أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - .نجاح العطار - المرأة في شعر ناظم حكمت















المزيد.....


المرأة في شعر ناظم حكمت


.نجاح العطار

الحوار المتمدن-العدد: 2671 - 2009 / 6 / 8 - 05:16
المحور: الادب والفن
    



المرأة في شعر ناظم حكمت ـــ د.نجاح العطار

هل تعاملتم1 يوماً مع الحنين في غربة أو سجن أو فراق؟‏

هل اتقد في صدوركم شيء ما، وذات كقطرات شمعة تشتعل في معبد؟‏

وهل اكتمل في بهمة الليل الحفل الذي أنتم حضوره وشهوده، لذلك الشوق إلى الآخر: الحبيبة، الزوجة، الولد، الأهل والوطن، واستضفتم كل أولئك، على أجنحة حلم اليقظة، وأنتم منقطعون عن العالم، بين أربعة جدران؟‏

ناظم حكمت، في سجنه الذي امتد دفعة واحدة ثلاثة عشر عاماً. كان يقيم كل ليلة هذه الحفلات الغربية للحنين والشوق والحلم، في زنزانته التي أرضها من الإسمنت، والتي كانت تزوره فيها زوجته في رقة خيال فتورق الجدران ويخضر الإسمنت.‏

ويقف ناظم بين يدي الزائرة، السلطانة، كما كان يسميها، معقود اليدين، أو يركع على روحه البائسة، ويمد يديه إلى الطيف، لكن الطيف يظل طيفاً، يختفي أو يبتعد، وعندئذ يشرع بحفر اسم منور بظفره على سوار قيده، مردداً كلماتها الخالدة خلود الزمن، الكلمات المشعشعة كالنجوم، الكلمات الحزينة والشجاعة والبطلة.‏

وكذلك يبدأ يناجيها:‏

"أنا يا منور لا أعلم عدد الذين يعيشون معي في نفس البناء –أنا وحدي بعيد عنهم- وهم جميعاً بعيدون عني- ولا يسمح لي إلا بالتكلم مع نفسي، وهذا ما أعمل –أنا أثرثر، وأجد ثرثرتي تافهة فأغني-إيه يا امرأتي!- أغني هل تصدقين؟ صوتي المنكر-الخالي من الطرب- يتغلغل في نفسي حتى لتفطر قلبي- وكاليتيم في القصص الباكية-اليتيم الحافي على ثلج الدروب، يود قلبي أن يبكي –أن يمسح عينيه الزرقاوين- وأنفه الصغير الصَغير-.. ولكن أن يبكي، فليس لإيقاف الفارس المسافر- الممتطي جواداً عندمياً على الدرب-أن يبكي فليس تهرباً من سماع صرخات الطيور الجائعة-أن يبكي ويرتعد في الريح-أن يبكي وحيداً، ولنفسه-يا للغرابة! أنا لا أخجل من حالة قلبي هذه-أنا لا أحمر خجلاً-من رؤيته ينطوي على نفسه-منكس الرأس-ومن الإحساس به ضعيفاً هكذا-وأنانياً هكذا- وأنانياً هكذا-وإنسانياً بكل هذه البساطة".‏

ويظل ناظم يناجي منور.. يقول لها كل الكلمات التي تهمس على شفتيه نجوى قلبه، في بوح هو العمق الإنساني في امتداده، وصراحة هي الاعتراف الكامل بخلجات النفس، وراحة كالتي في وضع زوج رأسه على كبد زوجه، وفرح كالذي للطفل وقد عنق أمه قبل أن يغمض جفنيه للنوم.‏

وستتكرر هذه الحفلات الليلية للحنين ولاستقبال الزوجة والحبيبة. ففي السجن يبدأ الليل قبل هبوط الليل. إنها العزلة التي هي الحياة كلها بالنسبة للسجين، وهي القاعدة، أما التنفس فهو الاستثناء، ومنذ الساعة الخامسة تغلق أبواب الزنزانات والقواويش، فاصلة السجناء عن العالم الخارجي "بكل عطشه وهمسه الغريب، وسطحه الترابي، وجداره الهزيل، الساكن أبداً وسط اللا نهايات، كما يقول ناظم، العالم الخارجي بكل مستحدثاته وغرائبه، وبكل ما يلزم لدفع الإنسان إلى الجنون".‏

وبعد قليل من إغلاق الأبواب يقبل الليل فجأة "ويأتي ضياء ليحيط بالجواد الهزيل، والطبيعة التي فقدت رجاءها في الخريف، والتي تستلقي هناك مثل ميت ذي وجه قاس، ستمتلئ سماؤها بالنجوم بغتة، وعندئذ ستكون النهاية المعلومة للنهار، يعني أنه مع الليل سيكون كل شيء جاهزاً، وسيكتمل الحفل لبعث الحنين المهيب".‏

وأخطر ما في هذا الحنين المهيب، أن تتولد عنه حسرة قاتلة للنفس، أن يتلف السجين أعصابه في التفكير بما هو خارج السجن، ليس بما هو خارجه من قضايا الناس، فهذه تعد قضيته ذاتها بالقوة، إذا عرف كيف يربطها بها، ولكن أن يفكر بأن الناس أحرار وهو مقيد، وأنهم سعداء وهو تعس، وتغيم في ناظريه الرؤية الصحيحة للوضع الذي هو فيه، ويقع في اليأس فيروح يعد الأيام في قلق مدمر، ويحمل السجن في نفسه فيصير قدره المعذب.‏

بتعبير آخر، أن يقع في شرك الوحدة، هو الوحيد وحدة كاملة. ذلك أن ناظم أمضى أكثر أيام سجنه في زنزانة منفردة، وراح لشدة حاجته إلى الأنس يكلم نفسه حتى صارت لديه عادة لازمته إلى آخر عمره.‏

ولئن كان شعور الإنسان بالوحدة ليس مقتصراً على المكان الذي هو فيه، فقد يتوحد الإنسان ويعاني من الوحشة وهو في بيته وبين أهله، لكن هذا الشعور، إذا سمح له أن ينب في النفس داخل زنزانة، فإن وقعه المؤلم يكون مضاعفاً، ولهذا فإن علماء النفس يقولون إن السجن الانفرادي أقسى من التعذيب بالنسبة للسجين. لكن ناظم حكمت أفلت من شدقي رحى الوحدة. ولم يجعل نفسه حبة قمح تدور في فلكها.‏

كان يستشعر أنه بين الناس، ويدعو طيوفهم إلى زنزانته، ويتحدث إليهم ومعهم. وكان طيف المرأة، زوجته وحبيبته ورفيقته كما كان يدعوها، في مقدمة الزائرين، يسامره ويناجيه ويعاوده بغير انقطاع.‏

كذلك كان يعمل في سجنه ويعلم الآخرين أن يعملوا، وقد ذكر "كلودروا" في مقالة عنوانها "رجل الجبهات جميعها"، نشرها في مجلة "فرانس أوبزرفاتور" أن ناظم حكمت تحمل في سجنه وحدة الزنزانات، لكنه رفض أن يتقبل شعور الوحدة، فقد كان يكتب إلى صديقه كمال طاهر، المعتقل في سجن آخر، رسالة كل أسبوع، ويبعث إليه بنصائحه عن العمل والتفكير، وكتباً ومالاً وثياباً، وكان يكتب إليه بخط صغير لأنه لا يملك مالاً كافياً لإرسال رسالة ثقيلة من سجن لآخر. وقد كتب هو نفسه قصائد رائعة في السجن، كانت بساطاً مديداً موشى بالرجال المشهورين بغير اسم، من الفلاحين والعمال والسائقين والزجاجين والأطباء والطلاب والشعراء، هؤلاء هم الذين كانوا رفاقه، وكان يقول لهم في قصائده: "إنني أحس بأوجاعكم، مثلما تحسون بها تماماً، وأن الدمع ليتحير في المآقي، فأتمالك نفسي مثلكم وبنفس الحزم، ثم يقول لهم، والحكم بالإعدام مصلت فوق رأسه، "إذا بقيت سالماً، سأكتب على الجدران وفوق الأرصفة، في الساحات العامة، أشعاري، وسأعزف على الكمان في ليالي العيد، لمن يبقون من المعركة الأخيرة، وكذلك سأعزف على الأرصفة المغمورة بضياء ليلة رائعة، للذين يغنون أغاني جديدة. للناس الجدد، والخطوات الجديدة".‏

وخلال سجنه الطويل كله، أصغى إلى اللصوص والقتلة والمهربين الذين كانوا زملاءه، واعتبر نفسه سعيداً برغم المحنة التي هو فيها، وكان يقول إن شيئاً لن يمنعه من إنجاز عمله كثوري وشاعر، وإن مساعدة الناس على التشكل والتحقق هي قضيته، وعندما التقى شاباً ينظم الشعر دون أن يحقق مستوى مرضياً من الجودة، جعله "قضيته"، وأصبح هذا الشاعر الشاب بعد ذلك، الروائي الكبير، أورخان كمال"، الذي كتب رائعته: "فوق الأرض الخصبة"، ثم عندما التقى فلاحاً سجيناً كان يأتي ليشاهده وهو يرسم خلال أوقات التنفس، ساعده ناظم في تعلم الرسم، وانتهى إلى إعطائه الأقلام والألوان والكرتون، فأسهم في ولادة أشهر رسام شعبي في تركيا هو بلابان.‏

هكذا عرف كيف يكون مفيداً. غرس قدميه في تربة وطنه، وهذا هو سر قوته، فعجز جلادوه عن اقتلاعه من هذه التربة، لأنهم وقد سجنون، اكتشفوا أن الشاعر أقام الصلة مع الذين هم في الخارج فأسقط في يدهم، ولم يأتهم السجن المنفرد بفائدة، لأن هذه الصلة استمرت، باعتبارها فكرة، والأفكار لا تحتجزها الحدود ولا جدران السجون.‏

أقول أقام الصلة، ولم يجعلها أحادية الجانب. كان يتكلم إلى شعبه عبر قصائده، وكان يصغي إلى هذا الشعب عبر الأنباء التي تصله عنه، بل لقد كان يتكلم إلى الشعوب ويصغي إليها، ويطوف العالم، ويتحدث إلى الأصدقاء، ويرد على الأعداء، ويعلن أنه مسرور جداً بمقدمة إلى الدنيا ويقول: "أحب ترابها وضياءها ومعاركها وخبزها. الدنيا كبيرة عندي إلى حد لا يصدق، ولكم وددت لو سحت فيها، فأرى ما لم أره من شمسها وخضرتها ونجومها. والواقع أنني طفت أوروبا كلها في الكتب والصور، ولي في كل ميل، من الصين إلى إسبانيا، من رأس الرجاء الصالح حتى آلاسكا، أصدقاء وأعداء، أصدقاء لم يصافحوني مرة واحدة، ولكننا قادرون على الموت لأجل الخبز ذاته، والحرية ذاتها، والأماني ذاتها".‏

وفي قصيدته "معارفي هناك"، يستحضر هؤلاء المعارف إلى السجن، ويستحضرهم إلى الذاكرة بعد السجن، ويروي على لسان أحدهم أنه قال: "أريد ناظم أن يغني أطفالنا، حين يعودون متشابكي الأيدي من الحدائق الأطفال، الأغاني التي أغنيها لنفسي. إن أجمل ما سمعته من أصوات سؤال طفلي عن النجوم، وهو ينام على ركبتي في ليلة صيف". ويقول آخر: "يا رفيقي ناظم، ابنتي في الخامسة من عمرها، وقد تزوجت أمها عام 1922، وسمعت ابنتي أغنية أول معمار ونحن نشيد البناء، وكبر البناء، وكبرت ابنتي، وكبرت أنا أيضاً".‏

ويروح هذا السجين يقص عن عائلته إلى ناظم، ويروح ناظم يقص عن الدنيا إلى هذا السجين، وهكذا لا تنقطع الصلة بين الشاعر وشعبه، الشاعر الذي يكشف لهذا الشعب مضامين رسالته ويبلغها، جاعلاً الأصوات تغني، وكذلك الصمت، وهو يواجه بعناد الوزراء ورجال الشرطة والحراس والمتنفذين والأسياد, ويكتب إلى صديقه كمال قائلاً: "أشعر أنني بكامل استعدادي، كما لو كنت ملاكماً، مصارعاً، لاعب كرة قدم، طياراً، فكم أنا إنسان سعيد".‏

إنسان سعيد؟ إن سجيناً بلغ مجموع الأحكام الصادرة بحقه أربعة وخمسين عاماً من السجن، قضى منها ثلاثة عشر عاماً في سجن متواصل، يقول عن نفسه أنه سعيد، وأنه بكامل استعداده كما لو كان ملاكماً أو مصارعاً، لا بد أن يرتكز في هذا الوثوق والتحدي، إلى إرادة بالغة الصلابة، ترتكز بدورها على إيمان وطيد بالقضية التي يناضل لأجلها.‏

وهذه القضية هي الإنسانية. لقد كان ناظم عميق الحب للإنسانية، عاملاً على تغيير حياتها الفاجعة في وطنه وفي العالم، مناضلاً ضد الاستعمار والاستغلال والاستعباد وكل صنوف الشقاء في المجتمعات الطبقية وأجوائها الفاسدة التي تستلب إنسانية الإنسان وتهدر حريته وكرامته وتبقيه فقيراً جاهلاً متخلفاً.‏

رأى ناظم عند أحد الأطباء في بودابست قلباً إنسانياً في وعاء زجاجي، فكتب في ذلك المساء: "هل جاءه الموت من انسداد شريان أم من الحب؟" وظل الجواب معلقاً، لكن الذين يقرؤون رسائله وهو السجن، أو قصائده المكتوبة في تلك الحقبة، رسائله المكتوبة إلى كل واحد منا، وكذلك قصائده المكتوبة من أجل كل واحد منا، لن يتساءلوا مم مات ناظم بعد ذلك في الثالث من حزيران 1963، إنه لم يمت إلا من الحب، حب الإنسانية التي قال عنها:‏

"الإنسانية العظيمة ترتحل على أسطحة البواخر –وفي عربات الدرجة الثالثة- وهي تتزوج في سن العشرين- وتموت في الأربعين- الإنسانية العظيمة".‏

ومن أجل هذه الإنسانية العظيمة تحمل جميع صنوف الآلام، وأكثرها إبهاظاً للجسم والروح، وخرج من تجربة الألم منتصراً عليه، صارخاً أبداً:‏

"إن ما أفعله هو من أجل الناس-من أجل الجهال والحكماء- من أجل الذين ما زالوا أطفالاً- من أجل هؤلاء القاهرين المبدعين- الذين وجدت الأغاني لتمجيد أعمالهم".‏

وكي يمجد أعمالهم بالقول وبالفعل، نظم القصائد، وتحمل عضات القيود، راضياً أن يكون "استغاثة هذه الملايين، استغاثتها الملأى الطافحة، حسب تعبيره، فإذا اشتد عليه الألم، وأرهقته الأيام في الزنزانات، صاح في ذاته وكأنه يخاطب إنساناً آخر، مستقلاً عنه: "ضمد جراحك بيديك الرهيبتين، وعض على شتفيك مقاوماً الأوجاع"، ضمد جراحك بانتظار الفجر الذي يلوح، الفجر الذي كان يرى فيه آلافاً من العبيد ينهضون من القبور المنسية "ومن جراحاتهم تسيل ألسنة اللهب- إلى أرض العبودية- وسلاسلهم تهتز- في قصف شبيه بالرعود". كما يقول الشاعر هايدن.‏

وكانت المرأة تنهض أيضاً، نافضة عنها غبار الأيام وظلمات القرون، وناظم يمجدها كما يمجد معركته، ويحبها كما يحب معركته، لأنها إنسان في قلب معركته، وعنها سيكتب أروع قصائده، وستقرأ المرأة هذه القصائد، وتحبها كما نحبها، وتتحمل في سبيلها ولنصرة قضيتها، كثيراً من الألم والحرمان والسجن أيضاً.‏

وما من شك في أن الأدب العربي والعالمي قد احتفي كثيراً بالمرأة. بل إن المرأة تشكل الركن الأساسي في كل بناء أدبي، نثراً كان أم شعراً، لكنها في أغلب الأحيان تكون مادة حب أو جنس، ينتهي الأول بها إلى الزواج، والثاني إلى حياة السقوط في المهاوي، وقد تنتج تلك التراجيديا العاطفية التي نراها في قيس وليلى وروميو وجوليت، بسبب التقاليد والأعراف المتخلفة السائدة، وهي تصور معاناة المرأة وخضوعها وضغط البيئة عليها، واستكانتها هي إلى هذه البيئة واستسلامها إلى درجة الموت لقسوة الرجل ذي العقلية المنساقة بالغيرة الهوجاء كما في مسرحية عطيل، أو انحدارها إلى جحيم البؤس الاجتماعي بسبب خروجها على المؤسسة الزوجية كما في "مدام بوفاري" و"أنا كارنيا"، ليكن الأدب، باستثناء القليل منه، وخاصة قبل نشوء المجتمعات الاشتراكية وتحرر المرأة بتحرر مجتمعها، ما كان، ولعله في ذلك كان يستلهم الواقع، يصور المرأة على هذا البهاء الذي صورها به شعر ناظم حكمت، صديقة ورفيقة ومناضلة مساوية للرجل، تعرف أن تصمد مثله، وتموت في سبيل وطنه وقضية شعبها مثله أيضاً.‏

إن النظر إلى الحاضر في انفصاله عن المستقبل يشكل نظرة قاصرة إلى الأشياء، والأدب الذي تناول المرأة في سكونية الحاضر دون حركيته قد أغفل جانباً مهماً من مسيرة التطور الثوري. والأدب البورجوازي الذي كثيراً ما اتخذ المرأة كائناً جسدياً أشبه بسلعة فنية كما هي سلعة تجارية، كما يخدم الرأسمالية التي لا ترى في المرأة إلا مادة متعة ومادة استغلال، ولهذا ظلت صورتها ممسوخة في أكثر الأعمال الأدبية، مشوهة في جانبيها المثالي والوضيع على السواء.‏

وإذا كان ناظم حكمت قد مجد زوجه، ومن خلالها المرأة، وهو بعيد لا يدري ماذا تعمل ولا بماذا تفكر كما يقول، فلأنه كان يثق بها، ويعتبرها إنساناً كاملاً ومستقلاً ومساوياً للرجل.‏

وإذا كان قد اعتبرها صديقة ورفيقة، واعترف بنضالها وقدره هذا التقدير، فلأنه كان ينطوي على مفهوم صحيح للعالم، ويؤمن أن المرأة نصف المجتمع، نصف الشعب، وأن تحرر شعب ما لا يكون بنضال نصفه فقط، وأن تقدم شعب لا يكون بأن يحكم نصف ويبعد عن الحكم نصف آخر.‏

من أجل ذلك حرص، وهو يرسف في القيود دفعاً عن قضيته، أن يرى المرأة في قلب هذه القضية، فيناجيها تارة، ويبثها شوقه وعزمه طوراً، ويضع يده بيدها أبداً في مسيرة نضاله الطويلة.‏

وهذه الشهادة للمرأة المناضلة، من شاعر ومناضل مثل ناظم حكمت، لها وزنها الكبير بالنسبة للذين يعجبون بشعره وصموده ومواقفه البطولية، وتفانيه العجيب في الدفاع عن مبادئه.‏

وقد صور هذه المرأة في أكثر جوانبها تألقاً. زوجة مع زوجها على الدهر لا مع الدهر على زوجها، مع الحرمان واحتمال الأذى في طريق الكفاح، وليس مع الرخاء والنعيم في معارضة هذا الكفاح، وعندما جاءه أن فتاة جامعية أوقفت بسبب أشعاره كتب يقول:‏

"أفكر بك أيتها الفتاة، فأنت في السجن منذ عام، وأقل حكم ينتظرك ثلاثة أعوام، لأنك قرأت بعض أشعاري".‏

"وأفكر بك، يقول لزوجته، وصوتك ما زال يرن في مسمعي. أفكر بك يا زوجتي الصغيرة، فهل جف لبنك نهائياً؟ وعجلي، محمدي، ألا يرضع ثدييك؟ وهل دفعت أجر البيت عن هذا الشهر؟ وهل أعيش أنا في خاطرك؟".‏

وهو يتألم لوضع المرأة الشرقية، هذه التي تلتف جدائلها على أصابع الرجل، وفي قصيدته "قصة فراق" يقول عنها "إن وجه الأرض كوجه الأم المشرق –وهي ترضع آخر أطفالها، وأجمل أطفالها". ويصور العلاقة الزوجية التي يلعب فيها "رجل محتقر" دور السيد ما دام بيده أن يبقى مع المرأة أو ينفصل، وهي قصيدة لا يمكن تلخيصها لأنها توحي بهذا الجو كله إيحاء، وتنشر إحساساً عند السامع أو القارئ بمأساة المرأة في ظل وضع يشبه وضع العبودية.‏

على أن ناظم حكمت كان ينشد في المرأة رفيقة درب وزميلة نضال، تعلو من المفاهيم البورجوازية لحياة الدعة والخمول. إنه يريدها مناضلة لا تستسلم للمغريات الخادعة، ولا يقعد بها حب الترف عن أن تكون شريكة لرجلها المناضل، ويعاتبها في قصيدته "المارد ذو العيون الزرق والمرأة الصغيرة والسوسنة" لأنها فضلت على مارد يحب كمارد، ثرياً قزماً، في حديقته يتموج السوسن، بعد أن اشتاقت المرأة للراحة، وتعبت في دروب المارد الشائكة.‏

كان، بكلمة أخرى، يريد المرأة ألا تخاف الحياة فتواجهها بشجاعة، وألا ترهب الموت إذا كان مصير الوطن يتطلب التضحية. وهو لا يزعم أن المرأة لا تخاف أو يجب ألا تخاف، ولكنه يرى أنها قادرة، كالرجل تماماً، أن تتغلب على خوفها أداء لواجبها، حين يفهم الرجل الدور الخطير الذي يمكن أن تنهض به، ويكف عن النظر إليها كتحفة يخشى أن تنكسر، وقاصرة تتوجب حراستها وحمايتها، وحين يشركها في أداء الواجب المقدس، ويضع مسؤولية الوطن أمانة في يديها كما هي أمانة في يديه.‏

لقد عرف تاريخ الحروب نساء بطلات كما عرف رجالاً أبطالاً. ولعل قصة الفتاة زوايا، الفلاحة السوفييتية التي أعدمها النازيون، واحدة من القصص التي نحتت للمرأة المقاومة تمثالاً من أندر المعادن وأنبلها.‏

نحتت؟ قل سجلت واقعاً ولم تبتكر خيالاً. فزويا فتاة حقيقية، اشتركت في المقاومة، وقامت بنسف مستودعات الذخيرة للألمان، ثم قبض عليها وعذبت طوال أيام لتعترف بأسماء رفاقها فرفضت، وحكمت بالموت وأعدمت شنقاً، ولم تبح باسم من أسمائهم.‏

كان النازيون يسألونها فتجيب "لا أعرف، لن أقول" ويهوي السوط على جسمها الغض، وتتبعه سياط كالأفاعي تحت أشعة شمس ثلجية مشرقة، ويحصي الضابط المشرف على التعذيب العدد: مئة، مئتان، ويأمر بإعادة الكرة، ويسألونها فتجيبهم "لا"، لن أقول" وفي صوتها ترن الكبرياء رنين الغضة على الرخام.‏

لكن صوتها راح يختنق، وعندئذ توقفت عن الكلام. لاذت بالصمت فكان صمتها مدوياً مثل كلماتها. "لا، لن أقول" ولم تقل.. عجزوا عن انتزاع اعتراف منها، فأخرجوها من غرفة التعذيب حاسرة الرأس، عارية الجسد، شفتاها متورمتان، والدماء تسيل منهما لشدة ما عضت عليهما، ويداها مقيدتان وراء ظهرها، وحارس يضع حربته في جنبها. ثم تحلق جنود غلاظ حولها، وأشعلوا الكبريت تحت ذقنها، وخدش واحد منهم صدرها بسكين فسال الدم غزيراً منه، ثم جروها على الثلج إلى المشنقة، جروها على الثلج، وسارت معهم على الثلج حافية لأنهم لم يسمحوا لها أن ترتدي جزمتها، وشنقوها، وكتبوا على صدرها كلمة واحدة: نصيرة!‏

لقد كانت تضحية هذه الفتاة البطلة مصدر إلهام لكثير من القصائد والقصص، وهي مشهورة في أدب الحرب السوفييتي، وعندما بلغت حادثتها ناظم حكمت وهو في السجن، عثر على المادة التي كان ينتظرها للمرأة التي لا تناضل بزوجها وأبيها وأخيها وابنها فقط، بل تناضل بنفسها أيضاً، تناضل لتسد تلك الثغرة في جدار مجتمع يقاوم بكل فرد فيه، فإذا تخلفت المرأة تخلف نصف المجتمع، وعجزت المقاومة أن تحقق غرضها على الوجه الأكمل. ومن هذه المادة صاغ قصيدته الرائعة "زويا" التي نشرت وترجمت وذاعت كثيراً في حينها.‏

غير أن شعر ناظم في المرأة يتجلى رحيباً كالمحيط، سامياً كالمثل الأعلى، عندما يتناول زوجه منور، هذه التي كما يقول التقاها يوماً على ضفاف البوسفور، "فكانت قوية كالحديد، ناعمة كالحرير، وكانت جميلة، وستبقى جميلة حتى حين تصبح جدة، ستظل كضوء القمر، ضوء النهار، وسمرة الخوخة قبيل نضجها، بل أجمل ما تكون المرأة في دنيانا.‏

كان يكتب إليها الرسائل، وينظم قصائد على لسانها موجهة إليه، ويقوم بنظم قصائد جوابية إليها، متسائلاً أبداً: ماذا تعمل الآن؟ بماذا تفكر؟ ولماذا قدر هكذا لأناس عديدين أن يكونوا بؤساء إلى هذا الحد؟ أنا يا منور أفكر بك، ما أسعد أن أفكر بك يا حبيبتي، أن أفكر بك عبر ضوضاء الموت والظفر، أن أفكر بك وأنا في السجن، وبعدما تجاوزت الأربعين! أن أكتب إليك، وأن أتأملك جالسة، في غرفة سجني، وأن أفكر بالكلمة التي قلتها في اليوم الفلاني، والموضوع الفلاني، ليس بالكلمة ذاتها، وإنما بطريقتها في احتواء عالم بكامله.‏

ما أسعد أن أفكر بك. سأصنع لك علبة صغيرة وخاتماً، وأحيك ثلاثة أمتار من الحرير، وفجأة، أندفع واقفاً، لألقي بنفسي على قضبان نافذتي، وأصرخ في سماء الحرية الزرقاء، بكل ما كتبته لأجلك".‏

إن المرأة عند ناظم حكمت لم تكن متوازية مع خط القضية كما يقول الذين درسوه. كانت أساس القضية، لها ومعها كل الكلمات، وعلى طريق الكفاح الصعب، في الواقع والخيال، كانت رفيقته: "نحن الاثنين نعلم يا حبيبتي، فقد علمونا كيف نجوع ونبرد، ونقضي من التعب، وكيف نعيش منفصلين ومتصلين معاً. إننا لم نبلغ حد القتل. لم يتهيأ لنا أن نموت، ولكننا نعلم، كلانا يا حبيبتي يعلم، ونستطيع أن نعلم الآخرين، النضال في سبيل قومنا، ومحبة كل يوم أقوى، ومحبة كل يوم أفضل".‏

ويقول لها وهو وراء قضبان الزنزانة: الباب مغلق هناك، فيتحتم اقتحامه، إذ تتحتم رؤيتك يا حبيبتي. لتكن الحياة مثلك جميلة، ولتكن الحياة صديقة وحبيبة مثلك.‏

ويضيف: في أيام الخريف هذه –أنا مفعم بكلماتك- الكلمات الخالدة خلود الزمن والمادة –الكلمات المشعشعة كالنجوم- لقد بلغتني يا منور كلماتك- كلماتك المحملة بك- كلماتك يا أمي، كلماتك يا صديقتي- وقد كانت حزينة ومريرة- وشجاعة وبطلة- كانت كلماتك رجالاً".‏

وكانت منور تزوره في سجنه، وخاصة خلال التوقيف. كذلك كانت تزوره أمه، وكانتا تكتبان إليه الرسائل. ويقول أكمل الدين حسين: "كانت رسائل زوجه إليه تشف عن نفس عزيزة تدرك أنها زوج شاعر عظيم، وكانت تزوره في السجن، مرة بعد مرة في العام، فيكوي ملابسه من المساء، ويدهن حذاءه، ثم ينزل إلى الحلاق من الصباح الباكر.. فإذا جاءت في اليوم التالي، تقابلا في غرفة مدير السجن أو الفناء. وكان ناظم يحب منور حباً لا عهد لزوج بمثله، ويحترمها غاية الاحترام. وكان يراسلها من سجنه، وتعد رسائله إليها من أجمل وأرق الرسائل في الأدب التركي، وهي نثر تتخلله بعض المقاطع الشعرية، وقد كتبها ناظم بروح متفائلة مقبلة على الحياة، عاشقة لها.‏

كذلك كان يراسل أمه جليلة التي كانت تزوره أحياناً، وهي امرأة وقور فنانة، كانت تجلس ناظم أمامها ساعات طويلة في فناء السجن لترسمه، وبينما يتململ ناظم في جلسته معترضاً على مذهبها في الرسم قائلاً: "أماه! ليس التصوير مجرد محاكاة للجمال، ولكنه إضافة الفنان شيئاً إلى الطبيعة". وكان يثور جدل شديد حول مفهوم الفن بينهما، ينهض ناظم ليجيء بلوحة ويريها لأمه، ويستمر النقاش إلى أن ينشد ناظم أمه آخر أشعاره، فيسكن كل من حضر، وتنصت أمه إليه صامتة في كبرياء، والدمع يترقرق في مآقيها".‏

غير أن موقف ناظم هذا من زوجه، وما ينطوي عليه من حب واحترام, لم يكن موقف عاطفة مجردة، قوامها علاقة الرجل بالمرأة. كان موقف إنسان تجاه إنسانة، هذا الذي، في المعيار الحضاري، هو الحكم الصحيح على درجة الأنسنة لدى الرجل. وقد عرف كيف يوحد حبه لزوجه بحبه لوطنه، بحبه لرفاقه، بل إن هذا الحب الزوجي كان عنصراً في الحب الرفاقي، كالجزء الذي يكون عنصراً في الكل. وفي قصيدته "المرأة والبنفسج والرفاق"، يضع نفسه موضع رجل يريد أن يشتري لزوجه باقة من البنفسج، لكن رفاقه كانوا جياعاً، فآثر أن يطعمهم بثمنه.‏

يقول أراغون في إحدى قصائده إلى إلزا:‏

"ما من حب يخلو من الألم- سواء حبك أم حب الوطن- وذات يوم يا إلزا- ستكون أشعاري تاجك- وستبقى من بعدي كي تحمليها تاجاً".‏

وقد بقيت قصائد ناظم حكمت تاجاً على رأس منور الزوجة لكنها، قبل ذلك، ظلت تاجاً على رأس منور المرأة، لأن هذا التكريم كله ينصرف إليها أساساً.‏

وفي عام المرأة هذا، يصبح هذا التاج الذي وضع على رأس أيما امرأة في أيما بلد، هو تاج المرأة في كل البلدان، لأنه اعتراف بما قدمت من خدمات في الحمل والولادة وتنشئة الأطفال ورعاية الأسرة، وبما كانته هي نفسها من نبع إلهام في الفن، وطاقة كفاح في الواقع، ومشاركة في الحروب والثورات، وعمل متواصل على تغيير العالم ليكون عالماً أفضل، تنتفي منه عبوديتها، ويفسح لها في مجال البناء لخير الجميع.‏

1-محاضرة ألقيت في حلب ودمشق.‏




#.نجاح_العطار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
- فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف ...
- تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
- دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة ...
- Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق ...
- الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف ...
- نقط تحت الصفر
- غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
- يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
- انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - .نجاح العطار - المرأة في شعر ناظم حكمت