حسام مطلق
الحوار المتمدن-العدد: 2672 - 2009 / 6 / 9 - 08:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كنت قد ناقشت في الجزء الثاني, الصور التي يستحضرها القوميون والاسلاميون وفاعليتها ومبررات قصر الاستحضار عليها, وهنا اناقش قانون حركة التاريخ وفقا لهيجل والخلل الذي اصاب الواقع العربي.
ثلاثة عناصر يعول عليها في هذه الصناعة, صناعة الإعاقة عن اللحاق بالركب الإنساني :
أولها, الحفاظ على الوعي العربي في الحفرة.
ثانيها, تأكيد التماهي مع الموضوع المثالي, وهو هنا فلسطين, وبين الذات الفردية. فالعربي, يستمد تعريفه لذاته من فلسطين بدلا من أن تعرف فلسطين عربيا. وهذا التماهي يسمح للعربي بتجرع المزيد من الألم الذي يحركه للقصاص الذاتي والنكوص بدلا من الفعل التقدمي.
ثالثها هو توظيف الطفرات الناتجة عن شيوع الاستيهام الشعوري عبر عملية التوحد الاسقاطي, أي الانتحاريين.
ففي مرحلة متقدمة من الاستيهام الشعوري يفقد اللاوعي السيطرة على الذات فتصبح رهينة الشعور المتشبع بالألم, أي أن اللاشعور الذي صنع الوهم كي يحافظ على الذات بعيدا عن التقدم والاندفاع والاكتفاء بها في مساحة العاطفة صار خارج التأثير لتصبح السيادة للشعور الغارق في الألم وقناعة التماهي مع الموضوع, فيغدو الفرد مستعدة لتفتيت الأنا, أي الانتحار والفناء. وهنا يأتي دور أجهزة المخابرات الخارجية والثورية, كما هو حاصل في العراق, وكما حصل في النهر البارد وغيرها من نقاط الاستنزاف التي تواطئ فيها القومي مع الإسلامي على إبقاء العربي في الحفرة.
من هنا فإن المخرج من كامل الأزمة لا يكون في افتعال قوانين تاريخية جديدة بل بفهم ما هي عليه دائما, كما قال كارل ماركس " كي تُشَرح إنسان عليك أولا أن تتعلم كيف تُشَرح الإنسان ". هي قاعدة منطقية, للانتقال إلى الجزئي لابد أولا من الإحاطة بالكلي. ولكي نفهم ما هي العلاقات اللازمة لدفع الأمة بحركة تقدمية علينا أن نفهم القوانين التي يعمل بها التاريخ. وأنبه هنا إلى أن استخدام كلمة تاريخ يقصد به في الاصطلاح الهيجلي " الفعل الاجتماعي " وليس المدونة الموثقة للأحداث, فتلك تسمى بـ" التأريخ ".
القانون الأساس المستمر الفعل في العملية التاريخية الاجتماعية هو قانون " الرفع ". أي التحول إلى المغاير. وكما تلاحظون فإن العنوان نفسه يشير إلى ضرورة القبول بالتغير. التغير هنا, حتما, أشمل من أن يحشر في علاقة واحدة. هو تغير في الهوية, وفي القيم, وفي النظام القانوني الأكثر شمولا لمجمل علاقات الجماعة الإنسانية وما سوف يفرضه هذا التغير من تبدل في الأولويات, بناء على هذا التغير تصبح الرؤيا واضحة لتحديد النتوءات التي علينا أن نرتكز عليها في خروجنا من الحفرة. أقصد الصور العاطفية المستحضرة التي يجب تفعيلها في الوعي الجمعي كي يعول عليها في عملية الشحن لتحقيق الدفع التقدمي لروح الأمة. قانون الرفع له خمس حركات أو مراحل.
أولها: النفي. أي الحدث العاصف الأول, ولكم أن تعتبروا أن الاستقلال العربي عن العثمانيين وظهور إسرائيل هما النفي الأول لأنه وبكل بساطة العربي اليوم هو نتيجة لهذين الحدثين :الثورة العربية الكبرى وظهور إسرائيل.
ثانيها: نفي النفي. أي غربة ما نفي أولا. بعد أن تحددت خارطة الشرق الأوسط السياسية ظهر التنظير الأيديولوجي الذي يفترض في الحالة الصحية أن يسبق قيام الدولة, كما حدث مع الدول الأوربية وإسرائيل, ولكنه في الحالة العربية جاء لاحقا. في هذه المرحلة حدثت غربلة غير واعية, ولا حريصة, وليس فقط للقيم بل وحتى للأهداف النهائية, وكما قلت, عرف العربي نفسه من خلال فلسطين, فصار متماهيا مع الموضوع المثالي ووقع خلل سيكولوجي جذري أثر على سلامة المحاكمة العقلية مما قدم للأنظمة الثورية مشروعية منقطعة النظير برغم الآليات غير القانونية التي استخدمتها للوصول إلى السلطة.
ثالثا : هنا, بعد تحقق النفي الأول ذي الطابع التكويني ونفيه لاحقا عبر الغربلة يأتي دور الحركة الثالثة التي أسماها هيجل " الحفظ " والتي ينحصر دورها في حفظ القيم الناتجة عن المرحلة السابقة وتكريسها في الوعي الجمعي, وهو ما لم تتنبه إلى أهميته الأنظمة الثورية في مصر وسوريا والعراق, وهي مراكز الدفع الحضاري العربي التاريخية, لأنها جميعا مارست نظرية أمنية واحدة استوردتها مصر من الاتحاد السوفيتي السابق حين قال الرئيس الراحل عبد الناصر لضابط مخابراته صلاح نصر : عاوزين نحمي الثورة من أعدائها, احنا ما عندناش حزب ولا تنظيم " فكانت الكارثة حين أوكل أمر أمة وحضارة إلى قيم القوادين. أما تفكيك تلك النظرية, خصوصا من جانب التطبيق في التحليل النفسي, فسوف يكون موضوع مقال آخر أبين فيه مدى الكارثة في استخدام التقابل بدلا من التكامل في التحليل النفسي, وهو النهج المتبع في النظرية الأمنية إياها, ولكنني لا أريد أن اخرج القارىء الكريم بعيدا عن هذا التتابع رغم علاقة الموضوع , إذ يكفي تجزئته إلى مقالات .
عودة إلى نقطة الحفظ القيمي.
حين فكك هيجل الثورة الفرنسية كمدونة ليسقط عليها حركات قانون الرفع اعتبر أن عودة الملكية الدستورية على يد نابليون هي بمثابة الحركة الثالثة لقانون الرفع. فمن خلال هذه العودة سوف يستعيد المجتمع الفرنسي القيم الأرستقراطية الراقية ويدمجها مع قيم الحرية التي صنعتها الثورة فيكون المجتمع الفرنسي, وفي آن واحد, حرا وأرستقراطيا. وهيجل على غير ما يشاع عنه أعطى الإنسان الفرد دورا مهما في التاريخ فهو يقول بالحرف " ... إنني أسلم بمشاركة الإنسان الفاعلة في مقارعة الواقع المغترب... إن البشر ينفون بنشاط مراحل من العملية التاريخية بمراحل أخرى, أكثر نضجا, وهذا يحدث حين تظهر لديهم الحاجة إلى التحرك ضد المضمون الذي يشكل القيمة السابقة ...". إذن هو يراهن على أن التبدل القيمي الذي يقود باستمراره الحركي إلى تطور حضاري هو نتيجة لتراكم الأفعال الجزئية للأناس العاديين دون أن يلغي هذا دور الأحداث الكبيرة ولا الفاعلين الكبار ولكنه ينطلق من مبدأ تظافر العناصر في توجيه مجمل الحركة, وهذه نقطة بالغة الأهمية سوف أعود لدورها في جزء لاحق أناقش فيه العلاقة بين الفرد العادي والنموذج الاجتماعي.
في الحالة العربية لقد دفع الإنسان العربي إلى الحفرة وترك لرؤيا لا تبصر غير نتوئين, أما النخب " الثورية " فقد كانت, وكما قلت, بحكم فقر طبائع شخوصها الناتج عن منابتهم المتواضعة مدنيا, أعجز من أن تدرك الضرورة و الأهمية القصوى للبعد الأخلاقي في المجتمع. فدفعت إلى التقدمية " الشعاراتية " عبر إسقاط الأخلاق الدينية دون أن تكون لديها القدرة على خلق أجيال متمسكة بالقانون لتكون النتيجة شيوع ثقافة الإنتهازية والتذاكي. أي كما قال تشرشل عن الانظمة التوليتارية : إن هذه الانظمة لم تكن تبغي خلق بديل عن الدين وإنما إيجاد دين بديل. وهكذا سقط العرب في الحركة الثالثة من قانون الرفع.
كي تصبح الصورة أقرب سوف أشرح ما سبق بمثال إسقاطي مبسط.
لنقل أننا في مصنع للعصائر, الهدف من المصنع هو تحقيق الربح للمالك. لتحقيق الربح لابد وأن يكون الإنتاج جيدا وأن يظل المنتج مواكبا لتطور المتطلبات في السوق. أي أن يظل المنتج خاضع لقانون الديالكتيك. العملية الإنتاجية تبدأ بوضع كأس البلاستك على حزام الحركة, وهذا وقع بتشكل خارطة الشرق الأوسط. أي ظهور الدول العربية وإسرائيل. المرحلة الثانية هي أن يسكب العصير في الكأس, وهذه مثلتها المراجعات الأيديولوجية. المرحلة الثالثة هي أن تختم الكأس محافظا على العصير صحيا غير ملوث, وهي مرحلة الحفظ القيمي. المشكلة في الحالة العربية أن الأنظمة الثورية بعدم وعيها لأهمية الأخلاق في روح الشعوب وضرورتها لاستقرار العلاقات بين الأفراد والمنظمات والكيانات المختلفة لتأمين التفاعل المتبادل الذي يعطي حيوية الديمومة التقدمية في الحركة التاريخية, هي كأنها أحدثت ميلا في حزام الحركة الذي ينقل كأس العصير, فصار العصير بعد أن يملأ به الكأس ينسكب أو يتلوث, قل ما تريد, وهو يتحرك نحو مرحلة الختم, ليقع الختم على حال افتقار وفساد. وهكذا حين تصل كأس العصير للتغليف النهائي لا تبقى أي عبرة لتاريخ الإنتاج ولا لجودة المواد المستخدمة في المنتج ولا للون وزهو العلبة, المستهلك يشتري الكأس من أجل العصير, وهو فاسد أو ناقص, ولا يشتريه من أجل باقي التفاصيل, وهنا مشكلتنا في التوافق مع العالم الخارجي. التفاوت القيمي.
حين يحدث الرفع النهائي, أي الحركة الخامسة, أي عرض المنتج في الأسواق, يواجه العربي أزمة تسويق نفسه وقضيته وآلامه, ويحمل المسؤولية للغرب الذي باعه هذه الآلة دون أن يسأل نفسه: وماذا فعلت أنا طوال هذه العقود كي أصلح الميل في حزام الحركة؟.
الغربي لا يعنيه أن يكون أكراد سوريا غير المجنسين, وهم بالمناسبة الجيل الثالث, قد قدموا أصلا من تركيا خلال عملية تهجير, كما تقول السلطات السورية, الغربي يعطي الجنسية للمواطن العربي بعد عامين من إقامته في قارة هو أصلا غريبا عنها فما بالك بمن كان يقطن على بعد كيلومترات من خط الحديد الذي اصطلح على جعله حدودا. الغربي لا يعنيه أن كل الشعب الإسرائيلي في المحصلة يعمل في القوات المسلحة ولا يقبل هذا كعذر لتبرير العمليات الانتحارية, هو يتوجه اليوم لمحاكمة المتورطين في جرائم حرب في غزة, لذا يبدو غريبا عليه جدا أن تتضامن الجامعة العربية مع النظام السوداني في قضية دارفور تحت بند " مؤامرة استعمارية ".
لقد انسكب العمق القيمي في الواقع العربي بما أجج له رجال الدين عاطفيا و مارست أجهزة المخابرات الثورية من تذاكي وركضت خلف خطط قصيرة الأجل فاصطدمت بمثقفي الأوطان. والمثقف الذي لا تدفعه قراءاته إلى اتخاذ موقف فلسفي من مجمل الحادث حوله هو أقرب إلى موظف الأرشيف في دائرة للمعلومات منه إلى المثقف. الأنظمة الثورية باصطدامها بالمثقفين من جهة, وإصرارها على عزل الأرستقراطيين ووجهاء المجتمع, ليس فقط على الحراك السياسي, بل وحتى عن الدور الاجتماعي, كرست اتجاه جديد للقيم هو في حقيقته لا قيمي. لقد زرعت مبدأ التذاكي والانتهازية.
#حسام_مطلق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟