حسام مطلق
الحوار المتمدن-العدد: 2673 - 2009 / 6 / 10 - 10:05
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
العالمين فرانكس وبريينسفوود في شرحهما لطريقة تشكل الذاكرة الفردية, والتي منها تتشكل الذاكرة الجمعية, يستخدمان مصطلح " Roll Modle ". هما يقولان أن الدماغ الإنساني, وبطريقة غير واعية, ينتقي نموذجا عاطفيا يقيس عليه الإشارات المستقبلة بالحواس المختلفة, وعبر ذاك القياس يتم تخزين المعلومة, ومن خلال تلك العلاقة العاطفية يتم لاحقا استحضارها لتكون قرينة في المحاكمات العقلية اللاحقة.
عالم النفس الأميركي " انطوني روبنسون " استخدم هذه التقنية حين أوكلت إليه وزارة الدفاع الأميركية مهمة تحسين نتائج القناصة الأمير كيين اللذين تدنت نتائجهم التدريبية, رغم أن الفحوصات أكدت سلامة الجنود والمعدات. لقد لاحظ روبنسون أن المعيار القيمي للجندي الأميركي القناص لعب دورا سلبيا في تأديته لعمله. أي لاوعيه الذي اتخذ نموذجا خطئا دفع الوعي إلى عدم النجاح, أو هو مارس عقابا عبر فعل المنع من النجاح. طبعا كان لكل حالة خصوصيتها, ولكن المشكلة برمتها تبين أنها نفسية, ومن هنا كان التدخل عبر تحريك الرول موديل, أو النموذج العاطفي الذي ترسخ في مساحة اللاوعي ليعلب دور الغربال الذي يسمح بمرور وعدم مرور الخيارات. الأنظمة الثورية بسحبها البساط من تحت الطبقات الأرستقراطية والمثقفين وتهميشها لهم وتحويلها السلطة بأشكالها, والسلطة تمارس بأوجه متعددة أعلاها هو الوجه السياسي ولكنها على أرض الواقع جميعها تتبادل التأثير فيما بينها, هي بسحبها البساط تركت للمواطن العربي البسيط نموذجا واحدا كي يزرعه في لاوعيه, هو نموذج ضابط المخابرات السادي المتحلل من كل أشكال الانضباط الأخلاقي والقانوني.
خلال محاولته تروج نفسه قدم السيد صدام حسين فلما سينمائيا عالي الجودة, من حيث التقنيات, تطرق إلى سيرة حياته, طبعا كما أراد هو للناس أن تراها. الفلم استشهد به لأن إعداده كان بمتابعة شخصية من السيد صدام حسين وكبار رجالاته في الإعلام, وهو نفذ خلال الحرب العراقية الإيرانية. الفلم يحتوي على مشهد بالغ الدلالة, فحين تطارد الشرطة منفذي محاولة اغتيال الرئيس العراقي الراحل السيد عبد الكريم قاسم تصل إلى بيت كان قد أوى أحد الجرحى من منفذي الاغتيال, ووفقا للأحداث, فقد نسي أهل البيت إتلاف القطن والشاش المستخدم في تضميد جرحه. الشرطة تضع يدها على الكيس, ولكن قبل أن يبحث الشرطي في داخله تنبري سيدة من البيت وتصيح زاجرة في الشرطي " شنو أنتو ما بي عندكم نسوان " تريد أن المواد التي يحتويها الكيس هي نسائية وتاليا أي دماء قد توجد هي من تلك الطبيعة, الشرطي يرتبك ويتراجع ويغادر الجميع البيت خجلين. سكان البيت يتبادلون نظرات الانتصار الـ " متذاكي " وهي نظرات تعبر عن موقف السيد صدام حسين ورجالاته. طبعا حتى العهد القاسمي كانت الأخلاق الأرستقراطية ما تزال سيدة الموقف في المجتمع العراقي. من سوف يجد في كلمة
" ارستقراطية " بعض الغربة فاسمحوا لي أن استبدلها بمصطلح " الأخلاق العمرية " مدللا على صحة الاستخدام عبر تطابق المعنى بين مشهد الفلم العراقي وبين القصة التي سمعناها جميعا عن عمر بن الخطاب وهو يعتذر للسكارى لأنه دخل البيوت من غير أبوابها. المشكلة ببساطة أيها السادة هي التذاكي الثوري الذي هتك كل عرى المجتمع, فلم يعد للبيوت حرمات, ولا للحريات الشخصية, وصار كل شيء مباح للمخابرات, وصار من يلتزم بمبادئ, أيا تكن تلك المبادئ, هو متحدي للثورة, هو احتمال رول موديل يجب القضاء عليه. هذا التذاكي ليس فقط خروج عن العرف الإنساني بل خيانة لتاريخنا الإسلامي والعربي معا.
أريك فروم يعرف الرجل السادي بأنه : شخص يرغب بتقيد الانفعالات العاطفية لكائن أخر, ويقول إن دافعه لذلك إحساس عميق بالدونية, هو يريد أن يحول الإحساس بالعجز إلى انطباع بالقوة العظمى لدى الضحية, إنه يميل إلى إضعاف الاستقلال والكمال والفكر النقدي والإبداعي لدى من يخضعون له. دون أن يعني أن السادي لا يترك لضحيته مجالا للحياة, فغرضه من كل ذلك التقيد والمنع تقليص الشخصية, عبر تشجيع السلبية واللامبالاة. هو يترك للضحية الحرية في ممارسة الانفعالات الفارغة من المعنى الحقيقي للسعادة, لأن سعادة الإنسان قبل كل شيء تتطلب الحرية. لاحظوا أنه حتى المدافعون عن السياسة السورية في المنابر الإعلامية لا يسمح لهم بالتوجه إلى استديوهات المحطات الفضائية, ما لم تكن محطة الجديد أو المنار المواليتين, وتتم المحاورة معه عبر الأقمار الصناعية حيث ضابط المخابرات يقف خلف الكاميرا ممسك بطرف المأخذ الكهربائي كي يقطع الإرسال متى شاء. أي بكلمات أخرى هو يمارس عليه عملية تخثير, فيبقي انفعالاته في حال من الرتابة, يصعب الخروج منها, وتصبح الضحية بلا بصمة خاصة على أي شيء, وهكذا صار الإعلاميون السوريون مملون لا ينتظر من الحوار معهم أي فائدة فكرية ولا انفعال إنساني قد يغري بجديد, وآخر ضحايا هذه الممارسة هو الدكتور شعيبي الذي عيب عليه " ثقافته " فيل إن مصطلحاته لا يفهمها الآخرون. والآخرون هنا هم ضابط المخابرات الذي لا ندري متى كانت آخر مرة أمسك فيها كتابا كيف يفهم ما يقوله الدكتور فوزي الشعيبي؟. وطبعا كل هذا الانتقاص هو محاولة لتقزيم الضحية كي لا تكون ذات حضور اجتماعي فاعل يهدد بفضح مدى الضعف الذي يتصف به النظام الثوري وضباطه الآساوش.
يمكنكم أن تتلمسوا أثار هذه الممارسات السادية على الشكل الحضاري للفن في الأنظمة الثورية, فمن ناظم الغزالي في العهد الملكي والقاسمي إلى أغاني الـحجيات في عهد السيد صدام حسين, ومن صباح فخري وأسمهان وفريد الأطرش وسعاد محمد ونجاة الصغيرة إلى " علي الديك " المتوافق مع الميول الطبيعة لـ " بعثي " الساحل السوري, ولنباهة خاصة في الراحل عبد الناصر تأخر ظهور عدوية كخليفة لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ. إنها قضية الرول موديل. قد يقول قائل إن الأمر برمته مرتبط بتأثيرات أبعد من التفسير الذي أقدمه, لربما النتيجة خاضعة للحتمية التاريخية على الطريقة الماركسية. هنا سوف أعود إلى شرح لينين لتطبيق قانون الرفع, فهو قادم من المدرسة الماركسية. لينين يقول "... إن تحول الشيء إلى غيره الآخر عن طريق الرفع الهيجلي لا يتم لأن الواحد بوضعيته التي انتهى إليها كان الوحيد الممكن كي يصبح غيره الآخر بل هناك عدة احتمالات من عدة إمكانات مختلفة للرفع ولكن تحقق منها واحد فقط...". أي بكلمات أخرى هو يقول, لقد كان هناك احتمالات مختلفة لأن ينتقل العرب من أم كلثوم وناظم الغزالي وصباح فخري إلى بدائل متعددة, أفضل أو قريبة من حيث الجودة, ولكن علينا أن نسأل لما انتهى الغناء العربي إلى " الخاشوقة "و" والواوة "و" البسبسة "؟.
ليس من قبيل الصدفة أبدا أن ينتهي النتاج الحضاري للسيدة فيروز بالتزامن مع استتباب الأمور للقوات السورية في لبنان, ذلك أن الإبداع يتطلب دائما ليس فقط الحرية العادية بل له ضرورة أخرى هي " شطحات " المبدع ومع التقيد التام للمشاعر والانفعالات بالفعل السادي يصبح من المتعذر على الشخص العادي أن ينفعل فكيف بانفعال المبدع ذو الطبيعة المتجاوزة للمألوف. لذا من الطبيعي أن يستعاض عن فيروز بهيفاء وهبي, فهي منسجمة مع الطبيعة القيمية المتدنية لضابط المخابرات الثورية. فكي تنتج فيروز كان لابد وان يجتمع الرحابنة ووديع الصافي ونصري شمس الدين وفليمون وهبي وكبار الشعراء اللبنانيين والسوريين في جلسات صداقة وسمر, ومن يدري أي كلمة يطلقها احد الحضور هي التي قد تفجر صيحة : اريكا أريكا فتولد النتيجة الابداعية. مع نفوذ القوات السورية صار كل اجتماع هو موضوع هاجس امني وصار كل هؤلاء مطالبين بالغناء للرئيس الراحل حافظ الأسد, وهو ما اعتذرت عنه فيروز بلباقة ولكنها في المقابل انسحبت من الحياة الفنية.
قد يعود المناقش للقول: ولكنك تحصر مجمل الناتج الحضاري بالغناء, هذا من جهة, ومن جهة أخرى أنت تتجاهل أن هناك نماذج أخرى في الزمن " الثوري " غير تلك المتطرفة التي استشهدت بها؟. بداية دعوني أعرض لكم ما توصل إليه مجموعة من الباحثين من جامعة تنبل الأميركية بإشراف الباحث جوك برادت في معهد ابحاث الحياة عبر 23 دراسة ميدانية واستقصائية إحداها فقط شمل 1461 مريضا وخلصت الى دور الموسيقي في معالجة أمراض الاوعية القلبية بما تحققه من هدوء وما تساعد عليه من استقرار نفسي. إذن أنا لا أستشهد بالموسيقي لأسباب هيجلية ورأيه القائل في العلاقة بين الحضارة والفن, بل هناك اسانيد علمية فيكفي ان نعرف ان دمشق, كعاصمة عربية, مستو الضجيج فيها هو 15 ضعف ما يحدث في عواصم الاتحاد الأوربي, ويكفي ان نأخذ دور الموسيقي ونوعيتها في دفع الجملة العصبية, طبعا مع عوامل اخرى كثيرة, الى كل ذاك التوتر الذي نراه في الشوارع والذي ينعكس على مستوى الأداء, حتى صار ناتج العربي اليومي شيء من قبيل ساعتين في اليوم في مقابل ست ساعات ونصف للبريطاني وثمان للألماني و حدث ولا حرج للياباني, ثم نقول من اين الفقر ومن اين البطالة وسوء الاقتصاد. من ناحية اخرى الغناء هو الأكثر شيوعا, ورموزه يعرف بها القاصي والداني في الشارع العربي, كما أن كل الأسماء التي استشهدت بها من الزمن الارستقراطي كانت مدارس خاصة, وللتذكير فقط, فإن موسيقى فريد الأطرش أودعها المجمع العالمي للموسيقى في فينا كموسيقى إنسانية, أي هو صنفها راقية, و إنسانية الصفة, كما موزارت وبيتهوفن, وفي المقابل فيمكنكم أن تنتقوا أي مثل تريدون وقوموا بالتجربة التالية وسوف تحصلون على النتيجة التي خلصت إليها: انقل عزيزي القارئ أي جملة, سواء أكانت موسيقية أو شعرية, من أي أغنية لأي أغنية أخرى من نفس الـ "رتم" ولاحظ إن كان سوف يحدث معك أي تضارب حاد يعبر عن انسجام الأصل مع ذاته. كذلك قم باقتطاع أي لقطة من أي فيدو كليب وأنقله إلى أي كليب أخر بشرط ألا يحتوي على صورة المغني أو المغنية ولاحظ إن كنت سوف تحصل على تناقض. باستثناء كاظم الساهر, وهو الفار من "عراق" السيد صدام حسين فما من مدرسة حقيقة في الغناء العربي اليوم. ومع هذا, وتماما للموضوعية, سوف أنتقل بكم إلى الشعر. نزار قباني, وهو أعظم شاعر عربي مجدد في التاريخ العربي كله وليس في هذا العصر فقط, وأدونيس وهو أعظم شاعر فلسفي في التاريخ العربي المعاصر وقد رشح لجائزة نوبل للآداب مرتين, كلاهما سوري, وكلاهما عاش منفيا عن وطنه. والمدقق للواقع الحضاري في سوريا سوف يرى الإبداع محدود, فما من ذكر سوى للفن التشكيلي الغارق في رمزية تبعد قدرة ضابط المخابرات على التأويل السادي, أو أعمال تلفزيونية درامية هي إسقاطات تسويقية للنظام أو أخرى غارقة في التفاصيل, كباب الحارة, الفارغ من أي مضمون قيمي أو علمي أو تأريخي, تماما المنمنمات الإسلامية, جميلة ولكن بلا مضمون. وأن أردتم الانتقال إلى العلم فإن اسرائيل سجلت 66 ضعف ما سجلت سوريا, من براءات فكرية وفقا لتقرير المنظمة الدولية المختصة. وإن أردنا أن نتحدث بلغة الاقتصاد فإن الصين هي المورد العربي الأكبر للأسواق العربية وفقا لتقرير مركز دبي المالي ونسبة العدد الصناعية الواردة منها هي 33.9% في حين مجمل الوارد السوري هو 2.7% مع ان التعداد السكاني لسوريا هو قرابة 7% من سكان الوطن العربي ولن ننسى أن الكثير من الشركات الخليجية تعتمد الآلات الأميركية والأوربية وهو ما يعني ان الواقع الاقتصادي المتدني في سوريا يجب ان يدفع نحو رفع حصة سوريا من الواردات الصناعة من الصين غانيك عن ان هناك مجتمعات عربية اساسا تعيش حال اقتتال داخلي لذا هي في غير وارد تنمية الصناعة, كالعراق والسودان والصومال والجزائر, أي الكارثة اكبر واكبر. يمكننا أن نتلمس نتائج ذلك على عدد السوريين المهاجرين من الوطن من حملة الشهادات العليا, وتحديدا الماجستير والدكتوراه, هم في الاتحاد الأوربي فقط 22 الف تقريبا وفقا لتقرير منظمة الهجرة المتوسطية, وهؤلاء من حملة الاقامات النظامية, اما المهاجرين غير الشرعيين فقصة اخرى. لذا, وبحسبة العرب, وبمجرد ان نجول بحثا عنهم في استراليا والولايات المتحدة وكندا وحيث الجاليات السورية الكبرى في الارجنتين والبرازيل وفينزويلا والخليج العربي سوف نكون أمام رقم مرعب, إن لم يكن هذا دليل على الفشل الحضاري فعن أي دليل يفترض أن نبحث؟. هذا الفشل كله يحدث رغم ما يفترض ببلد حمل اختلاطا نادرا للجينات بحكم من مر على ترابه من شعوب كالفينيقيين والسريان والكلدان والإغريق والرومان والفرس والعرب و الأكراد و الأرمن والشركس والشيشانين والأتراك والفرنجة والأوربيين المعاصرين, وما يفترضه هكذا اختلاط جيني نادر في التاريخ الإنساني من تفوق فردي وشطحات نادرة. إنهم بتقيدهم للانفعالات الفردية أدخلوا المجتمع في حالة من النمطية فتقدم العالم وظلت سوريا متخلفة عن الركب في كل شيء. يقولون أنهم يحاربون إسرائيل!, حسنا, من حقي أن أسأل: بماذا؟. بالتخلف الذي يلف البلد, أم بتعطيلهم لقدرة المجتمع على الإنتاج والتفوق؟.
في الحلقة القادمة أناقش العنصر السيكولوجي خلف إتباع النظرية الأمينة إياها
#حسام_مطلق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟