جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 2714 - 2009 / 7 / 21 - 10:09
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
حين مات أبي وأنا أرقدُ في حضنه يقبلني ويوصيني على إخوتي , كنتُ في تلك الفترة لأول مرة في حياتي أرى بها الموت أو أرى أمامي شخصاً يموت فحاولتُ وأنا طفل في الخامسة عشرة (15) من عمري أن أمنع الموت من إختطافه , ولكن بسرعة دفعني كبار السن وأنا أبكي وهم يقولون عيب على الرجل يبكي , ولكن الموقف في تلك الفترة لم يكن بحاجة إلى رجولة , بل كان بحاجة إلى نساء ينحبن ويصرخن ويمزعن ثيابهن كما فعلت جدتي ....وكنت ُ أزور القبر وأنا أعتقد أن أبي يراني ويسمعني ومرة طلبتُ منه أن يقول لله : إبني بحاجة إلى حنان .
وتشكلت لدييّ وأنا طفل فلسفة خاصة عن الموت ظهر فيها كل شيء أمامي مادي ليس في روح أو أنه يخلو من كل نقطة دم حية , ما عدى بعض تصورات رجال الدين الرومنسية , اففي العيد كنتُ أسمعهم على المقابر واسمعُ دروسهم وتصوراتهم عن الموت ورومنسيتهم برب يغفر ويعذب ويبطش ويزعل ويرضى وكأنه إنسان عادي .
والزعل والغضب والبكاء والسرور كلها من تصورات الإنسان العاطفي الرومنسي , الذي يشق الجبال والبحار من أجل الوصول إلى معشوقته والتلذذ معها تماما كما يحدث مع العناكب والنحل والحبار والعقرب , ومن هذه الرومنسية تشكلت لدى الإنسان تصوراته الوهمية عن اللذة والألم والموت .
فالاشجارُ تموت وهي واقفة .
والحيتان تُلقي بأنفسها على الشواطي منتحرة .
والعنكبوت الذكر يموت بعد نهاية دوره الجنسي مع الأنثى فتنتهي نهايته حين تنهار قواه بعد القذف فيرتمي على الأرض فريسة سهلة للأنثى.
وذَكر النحل يموت بعد مطاردته لملكة الخلية , وحين ينكحها , ينسى جهازه التناسلي في رحمها فيموت في نهاية مفجعة لا تقلُ فجاعة عن نهاية ذكر العنكبوت.
والسوآل المطروح هو : هل يعلم ذكر النحل وذكر العنكبوت أنهم سيموتان؟
وهل أنهم يعلمون بذلك ولكن هم يرغبون بالحصول على لذة ألموت؟
أو هل أن النحل يعلم عن الحياة الأخرى بعد الموت التي تدعيها بعض الديانات فيشتاق إلى النهاية ؟
أم أن اللذة هي بالتألم .
يبدو لي أن الموضوع مرتبط بالتلذذ وبالتألم , فاللذة والألم صنوان ووجهان لعملة واحدة, والمسالة هنا رفضاَ قاطعاً وهجوما على فلسفة الماديين ورفضهم للحياة الأخرى رفضاً قاطعاً , وفلسفة الإنتحار من أجل الموت تختلف في مفهومها من منتحر إلى منتحر , فحتى هذه اللحظة لا أحد يعرف أسباب إنتحار الحوت أو ظاهرة إنتحار الحيتان , وهذه مثلها مثل ظاهرة إنتحار الإنسان فهعل الإنسان ينتحر ويموت إعتقاداً منه أن هنالك حياة أخرى تنتظره بعد الموت؟ أم أنه إعتقاد جازم منه بالتخلص من الحياتين , اولاً للتخلص من حياة ما قبل الموت وثانياً للتخلص من حياة ما بعد الموت , وأعتقد أن الإنتحار على الأغلب ليس رفضاً للحياة أو لفلسفة الماديين والتي يدعو إليها كاتب هذه السطور , ولكن الموت بإعتقادي هو مسألة وجهعة نظر فردية فلكل شخص أو لكل إنسان تصوراته عن الموت , فمنهم من يراه أنه يحقق السعادة ومنهكم من يعتقد أنه هو الحياة الأفضل من تلك الحياة أو من هذا البؤس.
والموت يحقق للإنسان رغباته في التخلص من الألم إذا كان الألم بنظره ليس لذة , فوجهة نظر بعض الناس أن الألم ليس لذة ويجب التخلص منه ومن شروره
ويبدو أن ذكر النحل وذكر العنكبوت والحبار وكل الحيوانات بما فيها الإنسان , كلهم جميعهم يبحثون عن مصادر السعادة واللذة , وحين يحققونها يموتون معلنين قرفهم من السعادة أو إستياءهم منها , والإنسان كائن بطبعه يبحثُ عن السعادة واللذة , فالإنسان من طبعه أن يبحث عن اللذة والسعادة والحيوات الكريمة (الحياة) .
إن معظم الناس يموتون وهم لم يحققوا بعد موضوع السعادة أو الحياة الكريمة التي يبحثون عنها , فذكر النحا مارس الجنس مع من يحب ثم مات , وكذلك العنكبوت , ما عدى الإنسان فهو يمارس الجنس في حياته قبل أن يموت ألف مرة وبنفس الوقت يشعر أنه لم يحقق اللذة ولم يتخلص من الألم , كقول نزار قباني :
الجنسُ كان مسكناً جربته
لم ينه أحزاني ولا أزماتي .
فالسعادة واللذة هما طريقنا للتخلص من الألم , وعند بعض الفلاسفة يكون الألم نفسه هو اللذة , فبعض الناس شخصيتها وطبعها يجعلها تعشق التألم من أجل التلذذ بالألم , وبعض الناس تحبُ التعب والإرهاق وفي نهاية يومهم ينامون وهم مرتاحون متلذذون بأرهاقهم وسعيدون بشقاءهم.
والموت إحدى تلك اللذات , فخروج الروح من الجسد بإعتقاد بعض المتصوفة تجعل الجسد في حالة راحة وكأن الجسد هو الأصل والروح شيء ثانوي , فعملية سكون الروح في داخل الجسد تسبب آلاماً واضحة للجسد , وفي النهاية عندما تخرجُ الروح من الجسد يشعرُ الجسدُ بعدها بالراحة , من هنا نشأت عقيدة حب الموت أو حب الإنتحار , فإذا كان مقابل كل طلعه نزلة كما يقولون , فإنه مقابل كل تعب راحة , ومقابل كل ألم لذة , ومقابل كل شر خير , ومقابل ...إلخ.
فالموت يريح الميت من آلامه وتعبه وإرهاقه , والمريض بالسرطان يرتاح من ألم الكيماوي , والمريض بالشر يرتاح من الشريرين , والمريض والمتعب من أي مرض عضال يرتاح فعلاً من آلامه وأحزانه.
وقلتُ في بداية حديثي أن الأشجار تموت وهي واقفة , وكذلك الزمار والعواد والطبّالُ كلهم جميعهم يموتون وأياديهم تلعب على آلاتهم الموسيقية , إنه يتلذذون بنوعية ألامهم أو أحزانهم , حتى أننا أحيانا ً نشعر ُ أننا بحاجة لمشاهدة فلم إتراجيدي محزن ومقلق لنا , وذلك من أجل أن نتلذذ , تماما كما نتلذذُ بالمشاهد الكوميدية الساخرة .
الآلام ليست دائماً محزنة , بل هي على العكس مفرحة وتحقق موضوع السعادة , فالفلسفة النرفانية هي الوصول إلى السعادة , والفيلسوف حفيد سقراط(أرستبس) كان يحاول التألم من أجل الحصول على اللذة .
وهنالك بعض العُشاق يتمنون من محبوبهم أن يعذبهم من أجل التألم , وكقول المثل العامي (ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب).
إن الألم فلسفة كبيرة وأي فلسة إنها تخبرنا بصدق عن روح المشاعر الغنية بمحاولة الوصول إلى السعادة واللذة عن طريق التألم .
وحين أطلق الفيلسوف الروسي (نيكولايس برداييف) الرصاص على نفسه كان يعتقدُ أنه سيصل بعد الموت إلى السعادة , أو أنها وجد في الموت نفسه مهرباً من الآلام .
صحيح أن ه لا يمكن لنا أن نعرف ماذا بعد الموت ولكنه على الأقل يريح بعض الناس , كقول الشاعر العربي :
ألا موتٌ يباعُ فأشتريه؟
فهذا العيشُ ما لا خيرَ فيه
إذا رأت عيني قرين قبر ٍ
ظننت ُ بأنني من سيليه .
أو كالذي يقدم على شيء وهو يعلمُ أنه هلاكه ومع ذلك يستمرُ به , وكل إنسان من هذا المنطلق لديه تصورات عن الموت والحياة واسئلة تلج إلى داخله مثل : لماذا خلقنا الله ؟ ولماذا جئنا ؟ لماذا جئتُ غلى هذه الدنيا ؟ ولماذا أغادر رغماً عني ؟
البعض من خلال الإنتحار حاول أن يتحدى القدر ونجح بالإنتحار , عندما شعر أن مجيئه ليس صدفة بل كان مخططاً له من قبل ؟..لا يدري , من الممكن أنه جاء من قبل تخطيط صادر من أبويه , أو من مجمع الآلهة , وكذلك رحيله , ولكنه بالإنتحار يتحدى الآلهة ويغادر لوحده دون أن يأخذ معه أحد معلناً أنه يرفض القدر أو كما قال (أرفض السور والباب والحارس).
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟