|
العراق ليس بغداد وحسب...
باسم محمد حبيب
الحوار المتمدن-العدد: 2699 - 2009 / 7 / 6 - 06:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هناك ظاهرة ربما من الضروري بحثها هنا ، لأنها تكاد تمثل ظاهرة فريدة وغريبة وتختص بالعراق دون سواه ، فمن بين كل دول العالم لا توجد دولة تطغى عليها مدينة من مدنها مثلما هو الحال مع العراق ، حيث نجد أن اسم بغداد يكاد يطغى على اسم العراق بل يكاد يكون بديلا عنه أيضا ، وكلنا يتذكر الأغنية الكلثومية الشهيرة ( بغداد يا قلعة الأسود ) ، أو أغنية فيروز الشهيرة ( بغداد والشعراء والصور ) ، هذا ناهيك عن المئات من الأغاني والأشعار التي طغى فيها اسم بغداد على اسم العراق أو صادره تماما . لقد اعتاد الخطاب السياسي والثقافي والإعلامي العراقي على التركيز على بغداد دون بقية أنحاء العراق ، وكذا الحال بالنسبة للجهد الاعماري والخدمي فهو يركز على بغداد دون سواها ، الأمر الذي دفع الكثير من الناس إلى ترك مناطقهم الأصلية والهجرة إلى بغداد ، فالأغاني والإشعار والخطب الحماسية لا تتردد في الإشارة إلى بغداد على أنها هوية لجميع العراق ، حتى أصبح اسم بغداد مرادفا لاسم العراق في غالب الأحيان ، وبطبيعة الحال قد يكون لمكانة بغداد السياسية والتاريخية دور في إعطاء بغداد منزلة هامة بين المناطق العراقية الأخرى ، لكن ليس بان تتضخم لتغدوا أعلى مقاما من العراق نفسه ، فللقاهرة مكانة لا تقل شانا عن مكانة بغداد ولاسطنبول كذلك ، لكن لم تكن منزلتهما يوما أرجح من منزلة بلديهما ، فلا القاهرة ولا الإسكندرية ساوتا مصر في المنزلة أو قدم اسميهما على اسم مصر ، وبالتالي فان هناك أسباب أخرى لهذه الظاهرة ، وليس ببعيد أن يكون للعامل السياسي ابلغ الأثر فيها بعد أن تحول العراق من مجموعة ولايات إلى دولة موحدة ، وكان من الضروري نظرا لدمج بيئات ثقافية مختلفة مع بيئة الأصل ، أن ظهرت الحاجة إلى خلق مركز مرجعي يمكن للإطراف الأخرى أن تامن إليه وتنصاع لهيمنته ، ولابد أن يكون هذا المركز المرجعي مرتبط بسلطة البلاد السياسية ، وبالضرورة التي يتحتم من خلالها دمج تلك البيئات أو الثقافات في بيئة واحدة تمثل مرجعا لها جميعا . لكن هذا لا يعني أن يتم تجاهل قلب البلاد النابض ومصدر هويتها المنطقة السهلية من العراق ، فإذا كان في العراق بيئات ثقافية مختلفة فليس من الصحيح جمعها قسرا ، كما لا يمكن خلق هوية مرجعية جامعة لجميع البلاد بالاستناد على العامل السياسي فقط ، ليس لان هذه الطريقة عقيمة وفاشلة وحسب ، وإنما لأنها تعزل العراق عن أصله وماضيه ، فالعراق لم ينشا مع الفتح العربي أو مع مجيء الإسلام كما يوحي بذلك البعض ، وهو لم يخترع اختراعا كما زعم بشكل مطلق ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا المعروف ، إنما هو بلد قديم تعود جذوره الحضارية إلى عدة آلاف من السنين ، وبالتالي ليس من السليم تجاهل هذا الماضي لان في هذا الماضي توجد هوية العراق الحقيقية . إن ارتباط العراق مع ماضيه أو أصله ، لا يعني قطع صلته ببيئات البلاد الأخرى ، بل على العكس هو يعني أكثر من ذلك ، أن يكون لتلك البيئات حريتها ضمن أنطقتها الجغرافية ، فللأكراد تراثهم الخاص النابع من تكوينهم المستقل وبيئتهم الجبلية ، وكذا الحال بالنسبة للبدو الذين لا يختلف اثنان على اختلافهم النابع من أصلهم البدوي وانتمائهم الصحراوي ، أما ما يسمى بتراث بغداد الذي يحاول البعض تعميمه ليمثل التراث الجامع للعراق بأسره ، فما هو إلا نسخة هجينة من تراث السهل الذي كان على الدوام قلب بغداد النابض ومصدرا للكثير من قيمها وتقاليدها ، دون نكران بالطبع لتأثير البيئات الأخرى التي كان لها بالتأكيد تأثير ما في تراث بغداد وان ليس بدرجة تأثير السهل . إن ابلغ الأدلة على هذا التأثير السهلي القوي و المتواصل استخدام البغداديون للزي الجنوبي التقليدي أي لبس اليشماغ ، مع اختلاف بسيط وهو أن الجنوبيون يلبسون اليشماغ مع العقال فيما يلبسه البغداديون بلفه حول الرأس أي طريقة ( الجراوية ) ، وهي أيضا طريقة يعتمدها سكان الجنوب ولكن على نطاق ضيق ، وأقدم إشارة إلى استخدامها من قبلهم تعود إلى العصور السومرية ، حيث يوجد تمثال ل كوديا أمير لكش وهو يلبس اليشماغ بطريقة الجراوية ، أما الغناء المشهور بالمقام العراقي فهناك أدلة كثيرة تؤكد على جذوره السهلية ، منها احتوائه على سمة الحزن التي يشتهر بها الغناء الجنوبي وأطواره المختلفة وارتباطه بمعاناة الناس آنذاك ، فمثلما يعبر الغناء الجنوبي عن معاناة الناس وآلامهم يعبر الغناء البغدادي عن رغبة الناس في الإفضاء عما يؤلمهم ويثير شجونهم ، حيث تبدأ اغلب الأغنيات البغدادية بكلمة (أمان ) التي يراد بها إشعار الناس بالأمان وبان هناك فسحة متاحة للراحة والاطمئنان تكفي الجميع ، هذا ناهيك عن سمات أخرى يدركها المختصون ، كذلك من الأدلة على ارتباط الشخصية العراقية بالنموذج الجنوبي ، التعاطي الدرامي مع هذا النموذج واعتماده أكثر من سواه في التعبير عن طبيعة الشخصية العراقية النمطية . وبالتأكيد فان هذه المعلومات ليست نابعة من ملاحظات عابرة ، بل قد أكدها أيضا أشهر علماء الاجتماع العراقيين ( الدكتور علي الوردي ) ، منوها من خلالها إلى هذه الحقيقة التي غفلها كثيرون للأسف الشديد . وبالتالي لابد إذا أردنا أن نؤسس لبناء عراقي متين من أن نغير تلك الصورة الخاطئة ، وان نحيل بغداد إلى الأصل وليس العكس أي أن نحيل الأصل إلى بغداد كما جرت العادة ، فليس من العدالة ولا العلمية تجاهل تلك الحقائق أو التنكر لها ، ففي تجاهلها نكران للعراق نفسه وهذا أمر لا نتمناه في مرحلة البناء هذه .
#باسم_محمد_حبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل تتحول بلاد النهرين إلى بلاد بلا نهرين ؟
-
العراقيون والدرس الإيراني
-
لماذا يدير الخليج وجهه عن العراق ؟
-
ما بين بكاء الحسين على أخيه العباس وبكاء جلجامش على انكيدو
-
النبي يوسف ... هل هو نسخة توراتية لشخصية جلجامش ؟
-
هل للفساد دور في تضخيم ظاهرة المثلية في العراق ؟
-
جمهورية أميركا الإسلامية !!؟
-
مصر .. نعم ما اخترت يا اوباما
-
عقدة الكهرباء أم عقدة الفعل العراقي
-
حملات تستهدف الشباب في العراق
-
معركة التاميل والجانب الإنساني
-
الساكت عن الفساد شيطان اخرس
-
من اجل مركز وطني لتوثيق معاناة العراقيين واضرارهم
-
التدين والنبوة من منظور تاريخي
-
ما حجم المسكوت عنه في واقعة السقيفة ؟
-
هل تضررت ولم تحصل على تعويض ؟
-
آثار حضارة وادي الرافدين بحاجة إلى حماية دولية
-
ضوابط دولية لتدريس مادة الدين
-
المسؤول العراقي أول من يستفيد وأخر من يضحي
-
الديمقراطية في العراق مطلب تاريخي
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|