|
المعارضة الفنزويلية تلعب كل أوراقها
موريس لوموان
الحوار المتمدن-العدد: 820 - 2004 / 4 / 30 - 05:37
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
"لقد طالب البعض بإجراء استفتاء، وها أنهم حصلوا عليه، وقد خسروا فيه". إنه كلام الرئيس هوغو شافيز الذي لم يستطع تمالك نفسه عن إطلاق الكلام القاسي في مؤتمره الصحافي في 14 نيسان/أبريل عام 2002 والذي عقده إثر عودته إلى قصر "ميرافلور" الرئاسي. وكان، بعد أن تعرض لانقلاب عسكري عليه قبل ثلاثة أيام، قد أعيد إلى السلطة على أيدي عسكريين من أتباعه وبفعل حركة شعبية جامحة رائعة[1]. ففي بيوت الصفيح المتشابكة كان أنصاره الكثر يتكاتفون حول "القومندانتي" (القائد) ولسان حالهم: "إذا كان شافيز سيئاً إلى هذا الحد، فلماذا يحبه الشعب إلى هذه الدرجة؟ ولماذا أعاده إلى "ميرافلور"؟".
وفي ذلك الوقت جاء تعليق السيد أنريكي سالاس رومير المرشح الرئاسي المهزوم أمام شافيز في العام 1988: "كانت النظرة إلى ما حدث أن حكومة من اليمين المتطرف قد تسلمت الحكم وأنها سوف تتصرف ضد الشعب. وفي المقابل فإن هذا جعل شافيز يبدو وكأنه ديموقراطي وهو ليس كذلك. وقد حدث لوقت ما شيء من التضامن السحري، لكن لا ننسينّ أن يسوع المسيح كان يستقبل بالهتافات قبل أسبوع من صلبه". وهذا الكلام يختصر كل الأمر.
وفي الواقع أن "مناهضي شافيز، وبعد أن انهزموا لفترة، قد وجدوا طريقة للانتقام. ففي أواخر العام 2002 دخلوا مع السلطة في لعبة إظهار القوة في ما سمّي "حرب المسيرات". وكما حدث عشية "الانقلاب" راحت وسائل الإعلام "تحمي" الأجواء[2]. لكن مقابل كل تظاهرة حاشدة قامت بها المعارضة كان الرد يأتي ببحر أحمر من أنصار شافيز بالحجم نفسه، وأحياناً أهمّ. وهذا ما كانت وسائل الإعلام تتغاضى عنه وتغفله. وفي النتيجة أن المعارضين، الذي تعرضوا للتضليل كانوا يجهلون قيام هذه التظاهرات ويعيشون على وقع نشرات أخبار التلفزيون المنتشية بعبارات من نوع "المسيرة الكبرى" (للمعارضة)، "المسيرة الضخمة" (للمعارضة)، "المسيرة السوبر" (للمعارضة) و"مسيرة المسيرات" (للمعارضة). وفي اختصار بدا وكأن "البلاد كلها" تطالب برحيل الرئيس!
وفي 11 تموز/يوليو عام 2002 كان السيد كارلوس أورتيغا، رئيس اتحاد العمال في فنزويلا(CTV)، وهي نقابة مرتهنة لأرباب العمل، يشدد للمرة الألف: "لن نستكين إلى أن يرحل شافيز". فازداد التوتر وتخللته بعض الأحداث. وقد تحولت الصدامات إلى العنف بمبادرة من "أنصار شافيز" عندما رفضت محكمة العدل العليا في 14 آب/أغسطس عام 2002، وبغالبية 11 صوتاً مقابل 8 محاكمة أربعة ضباط متهمين بالقيام بالتمرد العسكري الذي صار يختصر إعلامياً بتسمية "11-أ" (أي 11 أبريل). وقد عبرت عامة الشعب عن استنكارها بطريقة عنيفة. "يبدو الأمر كأن يستنتج في محاكمة لبن لادن أن البرجين قد انهارا من تلقائهما!". وللمفارقة أنه في ظل هذه الحكومة التي يصورها منتقدوها على أنها "استبدادية" لم يتخذ أي إجراء ضد المتآمرين في "11-أ". وهذا ما استفاد منه هؤلاء وخصوصاً أن واشنطن أعلنت عن إنشاء... "مكتب انتقالي"، في كاراكاس.
طبعاً كان بإمكان المعارضة التي تجمعت تحت لواء "التنسيق الديموقراطي" أن تسعى إلى مخرج من الأزمة المؤسساتية. فالدستور يسمح (في المادة 72 منه) بإجراء استفتاء بمبادرة شعبية لاسقاط الرئيس في منتصف ولايته والتي وافق موعدها 19 آب/أغسطس عام 2003. هل هي الشرعية؟ ما من شيء أكثر عبثية من هذا! فقد بدا زعماء المعارضة مستعجلين بقدر ما كانوا يشكون في إمكان الفوز في هذا الاستفتاء الشعبي.
وفي 22 تشرين الأول/أكتوبر عام 2002 أعلن 14 عسكرياً (من الذين شاركوا في الانقلاب) عن حركة "عصيان شرعي"، وذلك في ساحة فرانسيا في حي ألتاميرا البرجوازي. وسرعان ما ارتفع عددهم إلى 70 ليخيموا على هذه "الأرض المحررة" ويقدموا على مدى أسابيع "استعراضاً" نظمته بكل عناية وسائل الإعلام المكتوبة والمتلفزة. وبدا كل شيء جاهزاً للمحاولة الانقلابية الثانية الأكثر "نظافة" هذه المرة.
وفيما انعقدت طاولة حوار تحت راية منظمة الدول الأميركية(OEA) بين الحكومة وهيئة التنسيق الديموقراطي، أعلنت هذه الأخيرة إضراباً عاماً مفتوحاً "حتى سقوط الرئيس". وهذه المقاطعة الجزئية من جانب أرباب العمل ستتصاعد كما ستمتلك سلاحاً مطلقاً وهو الشركة البترولية الوطنية(PDVSA)، وهي الوحيدة التي إذا ما توقفت عن العمل يمكنها أن تؤثر على الحكومة. فمديرو هذه الشركة، "أوليغارشية النفط"، عندما يعطلون العمال تقنياً إنما يوجهون ضربة قاسية إليها.
هذه المقاطعة التي امتدت 63 يوماً في كانون الأول/ديسمبر عام 2002 وكانون الثاني/يناير عام 2003، وقد تخللتها أعمال تخريب ضد المراكز الاقتصادية الحيوية، سوف تتسبب بخسارة البلاد حوالي 10 مليارات دولار. وكما في نيسان/أبريل عام 2002 سقط بعض "الشهداء" على مذبح "الديموقراطية". ففي 6 كانون الأول/ديسمبر عام 2002 وفيما كان السيد أورتيغا يعقد مؤتمره الصحافي اليومي في ساحة فرانسيا، مركز القيادة العامة للعسكريين المتمردين، أطلق رجل النار على جماعة "الاسكواليدوس" (العسكر)[3]. وفي عرض مباشر، وفيما كانت وسائل الإعلام تبث صور "الرعب والفوضى" من "مجزرة ألتاميرا"، كان السيد أورتيغا يطالب بـ"تدخل منظمة الدول الأميركية في فنزويلا" ويصف السيد شافيز بالقاتل. أما الجنرال أنريكي ميدينا (من انقلابيي 11-أ) فقد وجه دعوة إلى القوات المسلحة لكي تطيح الرئيس.
وفي اليوم التالي كان أحد الهواة يبث تكراراً على محطات التلفزة الخاصة شريط فيديو يظهر فيه القاتل المشبوه وهو السيد جواو غوفيا البرتغالي الجنسية في صحبة عدد من المقربين من الرئيس ومن بينهم السيد فريدي برنال حاكم كاراكاس. وقد حمّلوا مسؤولية الجريمة. أما ما تم التعتيم عليه فهو أنه لدى التأكد من جواز سفر السيد غوفيا، في أعمال التحقيق التي تلت ذلك، تبين أنه كان في البرتغال لحظة تصوير شريط الفيديو المزعوم[4]. كان هناك إذن شخص آخر "متنكر" غير أن عملية التزوير هذه جعلت السيد آري فليشر الناطق باسم البيت الأبيض يصرح أن "الولايات المتحدة مقتنعة بأن الطريقة الوحيدة السلمية والسياسية المضمونة للخروج من الأزمة هي في إجراء انتخابات مبكرة"[5]. ولولا وجود شافيز لكان الأمر طبيعياً.
غير أن الرئيس الذي انتخب مرة أولى وأعيد انتخابه ديموقراطياً لا يزال يقاوم ومعه قسم من الشعب الذي يدعمه. وعلى كل حال فان هذا الشعب هو الذي يعاني. وللغرابة فان "الإضراب العام" لم يطل لا شركات الكهرباء ولا شركات الغاز في المدينة. فانقطاع التيار الكهربائي كان ليعطل محطات التلفزة التجارية التي ألغت كل البرامج العادية وحتى الاعلانات لتقدم عرضاً مستمراً لأعمال التخريب الاقتصادي. ولماذا الغاز؟ ذاك أن الطبقات الوسطى، مركز ثقل مناورات المعارضة، تحتاجه في حاجاتها اليومية.
أما في الأحياء الفقيرة، المحرومة من البنى التحتية، فالطبخ يتم بواسطة قوارير الغاز التي اختفت من السوق. وفي نهاية كانون الثاني/يناير عام 2003 كانت إحدى سيدات كاتيا التي يتألف كل أثاث بيتها من طاولة وأربعة كراسي إضافة إلى براد قديم فقط تستنتج أنه "كان إضراباً ضد الفقراء، لقد اضطررنا خلال شهر إلى الطهو على الحطب، وليس هناك حطب في هذه المنطقة ". وقد لوحظ في تلك الفترة أن بعض النسوة كن يسخنّ ماء الرضاعات لأطفالهن على مكواة الثياب.
وها هي بوادر اقتصاد الحرب. ففي أحد الأيام ظهرت على واجهات بعض المحلات المتواضعة إعلانات: "يوجد طحين ذرة". لكنها اختفت في اليوم التالي. وتروي السيدة بلانكا اكروت، التي كانت آنذاك مديرة التلفزيون المشترك "كاتيا تي.في." إنهم "اعتقدوا أن الناس سوف ينهزمون وأن الوضع سوف ينفجر" بما أن المواد الأساسية الضرورية قد تبخرت. وقد باء بالفشل على كل حال، ما كان يهدف إليه من إثارة حالة تمرد تبين "حالة الرفض الشعبي" للحكومة. ولن تحدث مرة ثانية انتفاضة كاراكازو[6]. ويشدد أحد القادة المشتركين في كاتيا أيضاً قائلاً: "نحن جائعون ونعيش حالة بائسة لكننا سنواصل دعم شافيز. ولن ننزل إلى الشارع لإثارة الفوضى. فهذه الحكومة ليست هي العدو".
وكانت الكارثة. فخلال العام 2003 سجلت فنزويلا تراجعاً اقتصادياً بنسبة 9.5 في المئة أرهقت البلاد ونسفت البرامج الاجتماعية (وذاك كان هو الهدف). ومع ذلك فان المعارضة، وبعد أن أنفقت ملايين الدولارات للانتهاء من السيد شافيز، وخصصت آلاف الساعات التلفزيونية لزعزعته، قد منيت مجدداً بهزيمة نكراء.
وفيما الإضراب يلفظ أنفاسه، ومن أجل إنقاذ ماء الوجه، انطلقت المعارضة في عملية استفزازية جديدة. فاستناداً إلى الدستور نظمت في 2 شباط/فبراير حملة جمع تواقيع (فيرمازو) للمطالبة بإجراء استفتاء منتصف الولاية سعياً إلى إسقاط الرئيس. وقد أوكل تنظيم نشاط هذا اليوم عملياً إلى جهاز لم تحدد طبيعته يحمل اسم "سيومات" (أي انضموا إلينا). لكن ما أمكن معرفته في المقابل هو أن هذا الجهاز المشبوه قد حصل في العام 2003، بدل تنفيذ برنامج لـ "التربية الانتخابية"، على مبلغ 53400 دولار من أصل 800000 دولار تم توزيعها من جانب "ناشيونال اندومنت فور ديموقراسي"(NED)، القريبة من وزارة الخارجية الأميركية على مختلف المنظمات والأحزاب في المعارضة الفنزويلية خلال السنتين الأخيرتين[7].
وفي نهاية هذا اليوم "التاريخي" و"الحاسم" و"السامي"، والذي تميز بتزوير التواقيع بنوع خاص، حيث الحكم الوحيد كانت "سيومات"!، أعلنت المعارضة أنها جمعت ما يزيد على أربعة ملايين توقيع، أي أكثر من الـ733 757 3 صوتاً التي حصل عليها السيد شافيز لدى انتخابه في العام 2000 (وهو الانتخاب الذي تميز بمقاطعة مرتفعة). وإزاء ذلك أعلن البعض أنه لم يعد ثمة حاجة إلى الاستفتاء إذ أن رئيس الجمهورية لم يعد يتمتع بأي شرعية! بينما لعب آخرون ورقة أكثر براعة، مراهنين على رفض السلطة إجراء الاستفتاء. فالذي يرفضه يخشى حكم صناديق الاقتراع! وتلك المعزوفة هي التي ترددت بنوع خاص في 12 أيلول/سبتمبر عندما أعلن المجلس الانتخابي الوطني أن الطلب مرفوض لأنه لا يتوافق ودستور البلاد (القرار رقم 461- 030912).
"سبعون في المئة من الفنزويليين يرفضون شافيز!" تلك هي المعزوفة التي راح يتناقلها عدد من وسائل الإعلام الدولية، وخصوصاً في فرنسا، عندما بلغت مدة ولاية الرئيس منتصفها في 19 آب/أغسطس عام 2003. والحقيقة أن نسبة التضخم والبطالة والفقر قد ارتفعت، كما استمرت حالات البيروقراطية والزبانية والفساد الموروثة عن الممارسات السياسية البالية.
لكن ما جرى تناسيه هو أن الصناعة النفطية، التي أعيد الإمساك بها وجرى تطهيرها بقوة (18000 حالة صرف!)، قد استعادت طاقاتها الانتاجية وباتت تغذي خزينة الدولة. وفي ذلك تغاضٍ عن البرامج الاجتماعية التي أطلقت تحت إدارة المحرومين. وكذلك الإصلاح الزراعي[8]، وما نجم عنه من الحصول على الملكيات في الأحياء الشعبية، وحملة "باريو أدنترو" (للعناية الصحية في بيوت الصفيح والمناطق المهمشة بالتعاون مع آلاف الأطباء الكوبيين) وحملة "روبنسون" (حملة تعليم القراءة التي طاولت حوالى مليون شخص) وحملة "ريبا" (المختصة بالذين اضطروا إلى مغادرة المدارس)، وحملة "مركال" (وهي شبكة لتوزيع المواد الأساسية الضرورية بأسعار أدنى من أسعار السوق) ومنح القروض الصغيرة (وقد بلغت قيمتها 50 مليون دولار ما بين العامين 2001 و2003 وذلك بواسطة بنك الشعب وبنك النساء) الخ. وفي ذلك تناسي الدعم الشعبي لرئيس لا يلبث أن يصرح على الملأ: "أفضل أن تتم إطاحتي على أن انتهي كرئيس صغير من الاجتماعية الديموقراطية لم يفعل شيئاً"!
وعلى أثر مفاوضات شاقة جرت تحت رعاية منظمة الدول الأميركية ومركز كارتر (يديره الرئيس الأميركي الأسبق) وقعت هيئة التنسيق الديموقراطي في 29 أيار/مايو ميثاقاً يفتح الطريق أمام إجراء استفتاء، شرعي هذه المرة.
وبعد أن فشلت الجمعية الوطنية في إجرائه (كان الأمر يتطلب تصويت الغالبية الموصوفة)، عينت محكمة العدل العليا بموجب صلاحياتها أعضاء المجلس الانتخابي الوطني(CNE) الجديد في 25 آب/أغسطس عام 2003. وهذا ما جعل المعارضة تغتبط صراحة إذ أن المحكمة العليا كانت من جهتها (راجع قرارها في ما خص محاكمة العسكريين الذين شاركوا في انقلاب 11 نيسان/أبريل). وفي مجلس إدارة المجلس الانتخابي الوطني عضوان يمثلان الحكومة وإثنان يمثلان المعارضة على أن يتأمن التوازن عبر رئيسه السيد فرانسيسكو كاراسكويرو الذي ترتاب فيه بعض قطاعات هيئة التنسيق الديموقراطي فيما يرى فيه الكثيرون "معارضاً لشافيز" إذ أن بعض أفراد عائلته قد صرفوا من شركة نفط فنزويلا بعد أن استعادت الدولة إدارتها. وهذا المجلس الانتخابي الوطني هو سيتولى مهمة الإشراف الصعبة على عملية جديدة لجمع التواقيع.
وقد نفذت العملية من الجمعة 28 تشرين الثاني/نوفمبر إلى الاثنين في الأول من كانون الأول/ديسمبر عام 2004[9]. وكان من المفترض من أجل إجراء الاستفتاء جمع 579 402 2 توقيعاً على الأقل (ما نسبته 20 في المئة من مجموع الهيئة الناخبة) وذلك في 2780 مركزاً حددتها المعارضة. وعلى صعيد النظام العام جرى كل شيء في هدوء تام. وعلى شاطئ البحر في ناغواتا (في ولاية فارغاس) وبالقرب من الطاولة التي كان يوقع عليها الناس، كان "أنصار" شافيز و"معارضوه" يحتكون في ما بينهم بلطف. وإذا بأحد المعارضين يصرخ: "إنها تضع بنفسها لائحة الذين يصوتون. أخرجي اللائحة من جيبك!" أما المرأة المعنية فإنها ردت مبتسمة: "أنا أجري عملية إحصاء لكي لا يأتونا بأرقام لا تصدق". ويوم السبت ذاك، الواقع فيه 28 تشرين الثاني/نوفمبر لم يكن هناك بالتأكيد أرقام لا تصدق . فلقد كان هناك أناس أمام صناديق المصارف الآلية أكثر مما أمام مراكز جمع التواقيع. وقد صارحنا أحد مسؤولي المعارضة المحلية قائلاً: "هذا أمر طبيعي فلقد سارع الناس إلى التوقيع منذ يوم أمس الجمعة".
ولقد سمعنا غداة ذلك في شواو (شرق كاراكاس ومعقل المعارضة) بالقرب من مركز اقتراع خالٍ أيضا: "بحسب تقديراتنا لقد حصلنا على أربعة ملايين توقيع". وبعد ذلك يأتي كلام سوريالي بلغة فرنسية سليمة من نوع كل شيء كان أفضل من قبل "حين كان الأغنياء والفقراء يحتفلون بالأعياد معاً ويرتدون ثياباً متشابهة والأحذية نفسها". نعم كان الأمر أفضل "قبل حالة الانقسام التي تسبب بها هذا المجرم [المقصود السيد شافيز] في المجتمع".
الأمر الشاذ الوحيد حقيقة في معاقل الطبقة الوسطى في العاصمة من شاكاوو إلى باروتا وسوكري وشواو كان عدد أوراق "البلانيلاس" غير الكافي (وهي أوراق يبرز فيها في مجموعات من عشرة أسطر منظمة أفقياً، الاسم ورقم بطاقة الهوية والبصمات والتوقيع). فالمجلس الانتخابي الوطني لم يمنح كل قطاع إلا عدداً من "البلانيلاس" يكفي لـ66 في المئة من الهيئة الناخبة وإذا كان ذلك يسمح على الصعيد الوطني بجمع 8 ملايين توقيع وهو رقم أكبر بكثير مما تستطيع هيئة التنسيق الديموقراطي تجييشه، فقد بدت هذه الحصص غير كافية في بعض الأحياء التي تنتمي اجتماعياً إلى المعارضة بشكل كثيف. ولكن المشكلة سويت عبر إقامة "جسر بواسطة السيارات" ساعد في نقل من لم يتمكنوا من التوقيع إلى المراكز العديدة التي بقي فيها أوراق "البلانيلاس". وهذا، بحسب الأمين العام لمنظمة الدول الأميركية الذي كان موجوداً كمراقب، "ما سمح بمشاركة تامة" [10].
إنه سيل! جرف! فالمعارضة راحت تبشر ببدء عملية الانتقال، وذلك، كما رأت النجمة الصحافية مارتا كولومينا، استناداً إلى "أمارات اليأس والقلق التي تضني الرئيس وقد باتت أيامه معدودة" [11]. وهذا رأي جريء إذ في الوقت ذاته وفي ميرافلور لم يسبق للسيد شافيز أن بدا على هذه الحالة من الارتياح. وقد صرح لنا قائلاً: "إذا ما جمعوا التواقيع اللازمة سوف نجري الاستفتاء، وعلى افتراض أنهم فازوا فيه فسوف أتنحى. لقد نجحنا في إيصالهم إلى ما نريد وهو احترام الدستور، لكن وبحسب معلوماتي لا أعتقد أنهم سيحصلون على العدد الكافي".
وفي المعسكر المقابل كان هناك أبواق أخرى تعلن، بعد قيامها ببعض المزايدات، أنها قدمت، في 19 كانون الأول/ديسمبر، إلى المجلس الانتخابي الوطني 050 467 3 توقيعاً. وللحال بدا أن الرقم يحمل على بعض التأمل: فحملة التواقيع الجديدة لم تجمع في أربعة أيام مما يفترض بأن تكون مؤسسة "سيومات" قد جمعته يوم 2 شباط/فبراير عام 2003 في فترة بعد الظهر. وهنا بالتأكيد يبقى الفرق كبيراً مع النسبة المفترضة وهي "70 في المئة من الشعب المناهض للرئيس" [12]. وأخيراً فان السيد شافيز قد حصل في يوم واحد لدى انتخابه على عدد أكبر من الأصوات.
والأكثر تكديراً كان هذا الصمت الرهيب الذي ساد في مساء الأول من كانون الأول/ديسمبر على المناطق الشرقية من كاراكاس. فقد بدت الهزيمة على وجوه زعماء المعارضة. فمجموعة الخمسة من المرشحين نظرياً لقيادتها (G-5)، وهم السادة هنري راموس ألوب (عن الحركة الديموقراطية) وخوليو بورغس (عن بريميرو جوستيسيا) وأنريكي مندوزا (حاكم ولاية ميراندا) وخوان فرنانديز (عن جانتي دي بيتروليو) وهنريكي سالاس رومير، قد غابوا كلياً عن الأنظار وتحاشوا استوديوهات التلفزة ولم يدعوا إلى أي مسيرات ابتهاجية بالنصر ولا إلى أي احتفالات...
وفي هذه الأثناء وفيما كان يشارف اليوم الثالث من الحملة الجديدة على نهايته كان الرئيس شافيز يوسع دائرة هجومه مندداً بأسلوبه المجازي بعملية "تزوير ضخمة". وهذا ما استدعى رداً فورياً من السيد سيزار غافيريا الأمين العام لمنظمة الدول الأميركية والرئيس السابق لكولومبيا والأميركي الشرس والذي، في تصريحاته الرسمية، يكشف ميله إلى المعارضة: "لم نكتشف أي أثر يجعلنا نعتقد أنه قد جرت عمليات تزوير كثيفة ومعممة".
إلا أن التزوير حصل. فالسيد يورغي رودريغيز، العضو في المجلس الانتخابي الوطني قد أكد لنا منذ 29 تشرين الثاني/نوفمبر أن "الاتهامات عديدة وأن كل العملية معيبة. فهناك أشخاص اجبروا على التوقيع. ففي مستشفى "إل لانيتو مثلاً قيل للمرضى: إذا لم توقعوا فلن تجرى لكم العمليات". فهنا يتسلم احد المراكز 200 نموذج من "البلانيلاس" فيسلم 400. وهناك جمعت تواقيع القاصرين والموتى. وكذلك فان الهندوراسية دوريس غوتييريس (من حزب التوحيد الديموقراطي)، والعضو في مجموعة من 52 مراقباً دولياً حضروا من 35 بلداً في العالم قد لحظت (كما لحظنا نحن) وجود بطاقات بلاستيكية "أصدرتها وكالة خاصة [سيومات] يعرف بها الشخص عن نفسه ويبصم كدليل على مشاركته". وهنا يمكن تصور الهدف من استخدام هذه الوثيقة التي تجعل عملية التوقيع مكشوفة: وذلك من أجل أن يثبت الشخص لرب عمله (إذ إن الغالبية الكبرى قد وقعت يوم الجمعة في 28 تشرين الثاني/نوفمبر وهو يوم عمل) أنه قد صوت فعلاً ضد الرئيس (وقد اتهمت وزارة العمل 124 شركة بأنها مارست ضغوطاً على عمالها)، فيرغم على إبرازها لكي يستطيع الحصول على الوظيفة في المستقبل.
ولفتت السيدة غوتييريز أيضاً إلى أنه "بالرغم من وضوح الوثائق التي أعدها المجلس الانتخابي الوطني، والتي خصصت نموذج "أ" من "البلانيلاس" لأعمال التصويت الثابتة، والنموذج "ب" للجوالة [وهي مبدئياً مخصصة للأشخاص العاجزين عن التنقل] أمكن ملاحظة استخدام النموذج الأول للحالات الثانية. وهذا ما يمكن أن يحول الزيارة في البيت إلى نوع من جمع التواقيع بشكل واسع والذي لا يمكن ملاحظته على ضوء القوانين الموضوعة" (ضرورة وجود مراقب من المتطوعين لتمثيل الحكومة).
ولأنه لم يقدر حجم الصعاب التي يمكن مواجهتها فان أعمال المجلس الانتخابي الوطني للتحقق من صحة التواقيع قد طالت وجرى تأجيل إعلان النتائج مراتٍ عدة، مما أثار اتهامات عديدة من جانب المعارضة. ومع ذلك فقد وافق الرئيس شافيز في 26 كانون الثاني/يناير، على أن يحضر أعضاء من منظمة الدول الأميركية ومن مركز كارتر أعمال الفرز. ومن جهته هنأ السيد جيمي كارتر، الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، المجلس الانتخابي الوطني على نوعية عمله الجيدة وقال: "في رأيي الشخصي أن المجلس الانتخابي الوطني (...) سوف يأخذ القرار المناسب وأنه يجب القبول بالنتائج السياسية الناتجة منه" [13].
وفيما قبلت الحكومة بالأمر فان المعارضة رفضت أن تتعهد القبول سلمياً بقرارات السلطة الانتخابية. وهي أكثر من أي وقت لم ترضَ بذلك يوم صدمتها النتيجة في 24 شباط/فبراير عام 2004، وقد جاءت على الشكل التالي: 493 832 1 توقيعاً صالحاً، 930 143 توقيعاً مزوراً، 573 233 توقيعاً مرفوضاً لأنها لا تطابق اللوائح الانتخابية، وكان هناك على الأخص 000 879 توقيع على نماذج "بلانيلاس بلانا، أي هي نماذج، بلغ عددها الإجمالي 000 90 وبدت فيها الخطوط متشابهة أي أنها ملئت على يد شخص واحد (ما عدا التواقيع المشكوك في أمرها). وإذا كان هذا النوع من المساعدة مقبولا لدى الأميين والمسنين، فان العدد الهائل تماماً لهذه النماذج يجعلها موضع شك بنوع خاص مما يعزز فرضية عمليات "التزوير الضخمة" الأمر الذي حمل المجلس الانتخابي الوطني على فتح باب إجراءات إعادة التأكد من موقف الموقعين المفترضين الذين سيكون عليهم التقدم ما بين 18 و22 آذار/مارس من أجل التأكيد أنهم وقعوا فعلاً.
لكن المعارضة رأت أن "التواقيع غير خاضعة للتفاوض!" ودعت إلى العصيان المدني وضاعفت من التظاهرات العنيفة التي قمعها الحرس الوطني مما أوقع 10 قتلى (ودائماً في ظروف غامضة تفتح المجال أمام تقدير هوية مطلقي النار)، وعشرات الجرحى و300 عملية توقيف على الأقل وذلك ما بين 27 شباط/فبراير و4 آذار/مارس. ويلحظ نائب الرئيس جوزي فيسانتي رانغل إلى أنه "لو كانوا واثقين من شرعية هذه التواقيع ومن صحة البصمات وأرقام بطاقات الهوية لما تسببوا بأي مشكلة! فلماذا يخافون أعمال التحقق؟ فإن كنت أنا صاحب التوقيع أذهب وأؤكد ذلك، فعملياً أكون أنا الموقع"[14].
مماحكات إجرائية! فكما يتطلب الأمر سارعت واشنطن إلى نجدة هيئة التنسيق الديموقراطي معبرة عن "مخاوفها" ومنتقدة "النزعة التقنية" لدى المجلس الانتخابي الوطني، فيما طالب حليفها المخلص السيد غافيريا باعتماد التحقق "بطريقة تقديرية". أي باختصار، القبول بالتواقيع "بالمغرفة" أو "بالكيلوغرام"! كما في زمن سابق في فنزويلا حيث الانتخابات لم تكن تتقرر في صناديق الاقتراع بل عبر شبكة من الآليات المتبعة لتزوير الرأي العام.
في 15 آذار/مارس، حين عمد قاضيان من المحكمة الانتخابية في محكمة العدل العليا، إلى تجاوز رئيسهما السيد إيفان رنكون والمحكمة الدستورية، إلى الإعلان عن شرعية الطعن الذي تقدمت به هيئة التنسيق الديموقراطي في 8 آذار/مارس, وقد أمرا بأن يلحق بالتواقيع الساقطة 017 876 توقيعاً مشبوهاً ظهرت على "البلانيلاس بلاناس"، مما يرفع العدد إلى 510 708 2 من التواقيع، أي إلى العدد الكافي لإجراء الاستفتاء، وهذا ما يعكس براهين القضية إذ سيكون على المواطنين الذين استخدمت أسماؤهم أو يمكن أن تكون قد استخدمت بطريقة غير صحيحة أن يحضروا ليصرحوا بأنهم لم يوقعوا، خلال أعمال التحقق! وبذلك تنفتح معركة إجرائية جديدة وتترسخ أجواء عدم الاستقرار.
ويبقى أنه حتى وإن تمكنت المعارضة من فرض الاستفتاء فانه يتوجب عندها أن يحصل خيار "النعم" خلال 24 ساعة، ومن دون تزوير!، على صوت واحد زائد عن الرقم الذي ناله السيد شافيز لدى انتخابه والبالغ 733 757 3 صوتاً، وبنوع خاص على أصوات مؤيدة له أكثر من التي ستقول "لا". وهذه فرضية أكثر من محتملة إذا ما نظرنا في الأرقام وفي موازين القوى. ومن هنا المحاولات في القطاعات الأكثر راديكالية، لتأبيد الفوضى مما يسمح بحل للأزمة على الطريقة الهايتية، ومن يدري فربما يكون ذلك بمساعدة واشنطن والأمين العام لمنظمة الدول الأميركية. لكن دون ذلك عائقان أساسيان، فلا السيد هوغو شافيز هو السيد جان برتران أرستيد، ولا فنزويلا هي هايتي.
[1] . اقرأ: "Chavez sauvé par le peuple", Le Monde Diplomatique, mai 2002.
[2] اقرأ: "Dans les laboratoires du mensonge vénézuélien", Le Monde dipmomatique, août 2002.
[3] Gringalets هي كلمة تحقيرية يطلقها الرئيس على معارضيه.
[4] إن مقتل ثلاثة جنود في ساحة فرانسيا هم: أنجل سالاس ودافيد أرغويلو وفيليكس بينتو، مع خطيبتي الأخيرين وقاصرين في الرابعة عشرة من العمر، يفتح المجال أمام النوع نفسه من التلاعب (والصمت المطبق في ما بعد). فلدى توقيف أحد المشبوهين، وهو السيد سيفونتي نونييز، أكد أنه تصرف بناء على أوامر ضابطين منشقين هما الجنرال فيليبي رودريغز والكولونيل يوسيبي بيلييري، لأنهما كانا يشتبهان في أن الضحايا كانوا يسربون المعلومات إلى الدوائر البوليفرية (وهي منظمة شعبية مقربة من الحكومة).
[5] هيئة الإذاعة البريطانية، لندن، 13/12/2002.
[6] في 27 شباط/فبراير، وإثر عملية إصلاح بنيوية فرضها صندوق النقد الدولي، انتفض الشعب وقامت أعمال نهب في كاراكاس، وقد أدى قمع الانتفاضة إلى سقوط 3000 قتيل.
[7] إن "ناشيونال اندومنت فور ديموقراسي" التي تمول في فنزويلا مجموعات تعمل على زعزعة حكومة شرعية، تمول أيضاً باسم الديموقراطية عدداً من الصحافيين الكوبيين المنشقين الذين أوقفوا في هافانا في نيسان/ابريل 2003 ويمكن الإطلاع على لائحة المنظمات الفنزويلية المستفيدة على الشبكة:
Venezuela Solidarity Commitee : www.venezuelafoia.info/
[8] اقرأ: “ Terres promises du Venezuela ”, Le Monde diplomatique, oct. 2003.
[9] إن المادة 72 من الدستور تختص أيضاً بالعمدة والحكام. وهكذا سبقت عملية الاستفتاء المستعادة استشارات تناولت، ما بين 21 و24 تشرين الثاني/نوفمبر 35 نائباً من الغالبية و37 برلمانياً من المعارضة.
[10] راجع صحيفة: El Nacional, Caracas, 1er décembre 2003. ”.
[11] راجع صحيفة: El Nacional, 30 novembre 2003.
[12] على مجموع الناخبين البالغ عددهم 118 012 12 ناخب، يتطلب الأمر في هذه الحالة 483 408 8 توقيعاً.
[13] راجع: Jimmy Carter, “ Venezuela Trip report : Jan. 25-27 2004 ”, The Carter Center, 30 janvier 2004 ; www.cartercenter.org/
[14] راجع صحيفة: El Universal, Caracas, 4 mars 2004.
جميع الحقوق محفوظة 2003© , العالم الدبلوماسي و مفهوم
#موريس_لوموان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في -القدر الجليّ- للولايات المتحدة الاميركية
المزيد.....
-
بالفيديو.. منصات عبرية تنشر لقطات لاشتباكات طاحنة بين الجيش
...
-
Rolls-Royce تخطط لتطوير مفاعلات نووية فضائية صغيرة الحجم
-
-القاتل الصامت-.. عوامل الخطر وكيفية الوقاية
-
-المغذيات الهوائية-.. مصادر غذائية من نوع آخر!
-
إعلام ألماني يكشف عن خرق أمني خطير استهدف حاملة طائرات بريطا
...
-
ترامب يدرس تعيين ريتشارد غرينيل مبعوثا أمريكيا خاصا لأوكراني
...
-
مقتل مدير مستشفى و6 عاملين في غارة إسرائيلية على بعلبك
-
أوستن يتوقع انخراط قوات كورية شمالية في حرب أوكرانيا قريبا
-
بوتين: لدينا احتياطي لصواريخ -أوريشنيك-
-
بيلاوسوف: قواتنا تسحق أهم تشكيلات كييف
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|