|
دون كيخوت العربي
سعيد الجعفر
الحوار المتمدن-العدد: 2665 - 2009 / 6 / 2 - 08:15
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بقلم: بيارنة ستينكفست(1) ترجمة: سعيد الجعفر
يقال أن الإرث الثقافي الأوربي يستند الى الإرث اليوناني القديم واليهودي والمسيحي. لكن الثقافة الإسلامية تملك دوراً حاسماً بالمستوى ذاته في أسبانيا العصور الوسطى. لماذا تم تحجيم ذكرى الأندلس؟ يتساءل بيارنه ستينكفست. لقد طرح دوماً أن الإسلام على عكس المسيحية لم يمر بنوع من الإصلاح. لكن هذا الرأي ينسى الدور المركزي للإسلام في تكوين عصري النهضة والتنوير،بل تكوين أوربا الحديثة برمتها. ولقد لعبت ،وبشكل رئيس، الأندلس أو إسبانيا الإسلامية الدور الرائد في تمهيد الطريق لأوربا. ظهرت الأندلس بين أعوام 711 الى 1492 من خلال الخلافة في قرطبة، التي استقلت عن بغداد ،وكانت تلك المرحلة القصوى في تطورها. ومن خلال مدن مثل طليطلة وغر ناطة وأشبيلية وصلت الترجمات والتعليقات العربية على الفلاسفة الإغريق والتي أعادت ربط أوربا بالإرث الهيليني. فقد ساهم الفيلسوف المولود في قرطبة إبن رشد وأقرانه وبشكل عالٍ في رفد التأكيد المعاصر في كون العقل يأتي قبل الوحي. وقد كانت تعليقاته على أرسطو- والتي سبقت ديكارت بأربعة قرون- واحدة من الدعائم الأساس التي استند عليها التعليم في جامعة باريس. كذلك فمن خلال إسبانيا الإسلامية تدفقت وتطورت الإنجازات العلمية في الرياضيات والفلك وعلم التعدين وعلم المكتبات وتخطيط المدن ، حيث كانت ثقافتها تتميز بالتسامح والتعطش للمعرفة وفيها عاش المسلمون والمسيحيون واليهود في وئام يعتبر استثنائيا في ذلك الزمن. لقد شكلت الأندلس عالماً كانت فيه اللغة العربية هي الأداة المشتركة للتعبيرالثقافي، وحيث جرى احتضان الطرز الجديدة من الموسيقى واللباس، وحيث إزدهر شعر الحب اليهودي ، وجرى انتقاء ألوان الخضروات بعناية حين كان يجري تحضير الأكلات، وحيث كان الناس يغتسلون في الحمامات الكثيرة. دامت هذه الحقبة المصيرية والمتميزة بالنسبة لتأريخ كل من أوربا والإسلام ، لأكثر من ثلاثة أضعاف التأريخ المعروف للولايات المتحدة. ومع ذلك جرى تحجيمها في كل العالمين الشرقي والغربي. وبرغم ذلك فقد صدرت في الفترة الأخيرة العديد من الكتب والتقارير حول الأندلس. وتلقي تلك الكتب والتقارير ضوءاً جديداً على العلاقة المرتبكة بشكل غير طبيعي للغرب بالإسلام. لكنها تضخ طاقة في النقاش الحداثي المتصاعد في العالم الإسلامي. بيد أنني سأتحدث ببضعة كلمات عن كيف أن ذكرى الأندلس إبتعدت عن السطح. بعد طرد اليهود والمسلمين الأسبان إبتداءاً من عام 1492 فصاعداً. فقد كان واجب محاكم التفتيش هو نسف كل مايمت للتنوع الديني والثقافي بصلة. فقد تأخر الأعتراف الرسمي بكون العاصمة الأسبانية قد أسست من قبل المسلمين وأن اسمها مأخوذ من الكلمة العربية مجريط (2) حتى الخمسينيات. وبنفس القسوة مسح من الذاكرة كون اليهود كانوا يتبوؤن في تلك الحقبة مناصب رفيعة ضمن الحشد الهائل من التنظيمات الحكومية الإسلامية والمسيحية التي تشكلت منها شبه الجزيرة الإيبيرية في النصف الأول من الألفية السابقة. ولهذه الذكريات الممنوعة يلمح سرفانتس في الفصل التاسع من روايته الشهيرة. صدر الجزء الأول من الكتاب عام 1605، مباشرة قبل الفترة التي جرى فيها طرد المورسكيين، وهم المسلمون الذين اعتنقوا المسيحية. ويقول هو في الجزء المذكور أن قصة فارس لامانش كتبت أصلاً من قبل مؤرخ عربي وأن سرفانتس التقاه في طليطلة حين كان يتجول في الحي اليهودي القديم من المدينة، والذي هجره سكنته الأصليون منذ أمد طويل. فتىً ما حاول أن يخدع أحد البزازين بإن يبيعه كتاباً قديماً مكتوب باللغة العربية. وفي مدينة المكتبات طليطلة، التي كانت حتى القرن الرابع عشر(تحت حماية الملوك المسيحيين) مركزاً لترجمة النصوص من العربية الى اللغتين اللاتينية والعبرية، كان يجري بيع تلك الكتب كالخرق البالية. و لكي يقرأ القصة أجبر على البحث عن شخص ما يعرف القراءة باللغة العربية ، " الأمر الذي لم يكن صعباً في مدينة طليطلة، "حيث تمكنت حتى من أن أجد شخصاً يتقن العربية الأقدم والأكثر رونقاً". وكانت الأندلس بالنسبة لليهودية الأوربية الصاعدة في القرن التاسع عشرا رمزاً. ويبدو هذا واضحاً من بين الكثير من الأشياء حين يلاحظ المرء الكنس التي جرى بنائها في أوربا والولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن افضل الأمثلة على ذلك الكنيس المركزي في ليكسنجتون أفنيو في نيويورك، الذي استعار الكثير من اللمحات الأسلوبية وبشكل ملفت للنظر من المسجد الكبير في قرطبة. ولكن حتى في العالم الإسلامي فإن هذا العصر الذهبي للإسلام يعيش بإلكاد كونه نوع من الحنين الى جنائن قرطبة المفقودة. وأحد الأسباب هو أن إسبانيا الإسلامية جرى إرسائها وتشييد صروحها خلال قرون عديدة من قبل الأمويين، ذلك الفرع من ورثة الخلافة الإسلامية ذوي المسحة العلمانية والذين حكم العالم الإسلامي بين أعوام 644 الى 750. فهم الذين جعلوا دمشق الرومانية والبيزنطية عاصمة لهم ومنها انطلقوا ليؤسسوا امبراطورية تشبه في وجوه كثيرة الإمبراطورية الرومانية. ولقد قاموا بفتوحاتهم محترمين وحامين "لأهل الكتاب" ، أي اليهود والمسيحيين، مادام هؤلاء يعرفون لمن تكون السيادة. بيد أن نهاية الإمويين كانت دامية حيث ذبحت العائلة الأموية بكاملها عام 750 في ضيعتهم الموجودة خارج دمشق. وكان الذين جردوا عليهم السيوف هم العباسيين، أحفاد العباس عم النبي. وقد وجه العباسيين وجوههم صوب الشرق وجعلوا بغداد المكان المركزي للعالم الإسلامي خلال عقود عديدة. ومن هناك قاموا ،من بين ماقاموا به، بإنجاز مشروع طويل الأمد لترجمة النصوص الإغريقية الى اللغة العربية. في كتاب" مفخرة العالم "*تتحدث ماريا روزا مينوسال عن القصة المثيرة عن الكيفية التي استطاع بها العضو الوحيد في العائلة الذي نجى من المذبحة الفتى عبد الرحمن أن يصل الى الثغر الموجود في أقصى الغرب في شبه الجزيرة الإيبيرية. ومن خلال ذلك بدأت الأندلس تنمو شيئاً فشيئاً وكأنها حلم أموي ولد من جديد، في تفاعل ولكن أيضاً في تنافس مباشر مع العباسيين في بغداد. لكن حتى الأمويين في الأندلس شهدوا نهايتهم. ففي بداية الالف الأول مزق المحافظون المسلمون من البربر الخلافة في قرطبة ونهبوا المدينة. وبعد هذا بدأ اختلاس تدريجي للأرث الثقافي الأموي. وفي بداية القرن الثاني عشر بدأت حتى الخلافة في بغداد تترنح. وقد قاد ذلك تدريجياً الى الكثير من التزمت الديني والسياسي والى سيادة أكبر للتفسير المحافظ للإسلام استمر حتى يومنا هذا. ويمكن رؤية أسباب عديدة للإهتمام المتصاعد بالأندلس حالياً: فبعد الحادي عشر من أيلول واحتلال العراق تصاعدت الحاجة الى "بداية جديدة" في علاقة الغرب بالعالم الإسلامي. وتميط الأندلس اللثام عن المديونية الثقافية والحضارية الغربية للإسلام. ففي الخريف قام البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة بنشر تقريره الثالث عن " النمو الإنساني العربي". حيث جرى تحضير التقريرين السابقين من قبل أكاديميين عرب قدما صورة محزنة عن الحياة الثقافية في الوطن العربي. فرقم واحد يحكي الكثير: فخلال الألف سنة الأخيرة تم ترجمة 10000 كتاب من اللغات الأخرى الى العربية. وهو يعادل الترجمات من اللغات الأخرى الى الأسبانية كل سنة! ويمكننا القول بلا تردد بأن العالم العربي- دون الحاجة الى الإيغال في قنوط أكثر- بحاجة الى إعادة الإرتباط بالتعطش المعرفي الذي طبع بطابعه الأندلس. ويجري بين صفوف المثقفين المسلمين نقاش تشتد وتشتد حدته حول علاقة الإسلام بالحداثة وما بعد الحداثة. ويقول بعض المفكرين المسلمين التقدميين مثل المفكر الإيراني عبد الكريم سوروش أن تحديث الإسلام يجب أن يقوم على أساس الشك المعرفي-الفلسفي.إن الأزمة التي تعاني منها النظرة الإسلامية التقليدية هي نتيجة لا مفر منها لكون الإسلام أصبح جزءاً من العالم الحديث. إن القلق والأزمة هما جزء من التحديث ولا يوجد طريق رجعة يمكن للإسلام أن يختاره كما يقول سوروش. وفي وضع كهذا يكتسب موقع المثقفين المشابه لما حدث مع الأمويين والى حد ما مع العباسيين وضع ملاءم جديد. وحول ذلك تورد ماريا روزا مونيكال ملاحظة مهمة: لم تفقد الأنلس بسبب التفوق العسكري للقوات المسيحية . السبب الأساس هو أن الانفتاح الأممي الذي طبع الأندلس أفسح تدريجياً في المجال للتيارات المبنية على أساس التفكير القبلي والإسلامي المحافظ. وهذه التيارات تشبه مايجري اليوم دعمه من قبل العائلة المالكة السعودية وآخرين. في المدينة التي أسكنها ، مالمو، يشكل أبناء مهاجرين 52% من السكان ذوي الأعمار دون الثامنة عشرة. والسواد الأعظم من هؤلاء المهاجرين هم من المسلمين ، على الأقل بالمعنى الثقافي. ومع ذلك فإن قطاعات من هذا القسم مهمشة اصلاً الآن وهو مصير يتقاسمونه مع الكثير من أبناء المهاجرين في أوربا. و يبدو لدى الذين يسيرون شؤون المدينة نوع من الخمول والإرتباك في كيفية دفع هؤلاء الفتية الى الى فورة الدراسة والإبداع. وهذا الخمول، الذي يطبع المجتمع السويدي بكامله، سينتعش لو جرى رفع الوعي بالمشتركات الموجودة بين الإسلام وأوربا- وهي في الكثير من أجزائها موفقة- تأريخياً.
هوامش (1) بيارنه ستينكفست كاتب وصحفي سويدي لديه مجموعة من الكتب. (2) مجريط تعني في العربية المكان الذي يجري فيه الماء. ولقب العالم المجريطي بلقبه ذاك لأنه ولد فيها. لكن بعض وجي يعتبرون أن الإسم أقدم من ذلك وأنه مأخوذ من لغات الوندال والقوط الغربيين الذين كانوا في أسبانيا قبل بداية الفتح العربي.
#سعيد_الجعفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحن شعب 1/7 .... كلنا مشاريع للخصب
-
حول قوانين الصراع اللغوي
-
اللغات السامية في العراق..مقاربة لسانية معاصرة
-
سيدة نوبل
-
الرؤية اللغوية للعالم
-
موت الرأسمالية
-
هل اختلطت الأوراق حقاً على المثقف العراقي
-
موتيفات اسلامية لدى ستريندبيرغ
-
الهجمة الثالثة على التحديث
-
الاستشراق الإيتيمولوجي
المزيد.....
-
زيلينسكي: الحرب مع روسيا قد تنتهي في هذا الموعد وأنتظر مقترح
...
-
الإمارات.. بيان من وزارة الداخلية بعد إعلان مكتب نتنياهو فقد
...
-
طهران: نخصب اليورانيوم بنسبة 60% وزدنا السرعة والقدرة
-
موسكو.. اللبنانيون يحيون ذكرى الاستقلال
-
بيان رباعي يرحب بقرار الوكالة الذرية بشأن إيران
-
تصريحات ماكرون تشعل الغضب في هايتي وتضع باريس في موقف محرج
-
هونغ كونغ تحتفل بـ100 يوم على ولادة أول توأم باندا في تاريخه
...
-
حزب -البديل- فرع بافاريا يتبنى قرارًا بترحيل الأجانب من ألما
...
-
هل تسعى إسرائيل لتدمير لبنان؟
-
زيلينسكي يلوم حلفاءه على النقص في عديد جيشه
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|