أحمد الجنديل
الحوار المتمدن-العدد: 2671 - 2009 / 6 / 8 - 05:02
المحور:
الادب والفن
لا أحد في المدينة لم يتشرف بمعرفة جبّار أبو الكبّة ، فمنذ صغره وهو مشروع للتعارف والمجاملة لما يتمتع به من دم خفيف ، وسرعة البديهة ، وقلب أبيض ، وتعدد في المواهب ، يجيدُ إعداد الكُبّةِ إعداداً جيداً في البيت ، وعند الظهر يضع على رأسه القِدْرَ ، ويجلسُ عند أحد أركان سوق المدينة ، فيسرع نحوه هواة أكل الكُـبّة ، ومع نكات جبّار المتلاحقة على زبائنه ، وبين الانهماك في تناول الطعام يقضي وقتاً يعود بعده إلى بيته ، يتفحصً ( برج الحمام ) ، يغازل ( الأورفلي ) ، ويقدّم الطعام إلى ( العنبري ) ، ويتأملُ ( أبو خشيم ) ويفرحُ عندما تقعُ عيناه على ( المكعكل ) ويبتسمُ إلى ( المكلّش ) ، وعندما يفرغ من إطعام طيوره ، يستبدلُ ثيابه بأخرى نظيفة ، ويمشّط شعره وشاربيه الذين يقفُ عليهما الصقر ، وينطلقُ إلى المقهى ليحتسي الشاي ، ويتجاذب مع الجالسين أطراف الحديث . وجبّار يحلو له أن يظهرَ أمام الجميع على قدر من الثقافة والمعرفة ، ولأجل ذلك فهو يضعُ عدة أقلام في الجيب الصغير الأعلى من سترته ، ويمسكُ كتاباً ، ويجلسُ متباهياً أمام الجميع .
في أحدى أمسيات المدينة الغافية على صدر الفرات ، وأنا ما زلتُ في الصف المنتهي من المرحلة الإعدادية ، وكانت وقتها شوارع العراق ساخنة بعد نكسة الخامس من حزيران ، مررتُ على المقهى التي يجلسُ فيها جبـّار ، وما أن التقت عيناي به حتى أومأ لي بالجلوس ، فدلفتُ إلى المقهى ، وجلستُ بقربه ممنياً نفسي في سماع نكاته اللاذعة ، إلا أنّ نظري وقع على رواية ( البؤساء ) للكاتب الكبير ( فكتور هيجو ) وقد وضعها إلى جنبه بطريقة تثير انتباه كلّ من يدخلُ إلى المقهى . التقطتُ الكتاب ورحتُ أتمعن في غلافه ، وصلني صوت جبّار ممتلئا بالـزهو : إذا ترغب في قراءته فخـذه معك ، على أن تعيده غداً ، فأنـا قد انـتهـيتُ منه هذا الصباح .
انفرجت شفتاي عن ابتسامة عريضة ، فأوراق الكتاب لا زالت ملتصقة بعضها بالبعض الآخر ، والكتاب الذي بيدي لا زال بكرا ولم يفتحه أحد . أخذتُ الكتابَ بعدما أقسمتُ له أنني سأرجعه إليه غداً .
وأنا في طريقي إلى البيت ، عثرت على كيس من الورق لأضع الكتاب فيه ، فأمي تعرفه من غلافه الذي يختلف عن أغلفة الكتب المدرسية ، وفي داخل غرفتي انفردتُ به ، بدأتُ بالتهام صفحاته ، وعندما دخلتْ أمي وأنا منهمك في القراءة ، لم تتحدثْ معي ، خرجتْ مسرعة وعادت بعد حين حاملة معها قدح الشاي الساخن ، وضعته أمامي وخرجت وفمها مليء بالدعاء إلى الله بالتوفيق والنجاح لأبنها المثابر المجتهد . عند الانتهاء من الفصل الأول من الرواية ، تزايدت رغبتي في الدخول إلى الفصل الثاني ، ومع الفصل الثاني تزايدت خطـّافات الشّد إلى المواصلة ، وبدأ التفاعل مع أحداث الرواية يأخذ مداه ، حتى شعرتُ وأنا أواصل السير بين أحداثها قد أصبحتُ جزءً منها ، ولم أعدْ أشعر بشيء ، إلا أنّ دخول أمي المفاجئ جعلني أرفع رأسي إليها ، فوجدتها حاملة الشاي مع صحن مليء بقطع الخبز المدهونة بالزبد والسكّر ، وهي تمتمُ :
ـــ الله لا ينطيهم .. شدعوه هلكد ينطوكم تحضير !!
أخذتُ ما في يدها ، وخرجت وفيض الكلمات يجري خلفها :
ـــ الله لا يضيّع تعبكَ ، إنشاء الله لو طبيب لو مهندز .
واصلتُ القراءة بشغف كبير ، أنساني الشاي والخبز الذي أمامي ، وغرقتُ في فصول الرواية ، ولم أنتبه إلى الوقت إلا عند آذان الفجر ، ومع صوت المؤذن لم يبق لي من الرواية سوى الفصل الأخير الذي تجمعّت فيه حلاوة ما قرأته من قبل ، ولأجل التعرف على نهاية الأحداث المتشابكة والصور المزدحمة في فصولها السابقة ، بقيتُ معها حتى طلوع الشمس . بعد الانتهاء منها ، وضعتها في الكيس ، ونهضتُ لأغتسل ، واستبدل ثيابي ، وأتهيأ للذهاب إلى المدرسة .
عند خروجي إلى باحة البيت ، وجدتُ أمي تجلس القرفصاء ، وهي تنظر لي بعينين متألقتين بالإعجاب والفخر من مثابرة ابنها على دروسه ، وإصراره على التفوق ليصبح في المستقبل طبيباً أو مهندزاً . استبدلتُ ثيابي على عجل ، ومددتُ يدي على عجل أكثر إلى الخبز ، بدأتُ استحلبه داخل فمي ، وأرشفُ الشاي الذي فقدَ طعمه لافتقاده سخونته ، وتوكلتُ على الله وأسرعتُ إلى المدرسة . عند خروجي من البيت ، كان دعاء أمي يلازمني ، وعندما احتضنني الشارع الطويل ، شعرتُ بشيء من الدوار يتسلل إلى رأسي كلص مختبئ ، ومع انتهاء الدرس الأول ، أدركتُ أن لا طاقة لي على أداء امتحان الرياضيات الذي كان مقررا في هذا اليوم . كم تمنيتُ أن يكون الامتحان لمادة الاقتصاد أو التاريخ ، أو غيرها من المواد التي لا علاقة لها بالأرقام والإشارات والمعادلات ؟ فمثل هذه الدروس يمكن للطالب أن يجيب عليها ، الرياضيات لا تقبل ( اللغوة ) التي اعتدنا كتابتها في الإجابة عن أسئلة الدروس الأخرى .
دقّ جرس المدرسة الذي يحمله ( الفرّاش ) بيده معلنا الدخول إلى الحصة التالية ، ومع دقاته المتواصلة ، كنتُ أحسّ بدقات قلبي تتصاعد بعنف ، ومع دخول أستاذ الرياضيات إلى الصف وكتابة الأسئلة على السبورة ، أيقنتُ أنني وقعتُ في ورطة لا أستطيع الخروج منها ، قرأتُ الأسئلة من جديد ، لا يمكنني الإجابة على أيّ سؤال منها ، ولابدّ من عمل عاجل أقومُ به كي أتخلص ممّا أنا فيه ، التقت عيناي بعيني الأستاذ ، تجاهلني أول الأمر إلا أنّ نظري بقيَ ملتصقاً به ، ابتعدَ قليلاً ثمّ التفتَ نحوي ، فشاهدني أحدّق في وجهه بلا انقطاع ، رفعَ يده ، وأشارّ لي أن أباشر في حلّ الأسئلة ، رفعتُ يدي ، فأشرتُ إلى رأسي بسبابتي في رسالة فورية عن إصابتي بالدوار الشديد ، انطلقَ صوته شرساً مزمجراً جفلَ منه كلّ من كان داخل الصف : الأسئلة على السبورة ، فباشر في الإجابة عليها دون مراوغة أو كلاو.. .
عيناي تتوسلان اليه أن يعفيني من الامتحان ، وملامحي تقول : أللعنة على جبّار أبو الكبّة الذي ورطني بهذه الرواية ( الكشرة ) . نظراتي تتابع الأستاذ في توسل مفضوح ، اقترب مني ، قلتُ في نفسي : لقد جاء الفرج ، رفعني من قميصي قائلا بغضب : قلْ لا تفهم الإجابة ، خير من اختلاق الأعذار .
أدركتُ غباء الأستاذ من ذلك اليوم ، يريدني أن أعترف له ، وأنا قضيتُ ليلتي أقرأ ، وأمي ساهرة معي حتى الصباح ، تسعفني بـ ( استكانات ) الشاي ، والخبز الحلو ، والدعاء المتواصل ، وبعد هذا كلّه يريدني أن أقول له : لا أعرف الإجابة . ابتعدَ عنّي قليلا ، وراحَ يراقبُ الطلبة في الجهة الأخرى ، وعندما استدار وجدني قد وقعتُ أرضاً ، أسرعَ نحوي بعض زملائي الذين نقلوني إلى غرفة المدير ، وهناك ومع الجهد الذي بذله مدرس التربية الرياضية ، وما قام به من إسعافات أولية ، تظاهرتُ بعودة الوعي ، إلا أنني كنتُ خائفا من عودتي إلى الصف لأداء الامتحان ، بقيتُ حتى آخر الدرس ، بعدها أرسلوا في طلب أخي الذي كان طالبا في نفس المدرسة ليأخذني إلى البيت . طيلة الوقت الذي قضيناه في طريقنا إلى البيت ، وأنا أحـّذر أخي بعدم التحدث إلى أمي بما حصل ، وكان يشاطرني ما أنا فيه ، إلا انه ما أن دخل البيت حتى أسرع إلى
أمي ليخبرها بكلّ ما حصل وبالتفصيل ، مع التأكيد لها على حصولي ( صفر ) في الامتحان ، تلقفت أمي الخبر بغضب شديد ، أسرعت نحو العباءة ، وضعتها على رأسها ، وهمّت بالخروج من البيت ، وقفتُ في طريقها ، طبعتُ قبلة على جبينها ، أخبرتها أنّ ما حصل لا يستحقُ كلّ هذا الانفعال ، إلا أنّ أخي ( الملعون ) أكدّ لها موضوع ( الصفر ) في الامتحان ، فهمّت من جديد بالخروج من البيت ، صارخة في وجهي :
ـــ دعني أذهب إلى ( زكـّية ) لتقول لأبنها ، أنّ ولدي بقي ملازماً كتابه حتى الصباح ، وأنا شاهدة على ذلك .
بعد التوسل وتقبيل يدها ، أثنيتُ أمي على ما هي عازمة عليه ، وعند المساء ، ذهبتُ إلى المقهى حاملاً معي رواية البؤساء ، وما أن وقعَ نظري على جبّار حتى دخلتُ عليه ، رميتُ الكتاب في حضنه دون كلمة شكر ، وعدتُ مسرعاً إلى البيت .
رحمَ الله أمي الطيّبة التي انتقلت إلى جوار ربّها ، ولم تشاهد ابنها يرتدي الصدرية البيضاء ، أو غطاء الرأس الذي يضعه المهندسون على رؤوسهم . ورحمَ الله جبّار أبو الكبّة الذي وافته المنيّة بعد سقوطه من أعلى داره إلى رصيف الشارع عندما كان يلوّحُ لـ ( العنبري ) وهو يتقلبُ في السماء ، ورحم الله فكتور هيجو الذي لم أقرأ له منذ ذلك اليوم .
#أحمد_الجنديل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟