـْها ألف ُ موجة ْ هكذا البحر عنيد ْ أينما كان غني ٌّ بالرصيد ْ بألـــــوف ٍ كفــرج ْ لا تقل ْ مات َ فــرج ْ صوت : قالها فوتشيك قبلـَك ْ : " نحن حبـَّات ُ البذار ْ نحن لا ننمو جميعا ً عندما يأتي الربيع ْ بعضـُنا يهلك ُ من هول ِ الصقيع ْ وتدوس البعض َ منا الأحذية ْ ويموت البعض ُ منا في ظلام الأقــْبية ْ غير أنـَّا كلــَّنا لسنا نموت ْ نحن حبات ُ البـِذار ْ نحن يا هتلر َ ... يا فرعون َ نعلم ْ أن أطلال َ القبور ْ ستـُغطى ذات يوم ٍ بالسنابـل ْ وسينسى الناس أحزان َ القرون ْ وسينسون السلاسل َ والمقاصل ْ والمنافي والسجون ْ وسنكسو الأرض َ يوما ً بالزُّهور ْ وستأسو الفرحة ُ الكبرى جراحا ً في الصُّدور ْ عندما يأتي الربيع ْ نحن إن نحيا فمن أجل الربيـع ْ حكمة ُ التاريخ أن يغتال َ هتلر ْ ألف َ حبـَّة ْ ألف َ شهـدي وفـرج ْ ألف َ فـوتشيــك ْ ألف تيلمــان َ وأكثر ْ قبل أن يسقـُط َ هتلر ْ غير أن الزرع يوما ً سيقول ْ : باسـْم ِ حبـَّات ِ البذار ْ باسـْم ِ كل ِّ الشـُّهداء ْ يضحك ُ التاريخ ُ من هـتلر ْ ويضحك ُ ثم يصمت ْ عـاش للشعب فـرج ْ مات للشعـب فـرج ْ مات فليحيـا فــرج ْ لا تقـل ْ مات فـرج ْ
مات يسوع حصرايل .. فادي دمشق وبيروت وعشاق الحرية ورفاق الطريق .. مات على خشبة صليب إسبارطي حملت جسده الطري الطاهر اتحد لتشكيلها أرز لبنان بسنديان سوريا وسقتهـا دموع مصر .. وخط العمال عليها بدم الشهيد "نحن حبات البذار" .. مات من أجل الملايين التي حولنا .. من أجل الربيع المنتظر .. من أجل السنابل والزهور وسعادة الأطفال وعز الأوطان .. مات أحد أبطال الثورة ولكن الثورة كالبحر العنيد إن تكسرت موجة ٌ منه عند الصخر تزداد أمواجه التالية قوة وصلابة وعنفوانـا ً. بكت دمشق بعد سنة من الأرق جففت الدمع في مُـقـَلها ترقبـا ً وأملا ً .. ذبلت زهور الغوطتين باكرا ً في ذاك الربيع الداكن .. لم يثمر المشمش .. أجهضت أشجاره تعبيرا ً عن الإستنكار لجريمة حكومتها القبيحة وتساقط الياسمين وزهر النارنج في البيوت الدمشقية التي بصق أهلها على زبانية النظام القمعي وأعلنوا استمرارهم بتحدي السـراج وسجونه وصرخوا "كلنـا فرج .. مات فليحيا فرج !!" .. أقام الشعب السوري احتفال انتصار لا عزاء انكسار لأنه على يقين بأن التاريخ سيضحك من السـَّراج الجبان كما ضحك العالم من هتلر .. وبكت بيروت لخسارتها وللخنجر المغروس في خاصرتها وهي مدينة النور وعاصمة بلد الحرية والجمال والسعادة والملاذ الآمن لكل من ضاقت به سبل الحرية وطاردته عصابات البغي .. بكى لبنان، حكومة وشعبا ً وقوى وطنية، فرج الله الحلو الذي كان أحد رموزها وقدم المواطنون اللبنانيون العزاء الصادق لشيوعيي لبنان وذوي الشهيد وكلهم حقد على الديكتاتورية وأجهزتها وصلابة في التمسك ببيئة الحرية الفكرية والسياسية في وطنهم العزيز .. وأصدرت الأحزاب السياسية اللبنانية بيانات تندد فيها بالجريمة الصارخة ويـُذكر من بينها بيان الحزب السوري القومي الذي استنكر بشدة سياسة القمع والبطش والتنكيل بالوطنيين الشرفاء وذكـَّر الشعب السوري بدم الشهيد المسفوك قبل عشرة أعوام بأيادي متواطئين من كلا البلدين .. فالجميع يعرف أن عبد الحميد السراج وزمرته بقيادة حسني الزعيم خدعت، عبر وسطاء مشبوهين، أنطون سعادة الملاحق والمطلوب من قبل حكومة رياض الصلح في لبنان واستدرجته مطمئنة إياه بمنحه حق اللجوء السياسي، المشروع الذي كان مقبولا ً بالنسبة إليه نظرا ً لما كان يتمتع به من شعبية واسعة ومحبة وتأييد في كافة مناطق سوريا وبدخوله الأراضي السورية اعتقل فورا ً وسـُلـِّم خلال ساعات لأجهزة الصلح وأعدم في نفس اليوم .. يا للسفـالة .. يـا للسفلة !! وبكى أرز لبنان الشهيد فرج دون أن ينحني .. لقد بلا هذا الأرز حقبا ً طويلة في التاريخ مليئة بالمتغطرسين وسيرهم وبالأحداث المؤلمة والنكبات ولم ينحن ِ .. وها هو يشمخ كبرياء ً وعزة برجاله الأمميين .. بكى الأرز شهيد لبنان وعطـَّر بشذاه ملحمة الثورة والبطولة التي لن تـُنسى .. وبكت القاهرة حزنـا ً وخجـلا ً .. وكتمت أنفاسها تحت ثقل الكابوس الناصري الذي امتهن بمهارة سياسة تغطية أساليب البطش والقمع والتنكيل وقتل الشرفاء بالشعارات المزيفة والإشاعات الكاذبة والبيانات المخادعة. وبكى نجيب سرور، الشيوعي والمناضل الأممي العنيد وأتحف مناضلي العالم بالقداس الجنائزي مرثية ً وطِيبـا ً وإكليلا ً من فخر وكبرياء ويدين فولاذيتين يمناهما قبضة مرفوعة إلى أعالي المجد وفي اليسرى كمشةٌ من حبات البــذار النقية. وحزن أحرار العالم واستنكروا الجريمة البشعة ونددوا بفاعليها ووجهوا أصابع الاتهام إلى الأجهزة المتبنية لأعمال القمع في سوريا ومصر وطالبوا، شخصيات ٍ مرموقة وهيئات ٍ، بإجراء التحقيق ومحاكمة المجرمين .. وناشدوا أحرار العالم للوقوف إلى جانبهم وحصل هذا بالفعل ولكن الإدانة الدولية لتلك الجريمة والمطالبة بالتوقف عن التنكيل بالشرفاء والوطنيين لم تـُجـْـد نفعا ً لأن حكومتي البلدين في ذاك الوقت كانتا على درجة من الوقاحة والتخلف جعلتهما لا تكترثان أبدا ً بالمجتمع الدولي أو بأصوات العالم .. أما أهل فرج وذووه فقد ذابت مشاعر الحزن لفقدان الأخ والابن والزوج والأب بمشاعر الشيوعيين وأصدقائهم في أية بقعة أثار موته حزنا ً فيها .. بينما وجدت زوجة البطل الراحل (فيرجيني الحلو) نفسها أمام تحديات الحياة الشخصية التي لا بد من الاستمرار بيومياتها حفاظا ً على اللبـَنة الاجتماعية التي أسستها معه وهما يحلمان بمجتمع العدالة والاشتراكية فاستأنفت عملها موفرة لبناتها الفتيـَّات الثلاثة كل مقومات الحياة السليمة ما ضمن لهن التحصيل العلمي والمكانة العملية اللائقة والمنتجة والمرتبطة بحياة الناس وكفاحهم على خطى الشهيد متخطين الصعاب وانتكاسات الوطن قبل الحرب الأهلية وخلالها، وقد خضعوا لابتزاز الرجعيين والحاقدين وعملياتهم المشينة مثل احتلال منزلهم وتفجير النصب التذكاري الكبير (فرج الله والعمال) الذي قدمه الاتحاد السوفييتي للشيوعيين اللبنانيين بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس حزبهم وكان في ساحة بلدته (حصرايل). وأما الطغمة الحاكمة التي استعجلت الخريف الباهت فسرعان ما ازدادت عزلتها ولم تكن لها في الأصل أية قاعدة جماهيرية فيما عدا حفنة من المنتفعين والحاقدين وقصيري النظر والمخدوعين بالشعارات القومية والوعود الناصرية الكاذبة .. وكان جنود ومرتزقـة أجهزة الأمن يسـيِّرون أطفاال وفتيان المدارس قسرا ً في مـُسيـَّرات باردة ادِّعاءً أمــام العالم بجماهيرية الوحدة ومحبة الشارع السوري لـ (بطل الثورة !!!) الذي أرادوا اختزال الوطنية والإخلاص بشخصه.
اغرورقت عينانا بالدموع عند هذا المشهد الجنائزي المؤثر .. وضاق صدرانا من الحسرة والحزن على بطل ثورة العمال والفلاحين والفقراء وتشنجت عضلات وجهينا الصغيرين وازداد في قلبينا الطرق السريع تاركا ً عند كلينا حالة من الاضطراب .. ربما مازلنا صغيريـَن لنتمكن من الضغط على نفسينا وتحمل هذا القدر الكبير من إجهاد الذات .. وافترقنا من دون تعليق .
السخط الشديد على مجرمي النظام القمعي وحملات التضـامن مع المناضلين السوريين، من شيوعيين وسوريين قوميين وأصدقائهم وحتى جيرانهم، الذين اكتظت بهم سجون دمشق (المزة والقلعة والكركونات وحتى المخافر) والمدن السورية الأخرى إبان الوحدة المصطنعة الفاشلة مع مصر عبرت عنه، إضافة إلى صفحات الجرائد السياسية العربية والعالمية، أعمـال أدبية للعديد من الكتاب والشعراء في البلدان العربية وفي الخارج جـاءت قصيدة الشاعر والفنان الكبير نجيب سرور ملحمة شعرية متوجة لهـا. القصيدة ليست عادية ولا هي كقصائد الرثاء التقليدية .. هي بيان إنساني بانورامي شامل يفضح القمع والإرهاب وأجهزتهما التي مارست كافة أشكال التعذيب الجسدي في تلك الحقبة ويطابقها مع أفظع جرائم النازية والفاشية التي أدانها التاريخ .. وهي تنديد صارخ بسياسة التنكيل بسجناء الرأي ومعارضي الحكومة الرجعية من قبل طغمة من ذوي السيرة السيئة والمواصفات اللاإنسانية اعتمدت على (إخلاصهم لها) قيادة (بطل الثورة) وهي أيضا ً سجل وثائقي داعم لذمة التاريخ بأن أحد أبطال العمل الوطني والأممي المناضلين في سبيل الحرية والعدالة والتقدم صمد كما السنديانة بوجه الريح الغاضبة محطما ً جبروت آلة القمع الوحشي ومسطرا ً صفحة ناصعة من الاستبسال والموت قربانا ً من أجل أن يحيا الآخرون .. هي أيقونة ٌ لمتاحف النضال الإنساني وترنيمة ُ عبادة للوطن والشعب وأغنية ٌ للحب الصادق ولحنٌ لعهد الوفاء .. وهي قطعة من جسد نجيب سـرور الذي كان مع فرج في جوف الزنزانة وقمرات التعذيب كما كان مع شهدي في القاهرة من قبل .. رافقه باسمنا .. مندوبا ً عن ألوف ألوف العمال في المزارع والمصانع والمدارس ..حاول تلقي الركلات وصدمات التيار عنه والمنفاخ أيضا ً وحادَثَه باسم أعضاء اللجنة وباسم الملايين خارج السجن وقد كانوا يهيئون طقوس المجد للاحتفال بعرس البطل .. القصيدة شمعة لا يأفل نورها أضاءها نجيب (أبو شهدي) وحملها في دمشق وبيروت وموسكو وبودابست والقاهرة وحملها وسيحملها معه كل مناضلي الأرض وعبر الأيام ليقولوا جيلا ً بعد جيل: نحن حبات البذار .. كـان نجيب سرور أيام تلك الأحداث خارج بلده مصر، معبوده الوحيد، وكان في أوج حقده على الصهيونية والإستعمـار ومخططاتهم للسيطرة على البلدان العربية عبر كافة منافذها، والحكومات ضمنـا ً. كـان نجيب يرى مـا لا يراه سواه .. فهو الفنـان والشاعر ذو العيون الكبيرة القادرة على اختراق جدران التكتكم ودهاليز التآمر على الوطن .. وهو المنـاضل العنيد الذي يأبى أن يعيش لحظات سعادة وهو يرى الحيف والضيم والذل يحيط بالمظلومين والمستغـَـلين من كل جانب .. وهو القــائل الجريء الذي يكره الخوف والصمت كمـا يكره أعداء الإنسانية .. ولأن تجـارب نجيب سرور مع أجهزة الأمن المصرية طويلة ومضنية ومتنوعة فقـد جـاءت قصيدتـه مكمـلة لملفه الساخن الذي دفـع شاعرنـا وفنـاننا ثمنـه غـاليا ً خلال حياته الدراسية والعملية وحتى غيابه القسري المبكر .. فمن المعروف أنه في مواجهة حملات التنديد الدولية بجريمة اغتيال فرج الله الحلـو والتشهير بأجهزة القمع السورية الموجهة لدرجة السيطرة التامة من قبل الحكومة المصرية آنذاك هبـَّت صحف الأخيرة الرسمية في كلا البلدين بإيعـاذ من رجـال المخابرات تكيل الشتائم لحملات اليساريين العرب غير الموافقة على خطوة الوحدة بين القطرين واصفة إياهم بـ "العمالة وباختلاق شخصية مجهولة وقصة مقتل ِ صاحبها التي لا أساس لها من الصحة .." !! أسلوب الكذب وإخفاء الحقائق وترويع الناس وإرهابهم تحت ذريعة حماية الوطن من (الأعداء) تكرر مع نجيب سرور في مناسبات عديدة .. وهو يعود إلى مـا قبل قتل فرج الله وقصيدة الغستابو. وفي حين أن هذه الجريمة قـُدِّر لها الكشفُ الجزئي ضمن عملية التحقيق في جرائم فترة الوحدة فور سقوطهـا من قبل سلطة الإنفصـال فإن جرائم التنكيــل بالفنان نجيب سرور منذ فترة دراسته في موسكو وحتى وفاته في مصر مـازالت بحاجة إلى كشف النقاب. لقد غدا إسم فرج الله رمـزا ً لمناضلي سوريا ولبنـان والعالم وصمودهم ووطنيتهم الصادقة .. صفحـات الجرائد الوطنية وصحف الأحزاب التقدمية واليسارية والشيوعية في البلدان العربية وبلدان دول عدم الإنحياز وكذلك في البلدان الأوروبية من كلا المعسكرين فاضت بصور فرج الله وأحاديث عنه منذ اختفـائه وحتى إعلان استشهاده .. ومازالت حتى الآن محاولات أصحاب الضمائر الحية تسعى لمعرفة المزيد كي تكمل ما بدأه نجيب سـرور منذ أربعة وأربعين عامـا ً. وفي نفس الوقت كانت قصة فرج سـِفرا ً للتربية والأخلاق النضالية في بيوت الشيوعيين نمى مع ترنيمه الأطفال وشحنت بآياته نفوس الشباب .. وكم تلونت قصص وأناشيد وبيانات الفرق الحزبية والهيئات ووثائق المؤتمرات باسم فرج الله الحلو وحكاية صموده وتحديه .. بعد عشر سنوات من رحيل فرج يتعرف أخي الشاب مسوح مسوح، الذي أعطاني الجريدة التي قرأت منها قصيدة نجيب سـرور لعبدالله، وهو في الثالثة والعشرين من عمره على بشرى ابنة فرج الله الحلو وكانا يدرسان الطب في الإتحاد السوفييتي .. يسأل الفتى الطري العود بدهشة وخجل فتجيبه بفخر وتواضع: - أيوه أنا بنت الشهيد ولم يتطلب الأمر الكثير من الجهد حتى بدأت قصة حب رائعة تعثرت قليلا ً وكادت أن تنتهي بالفشل بسبب ملابسات تتعلق بالموقف السطحي من سوريا التي فيها عـُذب وقـُتل فرج وكذلك بسبب التدخل السلبي لبعض القياديين، وكانت العلاقات بين الحزبين في حينها ليست على ما يرام. أجـل فقد كان مشروع الزواج مهدداً بالإلغاء لولا الروح النضالية العالية الموروثة عن الأهل والتي تكلل الحب بسببها بالنجاح مؤكدا ً صدق المشاعر الأممية التي مات من أجلها فرج والتي أنبتت السنابل والزهور .. الحب الآن في عقده الرابع والأيقونة التي رسمها نجيب ما زالت تملأ أيامهم طالما تذكروا سيرة البطل .. أما السوريون الذين آلمهم موت فرج فقد جاء زواج ابنته لأحد أبنائهم، قبل أن يخفف توالي الأحداث من هول الكارثة، نصرا ً يشفي الصدور ويثلج القلوب ويعيد للمشاعر والمواقف الوطنية والأممية اعتبارها لما يحمله من معان إنسانية وكفاحية تكرست معها أخلاقية فرج ورفاقه ورؤيا نجيب سرور .. والآن .. من هو نجيب سـرور بعيدا ً عن غستابو دمشق ومأساتنا ؟ في معرض حديثه عن العديد من كتاب وشعراء مصر ذوي الأصول الفلاحية الفقيرة والذين نشأوا في بيئات الحرمان والإضطهاد الطبقي والأمية والبطـالة يصف الكـاتب المصري (صلاح عيسى) القرية المصرية بأنهـا "المشتل المتجـدد للقيم والمواهب" .. وبالفعل فقد عرف الأدب العربي وتاريخ الحركـات السياسية المناهضة للإستعمـار والديكتاتوريات والرجعية العديد من الأدباء والمفكرين والمناضلين والفنانين الذين أثــْرتْ بهم الحياة وتجمهر حولهم المضطهدون والمتطلعون إلى الحرية والعدالة الإجتماعية والتطور .. نجيب سـرور واحد من هـؤلاء .. فقد ولد في عام 1932 في قرية فلاحيـة صغيرة تقتات بجني مـا يزرع أهلها ومـا يربون من الدواجن والمواشي بعيدا ً عن أية رعاية حكومية وترسل أبنـاءهـا بقليل من الحماس إلى المدارس الحكومية المجانية المكتظة بالتلاميذ يتعلمون بشروط بائسة القليل من المعرفة والعلم بعكس مدارس المدن الكبيرة أو المدارس الخاصة المكلفة .. ولكن مـا يتعلمه فتى مرهف الإحساس و كبير القلب وإنساني المواقف من أدب وشعر ولغة وتاريخ وفلسفة خلال المرحلة الثانوية مثل نجيب سرور كـاف لخلق الشاعر والفنـان الذي يتحدى الظلم والإضطهـاد وهو يراه بعينيه الواسعتين وقلبه الحار قولا ً يتحرض بسببه زمـلاؤه إلى جـانبه ضد الظلم والقهر والإستغلال .. فكانت ولادة الشاعر المناضل الفتي الذي سرعـان مـا ظهرت مواهبه الفنية الأخرى .. فالشعر كلمـة سهلة التكوين وسريعة الوصول والمسرح هو الفضاء الآخر الأكثر رحابة وتأثيرا ً في حياة الناس .. يـُدخلـُهم إليه ليـُريهم مـا لا يرونه في حياتهم المعتادة .. إدراك نجيب أهمية عالم المسرح بالنسبة لقضيته الأولى، النضال من أجل كشف الحقيقة سعيا ً للحرية والعدالة، جعلته يترك دراسته الجامعية في كلية الحقوق قبل التخرج بقليل والإلتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي حصل منه على الدبلوم في عام 1956 وهو في الرابعة والعشرين من العمر. حياة البؤس والحرمان واضطهاد بقايا الإقطاعية من مالكي الأراضي والمتنفذين للفلاحين البسطاء في منطقة (الدقهلية) شمالي القاهرة، حيث نشأ نجيب سرور، تركت بذورا ً ثورية في نفس الفتى الذي امتلأ قلبه حقدا ً على الإقطاعيين وسلوكهم اللاإنساني تجاه الفلاحين .. قصيدة (الحذاء) التي كتبها عام 1956 في قصة تعرض أبيه أمامه وهو طفل للمهانة والضرب من عمدة القرية الذي سماه نجيب (الإله) وكان جشعا ً جلفـا ً قاسي القلب يتحكم بأرزاق الفلاحين وأعناقهم ويقول فيها: أنـا ابـْنُ الشـــقاء ْ ربيب ُ الـَّزريبــة و المصطبــة ْ وفى قـريتى كلهم أشـــقياء ْ وفى قـريتى (عـُمدة ٌ) كالاله ْ يـُحيط بأعناقنــا كالقــدرْ بأرزاقنـــا بما تحتنــا من حقول حـَبــالي يـلدن الحيــاة ْ وذاك المســاء أتانـا الخفيـر ُ و نـادى أبي بأمر الالـه ! .. ولبـَّى أبي وأبهجنى أن يـُقــالَ الإلــــه ُ تنـازل حتى ليدعـو أبى ! تبعت خطــاه بخـطو الأوزِّ فخورا ً أتيــه من الكبريــاء ْ أليس كليــم ُ الالــه أبـي كموسى .. وإن لم يجئـْـه الخفــيرُ وإن لم يكن مثــلـَه بالنبي وما الفرق ؟ .. لا فرقَ عند الصبى ْ ! وبينــا أسير وألقى الصغار أقول " اسمعوا .. أبى يا عيــال دعــاه الالــه " ! وتنطـق أعينهم بالحســد ْ وقصرٌ هنــالك فوق العيون ذهبنـا إليه يقولون .. فى مأتـم شــيدوه و من دم آبائنا والجدودِ وأشــلائهم فموت ٌ يطــوف بـكل الرؤوسِِ ِ وذعر ٌ يخيـم فــوق المـٌقــل وخيــل ٌ تدوس على الزاحفــين وتزرع أرجلهــا في الجـثت وجدَّاتنــا في ليـالي الشــتاء تحدثـننا عن ســنين عجــاف عن الآكلين لحـوم الكلاب ِ ولحم الحمير .. ولحم القطط ْ ..... ذهبنــا إليه فلما وصــلنا .. أردت الدخول فمد الخفــير يدا ً من حـديد وألصقني عند باب الرواق وقفت أزف ُّ أبى بالنظــر فألقـى الســـلام ولم يأخذ الجالسـون الســلام ! ! رأيت ُ .. أأنسى ؟ رأيت ُ الإله َ يقــوم فيخلـع ذاك الحـذاء ْ وينهــال كالســيل فوق أبى ! ! أهـــذا .. أبي ؟ وكم كنت أختــال بين الصغــار بأن أبي فــارع " كالملك " ! أيغدو ليعنى بهــذا القصر ؟ ! .... أهـــذا .. أبي ؟ ونحن العيــال .. لنا عــادة .. نقول إذا أعجزتنا الأمور " أبي يستطيع ! " فيصعد للنخـلة العـاليـة ويخـدش بالظفر وجــه السـما ويغلب بالكف عزم الأســد ويصنع ما شــاء من معجزات ! أهـــذا .. أبي يـُســام كأن ْ لم يكن بالرجــل وعـدت أســير على أضــلعي على أدمعي .. وأبث الجــدر " لمـاذا .. لمـاذا ؟ " أهلت الســؤال على أميــه وأمطرت في حجرهــا دمعيــه ولكنهــا أجهشــت ْ باكـيهْ " لمـاذا أبي ؟ " و كان أبي صــامتا في ذهول يعــلق عينيــه بالزاويـة وجـدِّي الضــريرْ قعيـد ُ الحصــيرْ تحسـَّسـَني و تولـَّى الجـواب ْ : " بنـي َّ .. كذا يفعل الأغنيــاء ُ بكل القرى " ! كــرهت ُ الإله .. وأصبح كل ُّ إله لدى بغيض َ الصــَّعرْ تعلمت ُ من يومهــا ثــورتي ورحت أســير مع القـافلة ْ على دربهــا المدلهــمِّ الطــويل لنلفـى الصــباح َ لنلقـى الصــباح !
بتركه كلية الحقوق ودراسته وتخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية تبدأ علاقات نجيب المتميزة مع الكتاب والأدباء والمفكرين والمناضلين والفنانين من خلال أعمـال مسرحية شعبية برز فيهـا كمؤلف وممثـل ومخرج لا فتــا ً الأنظـار إلى عبقرية نـادرة .. ولكن أحـدا ً لم يكن يتخيـل مستقبله الفني ولا مصيره الحزين .. أما سياسيا ً فقد كان في البداية يخفي انتماءه إلى جماعة (حدتو) الشيوعية قبل سفره في بعثة حكومية إلى الإتحاد السوفييتي لدراسة الإخراج المسرحي من عام 1958 وحتى عام 1963 حيث أعلن هناك تدريجيا ً ميله للماركسية ما كان له أثر سلبي لدى مجموعة الطلاب الموفدين الذين حرضوا السفارة المصرية ولفقوا التقارير ضده وفي نفس الوقت تحول تساؤل الشيوعيين العرب عن كونه يحمل الفكر الماركسي في حين أنه موفد ضمن بعثة حكومية إلى شكوك أقلقته وأثارت في نفسه اكتئابا، وهو الإنسان الثوري الوجداني الصادق الواثق بالفكر والحزب والشيوعيين .. هذه المعاناة جعلته يبالغ في تأكيد صدقه ونفوره من مجموعة الموفدين وعدم ارتباطه بأية جهة غير شيوعية عن طريق تشكيل مجموعة (الديمقراطيين المصريين) في السنة الدراسية الثانية عام 1959 وتعمد المشاركة في الحياة الطلابية وإلقاء الخطب الحماسية والبيانات ضد النظام الديكتاتوري وسياسة القمع في مصر وسوريا والتي امتلأت بسببها سجون البلدين بالآلاف من أبناء الوطن الشرفاء من عمال وفلاحين ومثقفين. عندها فقط أزيلت الشكوك عن نجيب الذي سرعان ما أحاطه الشيوعيون من بلدان الشرق الأوسط بالمحبة والدعم وساعدوه بالتعاون مع إدارة الجامعة لحل مشكلة المنحة الحكومية المسحوبة وإبقائه في موسكو بمنحة حزبية أممية. عن نجيب سرور وسيرة حياته في موسكو يتحدث أقرب أصدقائه إليه الدكتور أبو بكر يوسف الذي تعرف إليه وعاصره في فترة دراسته في كلية الآداب بجامعة موسكو الحكومية فيقول: " منذ أن تعرفت بنجيب سرور أحست بأننى مشدود بهذه الشخصية الفـذة كقطعة حديد إلى مغناطيس قوي. كان فارق السن بيننا غير كبير، إذ كنت فى العشرين، و كان هو فى أواخر العشرينيات، و لكن الفارق فيما عدا ذلك كان هائلا. كان نجيب- بالنسبة إلي على الأقل- كنزاً لا يفنى من المعرفة، وشخصية متعددة المواهب إلى درجة خارقة. فقد كان ممثلا ً وشاعرا ً ومخرجا ً وناقدا ً وكاتباً وكانت معرفته بالأدب العربي والغربي واسعة. ولكثرة ما لاحظت فى أشعاره من استشهادات بالتاريخ و الأساطير المسيحية ظننته في بداية تعارفنا مسيحيا ً، خاصة وأن الاسم (نجيب سرور) أقرب الى الأسماء المسيحية فى مصر. و تحرجت أن أسأله، و لكنه ملأ أمامى ذات مرة استمارة إقامة فرأيت جواز سفره، و كان اسمه فيها (محمد نجيب محمد سرور هجرس)! و فيما بعد لمست كيف كان يستلهم فى أشعاره التاريخ و الأساطير الفرعونية و الإغريقية و الشعبية المصرية والفلكلورية العربية، إذ كانت الروافد الثقافية المختلفة تمثل لدى نجيب نهرا ً إنسانيا ً عريضا ً يغترف منه كيف يشاء . أما الإنتماء الديني فكان مسألة تركها وراء ظهره! " ويضيف الدكتور أبو بكر يوسف: " وكان نجيب شخصية معقدة، ولكنها فى غاية الغنى والعمق، منطلقة و مرحة إلى أقصى حد. كان لا يكف عن إلقاء النكات والقفشات الفورية، بنت الساعة. وحتى فى ذروة الجد و احتدام النقاش تفلت رغما عنه، فينفجر الحاضرون بالضحك، وينفرط عقد التزمت والجدية." شخصية نجيب سرور، كمـا رصدهـا الدكتور أبو بكر يوسف خلال السنوات الخمس من صداقتهمـا اليومية في موسكو وبعدهـا من خلال الإتصالات المستمرة معه وهو في هنغاريا ثم في مصر، مثيرة رغم جانب البساطة الكبير فيها .. فنجيب، الإنسان صاحب العقل الراجح والقلب الكبير والأحاسيس الصادقة تجاه الناس والوطن، يتعرض إلى المتاعب العديدة لأسباب تتعلق بمنهجه في الحياة وكتاباته ومداخلاته مما ينتزعه أحيانـا ً من حالة الوداعة والظرافة المعتادة إلى حالة الإضطراب والغضب والسرعة في اتخاذ القرار .. أغلب الظن أن ذلك مردُّه حالة الإحبـاط الناجمة عن اكتشافه المفاجيء للكثير من الحقائق السلبية عكسا ً لتوقعاته وثقتـه .. لذلك وجدنـا نجيب سرور، الملاحـَق والمتـَّهم من قبل أجهزة الأمن في مصر بسبب أشعاره ومقالاته وخطبه، إضافة إلى منحته الدراسية الملغاة وجواز سفره المسحوب وعشرات التقارير الأمنية ضده، يسـارع إلى مغادرة موسكو بطريقة غاضبة بسبب ملابسات كان من الممكن حلـُّهـا، إلى بودابست التي لم يطق البقاء فيها أكثر من سنة بسبب مـا واجهه من تعامل سيء من قبل من وصفهم بذوي الفكر الصهيوني المتغلغل في صفوف وهيئات الحزب الشيوعي الهنغاري، وقد عبر عن موقفه من ذاك الواقع المخزي بقصيدته الشهيرة (المسيح واللصوص)، فقفل راجعـا ً إلى القاهرة عـام 1964 ليبـدأ مرحلة أخرى من حيـاته مختلفة شكـلا ً وممـاثلة جوهرا ً. حنين نجيب إلى مصر لم يخفه حقده الكبير على السياسيين وضباط المخابرات الذين ناله منهم مـا اضطره إلى قبول حالة النفي المحدودة التي عاشهـا. وقد عبر عن حالة الإحباط واليأس والتخبط وهو في موسكو قبيل مغادرتهـا إلى بودابست في قصيدة قـال فيهـا: يا مصر يا وطنى الحبيب ْ يا عشَّ عصفور رمته الريحُ فى عش ٍ غريبْ يا مرفئي آتٍ انــــــــا آتٍ .. و لو فى جسميَ المهزول آلافُ الجراحْ .. و كما ذهبتُ مع الرياح.. يومـــا ً أعودُ مع الرياح .. و متى تهبُّ الريح ُ أو هبـَّتْ فهل تأتى بما يهوى الشراع ْ ؟ ها أنتَ تصبحُ فى الضيــاع ْ فى اليأس.. شاة ً عاجزة ْ.. ماذا لها إن سـُلـَّتِ السكينُ غيرُ المـُعجزة ْ ؟! فهو أمام كرهه للمنفى وحبه العميق الصادق لوطنه لا يستطيع أن يخفي رغبته الجامحة بالعودة دون اكتراث بما سيلقاه من مصير وما سيواجهه من متاعب. ثم إنه لا يخفي ما أقلقه في المنفى من حالة ابتعاد عن أهم مقدساته وهو الكلام (لزوم ما يلزم): يا سيداتى معذرة .. أنا لا أجيد القول ، قد أُنْسِيتُ في المنفى الكلام وعرفتُ سرَّ الصمت .. كم ماتت على شفتيَّ في المنفى الحروف الصمت ليس هنيهةً قبل الكلام ، الصمت ليس هنيهة بين الكلام ، الصمت ليس هنيهة بعد الكلام ، الصمت حرف لايُخَـط ُّ ولا يقال الصمت يعنى الصمت .. هل يغنى الجحيم سوى الجحيم ؟ !
شخصية نجيب الإنسان المناضل والفنان والشاعر والأديب تكونت في مصر وصـُقلت في موسكو من خلال الحياة السياسية والثقافية والفنية التي رمته في بحار الأدب والفلسفة والتاريخ فالتهم مصادرها بنهم .. والغريب، كما يفيد الدكتور أبو بكر، أن نجيب لم يستطع استخدام اللغة الروسية في المحادثة بشكل جيد وكان يكره قواعدها الصعبة وتـُضحك زملاءه كلماتـُه بنهاياتها الإعرابية الخاطئة والتي كان يفسرها على أنها (الحالة الإعرابية السابعة)، ومع هذا فقد كان يقرأ بسرعة فائقة وجلد نادر غالبا ً ما يصاحبه توتر ذهني وحالة عصبية تزيدها مبالغته في تناول المنبهات. أحد الدلائل على قراءته ومحبته للأدب الروسي ترجمته لمسرحية الأديب الروسي أنطون تشيخوف (بستان الكرز) بالتعاون مع صديقه الحميم ماهر عسل في العام 1964. الرصيد الثقافي الكبير عند سرور أثرى رؤياه الفلسفية وتحليلاته ومنهجيته المادية وعمق نظرته إلى الأشياء. شواهده في قصائده بالعامية والفصحى وفي أعماله المسرحية تنم عن اكتنازه سيولا ً من المعرفة وعن ذاكرة قوية وذكاء خارق .. في موسكو كتب نجيب دراسات نقدية ومقالات ورسائل وقصائد نـُشر بعضها في مجلات لبنانية أما ما لم ينشر عند كتابته فقد جمع بعضه فيما بعد ونشر بواسطته أو بمبادرة من أصدقائه بعد وفاته وترك الآخر كما هو في مكتبة بيته .. مثل: - رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ - دراسة طويلة كتبها عام 1959 ونشر فصولاً منها في المجلة اللبنانية (الثقافة الوطنية) 1959 ثم جمعها وقام وقدم لها محمد دكروب وصدرت في سلسلة (الكتاب الجديد) - دار الفكر الجديد ، بيروت 1989 ثم أعيد نشرها كاملة عن دار الفارابي عام 1991 - أعمـال شــعرية عن الوطن و المـنـفي - ديوان كتب قصائده في موسكو وبودابست بين 1959 و 1963 و لم ينشر . - عن الإنســان الطيب - ديوان كتبه في مـوسـكو فيما بين 1959 و 1963 و لم ينشر - رسـائل إلي صـلاح عبد الصـبـور - كتبها في مـوسـكو بين 1959 و 1963 و لم تنشر . ولع نجيب بالأدب والفلسفة وشغفه بالقراءة وكتابته للشعر بالعربية الفصحى لم يكبت رغبته الدائمة بمخاطبة الناس عبر المسرح .. كان التمثيل في نظره أداة التعبير الأكثر نجاعة .. ويقول أصدقاؤه بأنه لم يلقِ ِ عليهم قصائده بل قام بتمثيلها .. وكان له من المهارة في الأداء والتحكم بتعابير الوجه وحركة اليدين ما يشد الناس إليه فينشدوا بكليتهم إلى موضوع القصيدة أو الحديث مثيرا عواطفهم ومشاعر الحب أو الكراهية والضحك أو العبوس وتدفق الدموع حسب الموقف . أي موضوع عند نجيب سرور هو مادة يسخرها لربط الأمور وتسليط الضوء على أسباب معاناة الناس والظلم والاستغلال والتخلف .. هذه البراعة عند نجيب سرور أساسها دراسته لفن التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة وقد حرص على التعرف في موسكو على المدارس المختلفة في الفنون المسرحية وانتقاء منها ما يريد بحرية وشجاعة ودون قيود فأصبح بعدها يتوق إلى العودة إلى مصر ليلتحم بشعبه ورفاقه وطليعة المثقفين المصريين ويقوم بدوره النضالي من أجل أن تحيا مصر ويسعد شعبها. مع وصول الفنان والشاعر المناضل إلى مصر عام 1964 تبدأ حياته الفنية والأدبية والسياسية، التي استمرت قرابة الأربعة عشر عاماً حتى وفاته المبكرة جدا ً في خريف عام 1978 متراجحة بين النجاح والمعاناة الشديدة، بكتابة وتقديم النصوص الدرامية ومسرحياتها، استهلها في عام 1965 بعمل مسرحي من إخراج (كريم مطاوع) وتحمل عنوان (ياسين وبهية) وهي رواية شعرية كتبها في بودابست قبل عام واعتبرها الجزء الأول من ثلاثية ضمـَّت (آه يا ليل يا قمر)، المسرحية الشعرية التي كتبها عام 1966 وأخرجها جلال الشرقاوي عام 1967 و (قولوا لعين الشمس)، مسرحية نثرية في ثلاثة فصول ، كتبها عام 1972 ، وإخرجها توفيق علي عام 1973. ويستمر عطاء نجيب سرور في المسرح فيقدم مسرحية (يا بهية وخبريني) عام 1967 بإخراج كرم مطاوع ثم (آلو يا مصر) وهي مسرحية نثرية ، كتبت في القاهرة عام 1968 و(ميرامار) وهي دراما نثرية مقتبسة عن رواية نجيب محفوظ المعروفة من إخراجه عام 1968. ويستمر تألق نجم نجيب سرور مع هذه الأعمال التي نشرت معظمها كتبا ً أثـْـرت المكتبة المسرحية العربية في طفرة الصعود في السبعينات. في عام 1969 يقدم نجيب سرور من تأليفه وإخراجه المسرحية النثرية (الكلمات المتقاطعة)، التي تحولت فيما بعد إلي عمل تليفزيوني أخرجه جلال الشرقاوي ثم أعاد إخراجها للمسرح شاكر عبد اللطيف بعد عشر سنوات واستمر تألق هذا العمل الفني حتى عام 1996. وفي عام 1969 قدم المسرحية النثرية (الحكم قبل المداولة) وكتب المسرحية النثرية (البيرق الأبيض) وفي عام 1970 قدم (ملك الشحاتين) وهي كوميديا الغنائية مؤلفة بالإقتباس عن أوبرا "الجروش الثلاثة " لبرخت و (الشحاذ) لجون جاي من إخراج الشرقاوي. تتجدد معاناة نجيب سرور بشدة في العام 1971 لدى قيامه بكتابة وإخراج العمل المكرس لمذابح أيلول الأسود في الأردن بعنوان (الذباب الأزرق) وجاءت بقالب الكوميديا السوداء، إذ تم منع عرض هذه المسرحية من قبل أجهزة الرقابة في القاهرة. ثم كتب في العام 1974 المسرحية الشعرية (منين أجيب ناس) وقد عرضت في نفس العام أعقبها بمسرحية نثرية لم تعرض وتحمل العنوان (النجمةْ امُّ ديل) ثم بالدراما الشعرية المقتبسة عن مسرحية (هاملت) لشكسبير وحملت العنوان (أفكار جنونية في دفتر هملت). معظم أعمال نجيب الدرامية طبعت ونشرت بشكل فردي وكذلك ضمن مجموعة الأعمال الكاملة التي صدرت عام 1997. أغلب أعماله الشعرية كتبها فرادى خلال فترات متباعدة ثم جمعها في دواوين أو مجموعات. فالمجموعة الشعرية (التراجيديا الإنسانية) كتب بعض قصائدها في مصر منذ 1952 وضمنها قصائد أخرى كتبها في موسكو قبل سفره إلى بودابست وقد أصدرتها "المصرية للتأليف والنشر والترجمة" عام 1967. والمجموعة الشعرية (لزوم ما يلزم) كتب قصائدها في هنغاريا في العام 1964 وصدرت في العام 1975. أما أعماله الشعرية في موسكو وبودابست (1959 – 1963) والتي سمَّـى ملفها (عن الوطن والمنفى) فلم تـُنشر .. كتب نجيب سرور رباعيات وقصائد هجائية باللغة الشعبية المصرية ضمنها غيظه وحقده على الكذب والنفاق والخداع الذي اتسمت به السياسة العربية بعد حرب السادس من حزيران واستهجانه للمثقفين العرب الذين صمتوا عن قول الحقيقة أو باعوا أنفسهم لدوائر السياسة .. كتبت هذه الرباعيات المثيرة خلال خمسة أعوام كان آخرها في العام 1974 وتم تبادلها سرا ً في محيط الأصدقاء الضيق وهي تحمل عنوانا ً حذفت منه اللفظة غير المقبولة واصطلح في معرض الحديث عن أعمال سرور على تسمية هذه الرباعيات بـ (الأميـَّـات) دون أن تنشر ورقيا ً. يجمع النقاد على أن هذه الرباعيات التي كسر نجيب في صياغتها الحواجز والخطوط الحمراء تشير إلى حالة الإحباط الكبير الذي ألم بالشاعر العبقري والمناضل العنيد خاصة إبان حكم أنور السادات. في عام 1978 صدر للفنان (بروتوكولات حكماء ريش) وهي عبارة عن أشعار ومشاهد مسرحية و (رباعيات نجيب سرور) التي كان قد كتبها بين عامي 1974 و1975. استمر عطاء نجيب سرور حتى وفاته فقد كتب ديوان (الطوفان الكبير) وديوان (فارس آخر زمن) عام 1978 ولكنهما لم ينشرا حتى صدرت أعماله الكاملة في العام 1997. ولنجيب باع كبير في النقد الأدبي والمسرحي. فبالإضافة إلى عمله الكبير (رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ) هناك الكثير من المقالات النقدية مثل (تحت عباءة أبي العلاء) و(هكذا قال جحـا) و(حوار في المسرح) و (هموم في الأدب والفن) وغيرها مما لم ينشر في حينه أو نـشر في الصحف والمجلات المصرية واللبنانية وغيرها .. مع بدايات نجيب سرور تجد نفسك أمام فنان مرهف الإحساس محب لجميع الناس، صدره واسع، ربما عصبي المزاج أحيانا ً ولكنه ظريف ومرح غالبا ً. وفي نفس الوقت تدرك الرصيد الثقافي الكبير عند شاعرنا الذي لا يوفر فرصة للربط الفلسفي والتاريخي وسرد الشواهد من التاريخ والأسطورة ليثبت ما يريد أن يقول. في أول قصائد التراجيديا الإنسانية (حب وبحر وحارس) نقرأ: كانوا قالوا : " إن الحب يطيل العمرْ " حقا .. حقا .. إن الحب يطيل العمرْ ! ! حين نحس كأن العالم َ باقـة ُ زهر ْ حين نشفُّ كما لو كنا من بللور ٍ حين نرقُّ كبسمة فجر ْ حين نقول كلاما ً مثل الشعرْ حين يرف ُّ القلب كما عصفور ْ .. يوشك يهجر قفص الصدرْ .. كي ينطلق َ يعانق َ كلَّ الناس ! كنا نجلس فوق الرملة ْ كانت في أعيننا غنوة ْ لم يكتبـْها يوماً شاعر .. قالت : - .. صف لي هذا البحرْ ! - يا قبـَّرتي .. أنا لا أُحسـن فن الوصفْ - وإذن .. كيف تقول الشعر ؟ ! - لست أُعدُّ من الشعراءْ أنا لا أرسم هذا العالم بل أحياه ْ أنا لا أنظم إلا حين أكاد أُشــل ْ ما لم أوجز نفسي في الكلمات هيا نوجزْ هذا البحر - كيف .. أفي بيت من شعر ؟ - بل في قبلة ! ! عبر الحارس .. ثم تمطى .. " نحن هنا " ! ومضى يلفحنا بالنظرات ْ " يا حارسَ .. إنا لا نسرق ْ يا حارس َ يا ليتك تعشق ْ يا ليت الحب يـُظـِلُّ العالمَ كلــه ْ يا ليت حديثَ الناس يكون القبـلة ْ يا ليت تـُقام على القـِطبين مظلة ْ كي تحضـن كل جراح الناس كي يحيا الإنسان قرونا في لحظات " ومشى الحارس .. قالت " أوجزْ هذا البحر " ! كان دعاء يورق في الشفتين - يبدو أن الحارس يملك هذا البحر يكره منا أن نوجزَه في القبلا ت ! - فلنوجزْه في الكلمات .. أترى هل يملك أن يمنع حتى الكلمة ؟ !
فالحب عند نجيب ليس مجرد مشاعر بين الحبيبين وإنما هو حالة إنسانية يتمناها للجميع مظلة ً عند القطبين تحتضن كل الناس .. ويضيف في قصيدته الثانية: " قبرتي .. لا يعلو شيءٌ فوق الكلمة" وفي القصيدة الثالثة: يا قبرتي .. بعـُدتْ عنا عينُ الحارس هيا نوجزْ هذا البحر لن ندخلَ في ملكوت الأرض ما لم نرجعْ يا قبرتي كالأطفال
وعندما تسأله حبيبته عن الجنة والإنسان على الأرض يقول: .. شقَّ صحارى سبع ذاق الويل لاقى كل صنوف الهول جاع .. تعرى .. عـُلـِّق في السفود شـُرِّدَ .. طوردَ .. سـُمِّـر فى الصلبان كـُتـِّف .. أُلقـي للنيران مات مسيح ٌ يا قبرتي بعد مسيح ٌ لكن لم يمتِ الإنسان ! كيف يموت .. وهو يرصُّ الـُّطوبة َ فوق الطوب يبنى في الأرض الملكوت يصنع يا قبرتي الجنـَّة .. ؟ !
بدايات نجيب سرور الشعرية تشير إلى تفاؤله وثقته بانتصار الإنسانية والخير وانحسار الظلم ونفوذ الظالمين .. في قصيدته (أغنية عن طائر) مثلا ً يتحدث بلسان الثائر السلبي وقد فقد الأمل بمغزى الحياة قائلا ً: إلام َ نجــيء ثم نروح لا جئـنا ولا رحنـا إلام َ نعيش ثم نموت لا عشنا ولا متنــــا هو المنفى إذا كان البقاء قرين َ أن نفنــى يتامى نحن يـا أطيارْ دعوا الآهاتِ للأشجارْ فقد جـُزَّتْ بلا منشارْ! علام َ نبتنى الأعشاش والحيـَّاتُ فى الأعشاش إلام َ نسير كالعميان والممشى طريق كبـــاش وفيم َ الخلف كم منا قتيــل مثــلما من عــــاش هو الحتف ُ الذي يُصمي برغم الضوء جيش فراش ويضيف: إذا كانت أغانينــا تباعــاً مثلنا تـــــروى وهذا الكون يطوينا فهل في مرة يـُطوى فما الجدوى.. فما الجدوى.. فما الجدوى ثم يخاطب المتشائم منبهـا ً ومؤكدا ً على دور الفن في معنى الحياة ً: رويدا أيها الثائر ْ فليس القدر الساخرْ ولكن دوما ً الشاعرْ ! إذا ما الطائر الصدَّاح قد هدهده اللحن ُ ورفت نسمة ُ الفجر على أشجانه تحنو هناك السحر والأحلام والألحان والفن في قصائد ديوانه ذي الموضوع الواحد (لزوم ما يلزم) يعالج موضوع العلاقة بين الناس والحياة مؤكدا ً كرهه للنفاق والجبن بقدر ما هو يعشق الحقيقة. وهو يستخدم دون كيخوت وحبيبته دولسين الوهمية ليقدم فلسفته في الشجاعة والبطولة متهما ً فرسان هذا العصر باللصوصية: " هو لم يمت بطلاً ولكن مات كالفرسان بحثاً عن بطولة .. لم يلق في طول الطريق سوى اللصوص ، حتى الذين ينددون كما الضمائر باللصوص .. فرسان هذا العصر هم بعض اللصوص ! " . ويضيف بصيغة حوارية محملا ً الناس، ويقصد بهم أولئك المفترض أنهم معنيون بالنضال من أجل الخير، مسؤولية الضعف والانكسار: إنا لتـُعجزُنا الحياة .. فنلومها .. لا عجزنا ، ونروح نندب حظنا ، ونقول : هذا العصر لم يخلق لنا ! - هو عصرنا ! - لكننا لسنا به الفرسان .. نحن قطيع عميان يفتش فى الفراغ عن البطولة ، والأرضُ بالأبطال ملأى حولنا ! - ملأى .. ولكن باللصوص ! - الكأس حقاً نصف فارغة فماذا لو ترى النصف المليء ؟ ! لو لم تكن في العالم الأضداد ما قلنا : " عظيم أو قميء " ! - إني لأعلم .. غير أن الزيف يغتال الحقيقة ! ويصل بنا إلى أن حياة الجبناء مليئة بالخزي ولن نصل إلى الحقيقة من دون إقدام: قل ما تريد لمن تريد كما تريد متى تريد .. لو بعدها الطوفان قلها في الوجوه بلا وجل : " الملك عريان " .. ومن يفتى بما ليس الحقيقه .. فليلقني خلف الجبل ! إنـي هنالك منتظر .. والعار للعميان قلبـا ً أو بصرْ ، وإلى الجحيم بكل ألوان الخطرْ !
(بروتوكولات حكماء ريش) هي حوارية ضدَّين مؤلفة من ثماني قصائد صيغت بقالب المشاهد لتعبر عن منهجية وسياسة أصحابها وهم الحكماء من الشعراء والكتاب والفنانون والرسامون وغيرهم من الذين أبرموا هذا الاتفاق ووقعوا هذه البروتوكولات في مقهى ريش، المعروف في القاهرة كملتقى للمهتمين بالفن والأدب، الحقيقيين منهم والأدعياء. يافرسانَ الأمس ِ .. غير الأمس مع الفرسان .. خلف غيوم اليأس ِ .. فإلى مقهى ريش .. كلُّ العالم مقهى ريش .. كلٌّ يـُغرق عاره .. في أغوار الكأس ِ ! . بعد حرب أكتوبر وما تلاها من مساع ٍ عربية موجهة من قبل الغرب وبرعاية أمريكية بدأت سياسة الانفتاح الاقتصادي في البلدان العربية المعروفة في النصف الثاني من السينيات بتشددها تجاه القطاع الخاص تكريسا ً لمباديء الاقتصاد المنهجي والسياسة الشمولية ورأسمالية الدولة، وبرزت آثارها جلية على الشارع المصري وفي كافة مجالات الحياة وتأثر الناس بها مكونين مجتمعا ً استهلاكيا ً يستمتع بالطـُّعْم دون أن يشعر بالافتراس الذي جـُندت لسن قوانينه الجديدة شرائح من الأفراد الأنانيين والطفيليين شاركهم أرباحهم وسهـل لهم أمورهم موظفون كبار وأصحاب نفوذ ومدراء دوائر حساسة مما خلق البيئة الملائمة للفساد وتحين الفرص وتكريس الجهل وتكدس الأموال في جيوب حفنة قليلة على حساب فقر ٍ مدقع سحق الملايين فازداد الصراع الطبقي حدة .. ثقافة المجتمع الاستهلاكي احتلت الساحة مروجة لمفرداتها وأزيائها وصرعاتها ومراسمها الجديدة وبرز فنها وأدبها السطحي والتافه على حساب الأدب الإنساني والفن الراقي المرتبط بحياة الناس وكفاحهم من أجل الحرية والعدالة. في هذه الفترة ظهرت (بروتوكولات) نجيب سرور لتعبر عن السخرية مما سمي بالحياة العصرية وما يحيط بها من تفاهات وسطحية وانتهازية وخرق لمفاهيم الناس البسطاء في المجتمع الفلاحي وتسويق للبذاءة والدعارة وعصاباتها التي أصبحت الحدود لها مفتوحة وتأتيك من عواصم العالم .. لا تصمت أبدا .. إن الصمت جهاله .. واحذر أن تتكلم في الموضوع لا موضوع هنالك إن الفلك اليوم عطاره كن فيهم "خضر العطار" ... البحر سباق والموجات ألــوف "الموجه تجري ورا الموجه عايزة تطولها " عجـِّلْ واركبْ أيــَّة موجه فالأيام دول .. ويلٌ للبسطاء ذوي القلب الأبيض .. حين تفاجئـُهم أنواء ُ الطقس .. الناس اثنان واحـد ُ ينجو في الطوفان .. والآخر يغرق في كأس .. " إنـي أغرق .. أغرق .. أغرق في هذا الكأس" ..... يا أيتها المستشرقة المزعومة والعطشى لأحاديث الفرسان فرسان الأمس الخصيان الفكر بخير .. ْ والأدب بخير ْ .. والفن بخير ْ .. ونحن بخير ٍ لا تنقصنا غير َ .. مشاهدة القرده .. من أبناء يهوذا .. في أقنعة المستشرق والمستغرب .. بجوازات السفر الصادرة بأورشاليم .. والمنسوخة في باريس .. والمختومة في بيروت .. والقادمة إلينا من واق الواق .. سائحة في حر الشمس .. حقد نجيب سرور الدفين على العنصرية الصهيونية قديم وقد فجره سابقا ً وهو ما يزال طالبا .. ولكنه مع زملائه (حكماء ريش) يصب جام غضبه على الشارع المصري الذي أصبح مرتعا ً للإسرائيليين القادمين بثقافاتهم القذرة وبضائعهم المزيفة وألاعيبهم ومهماتهم السرية في التجسس لصالح إسرائيل: يا سيدتي الأفعى .. اللهجة من أعماق الشـَّام .. لكن العبرية َ بومٌ ينعق في ذيل الكلمات ! وأنا أذني يقظة ْ لا تخطيء زحف الأفعى .. من رهط يهوذا في أي قنــاع ! ما حاصل جمع المعلومات .. حتى الآن .. من ثرثرة الخصيان .. فرسان الأمس .. عشـَّاق السوق الصحفية .. في بيروت ! ذات التمويل المجهول أو المعلوم ؟! - القوم عطاش ٌ للجنس - كم فروج دانمركي ذُبح وروقب .. ثم استنزف .. حسب شريعة موسى والتلمود .. والتوراه .. بغلاف "الموعد" و "الشبكة" و "الصياد" و "رجوع الشيخ" و "الفاشـوش " لا تقتلْ .. بدءُ وصايا عشرْ .. يقصد موسى .. "لاتقتلْ إلا .. غير يهوديّْ " ويـلٌ للفروج الدانمركيّْ .. آهاً .. هاملت .. سبق السـم ُّ السيف ْ سبق العـزَلُ السيف ْ .. نم يا هملت ! وفي بروتوكول آخر يقول: هذا عصر يـَهتك فيه الفأرُ .. عرضَ الفيل ! ... فلـْتمرحْ في الأرض الفــئران! هذا عام الفيل ْ !
ثم يعود ليذكرنا بالنزاهة وصوت الحق: ألحقَّ أقول لكم .. لا حقَّ لحيًّ إن ضاعتْ .. فى الأرض حقوق الأمواتْ .. لاحق لميت إن يـُهتك ْ .. عرضُ الكلمات ! وإذا كان عذاب الموتى أصبح سـِلعه .. أو أُحجية ً .. أو أيقونه .. أو إعلانـا ً أو نيشانـا .. فعلى العصر اللعنة .. والطوفان قريب ! الأبطال .. بمعنى الكلمة .. ماتوا لم ينتظروا كلمه .. ما دار بخلد الواحد منهم .. حين استشهد .. أن الإستشهاد بطوله .. أو حتى أن يـُعطي شيئاً .. للجيل القادم من بعده .. فهو شهيدٌ لا متفلسفْ ماذا يتمنى أن يأخذ .. من أعطى آخر ما يملك .. في سورة غضب أو حب ؟! قصائده (إحباطات شعرية) تعكس حالة من اليأس والنفور من عالم بلا عدل ولا حب ولا جمال .. حتى الطيور هربت من أعشاشها: وها أنا أغوص في رمال الصمت .. واختنق . العش يحترق .. ويهرب العصفور ..
ثم:
ألليل أخطبوط ! مدينتي في الليل تدَّعي الهدوء .. لكنني أمــوء .. كقطة جريحة في البرد .. مدينتي أبـراج .. والبرد كالكرباج .. مشيت طول اليوم .. كما مشيت كل يوم .. في الليل والنهار .. بغير مأوى يا مدينة السـُّواحْ .. يا جـُعبة الجرَّاحْ ! هذا الهدوء مصطنعْ .. والوحش يستريح .. لكي يقوم في الصباح .. يستأنف الهجوم ! الأخطبوط : - بطاقتك ! - تفضلوا ! - ما مهنتك ! - كثيرة هي المهن ! لكنه النصيب ! - ما حرفتك ؟ - قد أدركتني حرفة الأدب ! أنا أقول الشعر ! - وتكتب الأشعار ؟ - وآسف أنا ! ألم أقل هو النصيب ؟! - هو التشردُ .. الشـَّغبْ .. هيا معي ................. ويثقب الصباح نافذة .. هذا أنا فـي الحبس ! الليل والنهار أخطبوط
ويختم قصائد الإحباط بقوله: يـا للعصر اللـَّولبْ فلنبـدأ من حيث بـدأنا !!
أما (أميـّات) نجيب سرور التي استغرقت كتابتها خمسة أعوام (1969 – 1974) فهي قصائد هجائية بقالب الرباعيات وهي عمل خاص وشخصي ولم يقصد نجيب نشره للعامة بقدر ما أراد أن يسجل فيه رغبة دفينة في التعبير عن رفضه للقوانين المقلوبة والنفاق والتصنع وتحكم التافهين بشروط معيشة وإبداع الموهوبين والعباقرة والشرفاء، بلغة تختلف كليـا ً عن لغة الكتابة والأدب المعروفة والمشروعة فجاءت من حيث الشكل عملا ً غير قابل للنشر والتداول ولا حاجة تبرر له ذلك. والعمل بقي محفوظا ً في مكتبة شهدي، ابن الفنان الراحل، لمدة عشرين سنة بعد وفاته دون أن ينشر. في عام 1998 أضاف شهدي نص العمل إلى موقع على شبكة الإنتيرنيت باسم والده منوها ً إلى خصوصيته وقد أثار هذا الإجراء زوبعة كبيرة تعرض شهدي بسببها إلى متاعب كبيرة أمام أجهزة الرقابة والمحاكم في القاهرة. و(الأميَّـات) جاءت كرد فعل الشاعر على وضع الساحة العربية خلال الفترة من حرب حزيران إلى حرب تشرين مع إسرائيل وما تلاها من اتفاقيات معها. في فترة السبعينيات واجهت نجيب سرور ظروف قاسية للغاية وصل فيها اضطهاده وفصله من عمله مدرسا ً في أكاديمية الفنون في القاهرة إلى التشرد المأساوي ما جعله، وهو الإنسان الذي يكره الصمت والخنوع والاستسلام، إلى كتابة بعض القصائد الساخنة انتقد فيها بشكل لاذع سياسة حكومة أنور السادات تجاه الوطن والشعب وخاصة قمع الحريات العامة وحرية التعبير والتسلط على المثقفين والتنكيل بالشرفاء والوطنيين. تحاملت أجهزة السلطة في حينها على شاعرنا الكبير فلفقت له التهم المختلفة وساقته استنادا ً إلى شواهد كاذبة إلى مستشفى الأمراض العقلية .. وقد تكرر ذلك سعيا ً من السلطة لتحطيم نفسية نجيب سرور، العبقري والمناضل العنيد وذخر الفكر الثوري والإنساني. عبقرية نجيب سرور يشهد لها تراثـه .. ولكنه قدر المناضلين .. فمثلمـا وقع فوتشيك بأيدي النازيين و شهدي عطية بأيدي الجبناء وأنطون سعادة وفرج الله الحلو والمئات غيرهم بأيدي الجلادين القذرة وقع نجيب سرور، نظرا ً لخطورة لسانه الحر وفكره النير وقدرته العظيمة على التحريض، عدة مرات بأيادٍ مجرمة سواء في بودابست أم في القاهرة .. والشاعر يدفع ثمن فراسته .. فرؤية نجيب لما خلف الصور التي تبدو لنا عادية أوصلته إلى حقائق كان من المستحيل نيل قناعة المعنيين بها في ذلك الوقت ولكن الحياة أثبتت صحتها .. فلنقرأ ما قاله في قصيدته الشهيرة (المسيح واللصوص) بعد تعرفه على الكثير من خلفيات الأمور في هنغاريا، البلد الاشتراكي الأوروبي وقد تغلغل النفوذ الصهيوني في صفوف حزيه وحكومته والتي يتهم فيها المسيح بالتساهل والتسامح مع اللصوص مما أعطاهم الفرصة للاهتمام بمصالحهم والمتاجرة بنفس شعارات المسيح عدوهم. يحاور الشاعر المسيح متسائلا ً ومستهجنا ً طوباويته فيعده بالعودة لتصحيح الأوضاع ويجري الحوار التالي : - هل تـُصدقُ ما تقولٌ؟ - الأبُّ قال بأنني حتما ً أعودْ مَلِكاً على أرض البشرْ لتَسودَ في الناس المسرةُ و السلامْ! - لو عدتَ.. منذاَ يعرفـُكْ؟ - سأقول: جئتُ أنا المسيحْ! - سيطالبونكَ بالدليلْ. - ستكونُ في جيبي البطاقةُ و الجوازْ. - هذا قليل .. ما أسهـلَ التزويرَ للأوراقِ في عصرِ اللصوصْ. و لديهمُ (الخبراءُ) سوف يؤكدونْ أن الهويةَ زائفةْ! - لكنْ عليها الختمُ..ختمُ الأبّْ.. - يا بئسَ الدليلْ! سيؤكدُ الخبراءُ أن الختمَ برهانٌ على زيفِ الهوية! - سأريهمُ هذى الثقوبْ.. في جبهتي - انظرْ- و في الكفينِ ِ .. في الرجلين ِ.. جئتُ أنا المسيحْ ! - سيقول لوقا: قالَ مرقصُ إنَّ متََّى قال يوحنَّا يقولْ: "في البدء كانَ الأمرُ إصلبْ و الآن صار الصلب أوجَبْ!" حتماً ستُصلبُ من جديد همْ في انتظاركَ- كلُّ اتباعِكَ، قطعانُ اللصوص- همْ في انتظاركَ بالصليبْ... ماذا؟ أتبكى؟ كلُّ شيءٍ مضحكٌ حتى الدموعْ! العصرُ يضحك من دموعك، من دموعي، عصرنا عصرُ اللصوصْ بل أنتَ... حتى أنت لصٌّ! لو لم تكن ما كان في الأرض اللصوصْ! حتى أنا لصٌ.. ألم أُخدع طويلا باللصوص؟! من أعمال نجيب العظيمة (أفكار جنونية في دفتر هـاملت) وهي دراما شعرية قدم لها بما يلي: " ظل المؤرخون والمحققون والدارسون يبحثون قروناً عن " دفترهاملت " الذي أشار إليه شكسبير في المشهد الخامس من الفصل الأول حتى يمكن حل " لغزهاملت " المحير والمعجز وحسم الخلافات المستمرة والمعارك الموسمية حوله .. وبعد جرد ومسح المكتبات العامة والخاصة وكذلك مكتبات الجامعات والأكاديميات والصالونات والأديرة في جميع أنحاء العالم يئس الجميع من العثور على مخطوط الدفتر حتى ولو في صورة منسوخة أو ممسوخة أو مشوهة أو مختصرة أو محرفة أو متحولة أو مطبوحة أو مصنوحة أو مدسوسة أو مزورة .. كما يحدث عادة وبطريقة منظمة ومدروسة لكنـوز التراث الإنساني المهدد دائماً بالطواريء الخفيـة والدورية .. ورغم هذا تمكن كاتب هذه السطور بطريق الصدفة والحظ وبركة دعاء الوالدين من أن يعثر على نسخة موثوق بها من الدفتر المنشود .. أما لماذا يوثــَّق بها فلأنها النسخة الوحيدة في العالم من ناحية .. ومن ناحية أخرى فعلى من ينكرها أو يشك فيها أن يرجع بها إلى المرحوم شكسبير نفسه! ولهذا نورد الدفتر هنا بنصه " وبلا هوامش " ـ خاصة وقد انتشرت الدفاتر والهوامش في عصرنا هذا الحجري العاشر ـ ونرجو أن يجد فيه المؤرخون والمحققون والدارسون والطلبة ما يمكن أن يكون مفيداً" ..
دراسة تراث نجيب سرور وعالمه الإبداعي مهمة ملحة أمام الجامعات والأكاديميات العربية والقوى الثورية واتحادات الكتاب والفنانين في العالم العربي لما يمثله هذا التراث من إثراء للأدب الشعبي والثوري والإنساني في مكانته من حياة الناس وكفاحهم من أجل الحرية والعدالة إضافة إلى المكانة العلمية والفنية التي تحتاج إلى المتخصصين. يذكر بأن بعض الدراسات في عالمه المسرحي صدرت بعد رحيله بفترة طويلة، وربما كان مرد ذلك التردد تأثرا ً بالحملات المتجنية التي حاولت النيل من سمعة شاعرنا الكبير، وتفتقر المكتبة الفنية العربية لدراسات لاحقة في عالمه المسرحي والشعري نأمل أن يبادر المتخصصون المخلصون لإنجازها دون تأخر. والكتب التي صدرت في نجيب سرور حتى الآن هي: مسرح نجيب سرور - التوظيف الدرامي لأشكال الأدب الشعبي القاهرة : مكتبة مدبولي ، 1989 المؤلف : عصــام الدين أبو العلا التراث في مسرح نجيب سرور القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1990 المؤلف : محمد الســيد عــيد نجيب سرور .. مسرح الأزمة القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1992 المؤلف : خــيري شــلبي
حالة الإحباط التي رافقت حملات التنكيل بنجيب سرور قبيل وفاته يفسرهـا الصراع الداخلي في نفسه بين الثقة بالعدالة الحتمية والربيع الزاحف من جهة واليأس من الواقع المرير الذي عاشه وأحاط به وبزملائه وأهله والوطن من جهة ثانية .. وربما انتصرت الشخصية المهزومة في داخله في أواخر أيامه على شخصية سبارتاكوس التي ألبسها للفلاح، بطل (ياسين وبهية)، المناضل العنيد الذي كان على استعداد لأن يضحي بحياته من أجل تحرير الآخرين من الظلم والاضطهاد .. لكـأنــه ابتدأ العد التنازلي لما تبقى له في هذه الدنيا من أيام .. وهو الذي قال من قبل: قد آن ياكيخوت للقلب الجريح أن يستريح ، فاحفر هنا قبراً ونم وانقش على الصخر الأصم : " يا نابشا قبري حنانك ، ها هنا قلبٌ ينام ، لا فرقَ من عام ٍ ينامُ وألف عام ، هذى العظام حصاد أيامي .. فرفقــا ً بالعظام وهو الذي انتقل، لصدماته المتتالية، من حالة الإيمان بأن الحب يطيل العمر فبه نحسُّ بأن العالم باقة زهر وترقٌّ مشاعرنا ونرقُّ لنصبح كنسمات الفجر الناعمة وتتحفز قلوبنا للخروج من الصدور كي تعانق الناس محبة ً وتضامنــاً فنوجز البحــر بقبلة ْ .. إلى حالة التساؤل: (البحر بيضحك ليه ؟ ..البحر غضبان ما بيضحكش .. أصل الحكاية ما بتضحكش ..!! ) القصيدة الشعبية التي غناها صديقه الفنان الثوري الراحل الشيخ إمام. مات نجيب سرور .. وغضب البحر عبوسا ً واسودت السماء فوق (إخطاب) وصمتت عصافيرها عن التغريد حزنـا ً على ابنها الشاب .. وغنى رفاقه الثوريون مرثيته التي خطها بيده من قبل: " نحن حبـَّات ُ البذار ْ نحن لا ننمو جميعا ً عندما يأتي الربيع ْ بعضـُنا يهلك ُ من هول ِ الصقيع ْ وتدوس البعض َ منا الأحذية ْ ويموت البعض ُ منا في ظلام الأقــْبية ْ غير أنـَّا كلــَّنا لسنا نموت ْ نحن حبات ُ البـِذار ْ توفي نجيب سرور في 24 أكتوبر 1978 بمدينة دمنهور بمصر عن ستة وأربعين عاما ً تاركا ً جراحا ً لن تندمل. أثار رحيله الباكر اكتئابا ً في نفوس محبيه من الأدباء والفنانين والمفكرين والمناضلين الشرفاء. يقول صديق أيام الدراسة الدكتور أبو بكر يوسف محاولا ً وصف التفسير المنطقي الوحيد لأزمة نجيب ونهايته المأساوية: "انه مأساة العقل، الذي يحفر كالمثقاب في طبقات الزيف و الأكاذيب ليصل إلى الحقيقة، و لكنه للأسف يواصل الحفر حتى يخرج إلى الجانب الآخر، محدثا ً ثغرة في السد تتسع مع الزمن لتندفع منها المياه المخزونة مدمرة ً كل شيء!... الفنان شمعة تحترق.. لتضيء لنا الدرب إلى الحقيقة والخير والجمال... و نجيب سرور فنان لم يدخر ضوءه فاحترق سريعا ً كشهاب مرق في سمائنا و لكنه ترك في نفسي وفي نفوس الكثيرين غيري أثراً ساطعا ً لا ينسى .. لأنه أثرُ الموهبة المبدعة..." لأولئك الذين ساهموا عن قرب أو بعد في أي ٍّ من إجراءات التجنـّي اللاأخلاقي على نجيب سرور وكـَيل الإتهـامات وتلفيق القصص وحياكة المؤامرات لاستعداء البعض وإقناع آخرين بتعرض شاعرنا الكبير إلى أزمات نفسية وخلل عصبي توجـَّبَ معها وضعـُه في مصح الأمراض العقلية مما أدى إلى إخضاعه لأبشع أشكـال التعذيب النفسي نقـول: نجيب سرور عـاقل رغم أنـــوفكم .. ولد عـاقلا ً وموهـوبـا ً وعاش وجـاد فنـا ً وأدبـا ً وشعرا ً وقدرة خارقة على تحريض المظلومين عبر إبداعاته الفنية والأدبية ونـاضل من أجل مصر والمصريين والعرب ومن أجل الإنسانية عـاقلا ً وعبقريــا ً وصمـد بتحـد ٍ أمـام أساليب التنكيل والإهانة في أقبيتكم وخارجها ومــات وهو عـاقل ٌ .. وكـمـا اغتالت الأيادي القـذرة في محطات حزينة سوداء من التاريخ أنطون سعادة وفـرج الله الحلو وتشي غيفارا وغسان كنفاني وناجي العلي وغيرهم من الشرفاء قتلت أنانيتكـم وخوفكـم من الإدانة نجيب سرور مسيحـا ً اصطحب صليبه منذ فتوته ورافقته همومه وهواجسـه لكشف الحقائق إنارة لطريق المضطهدين طوال حياته .. ولن ينسى مفكرو وأدباء وشعراء وفنانو ومثقفو مصر وبلاد الشام والعرب الثوريون العقلاء وكذلك أبنـاء الشعب الطيبون والوطنيون الصادقون شاعرهم وفنانهم الرقيق والمناضل العنيد لأنـه حي في ذاكرتهم وحـاضر في فكرهـم وهمومهم وقضاياهم المصيرية وجليٌّ في إبداعاتهم التي تحمـل قيم النضال ذاتها التي كـانت لنجيب سرور وهو يردد: نحن حبـَّـات ُ البـذار .. نحيــا من أجــل الربيـع ونموت من أجــل الربيـع .. وستغطى قبورنـا بالسنـابل .. أما أنتم فسيضحك التاريخ منكم والزهور أيها الجبناء !
أبو ظبي – 27 ابريل 2004 [email protected]
#مفيد_مسوح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العقــل والديــن منفصلان !!
-
الأصغر بيوم أفهم بسنة
-
مقتطفــات من شعر جميــل صدقي الزهـــاوي في الفلسفة والمـــرأ
...
-
شتم المرأة يشفي غليل المتخلفين
-
8 آذار (مارس) اليـــوم العالمــي للمــرأة
-
الشبع باستنشاق رائحة الشواء
-
استفتاءات قناة الجزيرة وآخر أبواق صدام
-
ما ذا يريد عبد الباري عطوان؟
-
رحيل المفكر والأديب السوري الكبير الدكتور حافظ الجمالي
-
يوسف حنــــا نــورٌ أفـــَـل قبــــل الأوان
المزيد.....
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|