|
رهان الصراع الأيديولوجي : التوفيق بين الإيمان والعقل والفصل بين المجالين
سمير أمين
الحوار المتمدن-العدد: 2663 - 2009 / 5 / 31 - 09:55
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
من اليسير - نظرياً - القول بأن الله هو المشرّع الوحيد، ولكن تطبيق المبدأ يصبح عسيراً لأن العملية تتطلب التوفيق بين الإيمان والعقل. فالحياة تفرض على المجتمع، وفي كل لحظة، الإبداع من أجل مواجهة تحديات جديدة لم تتصد لها الأجيال السابقة.
ويبدو أن المسيحيين والمسلمين واليهود قد واجهوا التحدي وأوجدوا حلولاً موافقة، فلم يكن رجال الماضي ناقصين عقلانية. كلا، وبالتالي أوجدوا الوسائل التي أتاحت لهم التوفيق بين تحكم العقيدة الدينية - أياً كانت - من جانب، وتوظيف قدرات العقل من الجانب الآخر.
والغريب - الذي أود أن ألفت النظر إليه - هو أن المسلمين والمسيحيين واليهود، خلال القرون الوسطى، قد لجأوا في هذا المضمار الى مصدر مشترك، وهو مصدر غير يهودي وغير إسلامي وغير مسيحي بل... إغريقي! أقصد فلسفة أرسطو. فمن المعروف أن طلائع المفكرين في العوالم الثلاثة - إبن رشد وتوما الأكويني وميمون على سبيل المثال - قد إقترحوا حلولاً متماثلة، مضمونها هو إضفاء النسبية على النصوص والدوغما، حيث طرحوا قراءة غير نصية للنصوص. لذلك قامت مؤسسة الحكم والدين بإدانتهم ومحاربتهم بأعنف الوسائل، وهذا ينطبق بالخصوص على إبن رشد وميمون.
من كسب هذه المعارك؟ لقد أثبت التاريخ أن قوى التقدم فرضت نظرتها في نهاية المطاف في أوربا - لسبب أو لآخر - بينما قوى الرجعية إحتلت المسرح في العالم الإسلامي. ومن بين أهم ممثلي هذه القوى الأخيرة الغزالي - عدو الفلسفة والفلاسفة - الذي يعتبر إلى الآن المرجع الأعلى عند آيات الله إيران وشيوخ الأزهر وعلماء السعودية!
خطت أوربا - إنطلاقاً من عصر النهضة - خطوة إضافية في تقدم الفكر، فخرج مفكروها من إشكالية التوفيق بين الإيمان والعقل، التي تمكنوا من إنجازها خلال القرون الوسطى، ليطرحوا أسئلة جديدة.
فأصبحت مشكلة تعبئة العقل من أجل التحرر تحتل مقدمة المسرح في إهتمامات المفكرين، وثم إعلان إستقلال العقل وفصله عن الإيمان دون أن يعني ذلك إنكار وجود مجال يحكمه الإيمان، بل فقط أن هناك أسئلة غير التوفيق بين الإيمان والعقل، لا تقل أهمية. هي تلك الأسئلة الناتجة عن إحتياجات جديدة مثل : تكريس حرية الفرد، مواجهة مسؤولية المجتمع في سن القوانين التي يراها مفيدة، بعبارة أخرى صنع المستقبل.
هذا هو ما يمثل جوهر مفهوم العلمانية، بمعنى إبعاد المرجعية الدينية - أو أية مرجعية أخرى فوق المجتمع - في النقاش حول ما هو مطلوب مجتمعياً. وقد خطت في هذا السبيل بعض المجتمعات الحديثة خطوات واسعة، وبعضها الأخرى خطوات متواضعة، بحسب جذرية الثورة البرجوازية فيها. فبقدر ما كانت الثورة البرجوازية أكثر جذرية كانت إنجازات العلمانية أقوى وأوضح.
لقد تكيفت المسيحية لهذا التطور ذي البعد العميق، ومن أجل ذلك أخذت في إعادة تفسير معناها ومغزاها ودورها الإجتماعي. فتخلت عن دورها القديم في إدارة المجتمع، لصالح القيام بدور إلهام المؤمنين في جو من الحرية. بيد أن المسيحية لم تخسر من هذا التحول، قتعمق الإيمان لدى المؤمنين الذين تحولوا إلى أفراد مقتنعين بالمعنى الحقيقي للكلمة بدلاً من أن يكونوا أعضاء في مجتمع يفرض عليهم إيماناً طقوسياً.
وهكذا أصبحت المسيحية المعاصرة ديانة متحررة من الدوغما، لدى معظم المؤمنين بها على الأقل، عدا فئات صغيرة من السلفيين الذين رفضوا التكيف - نظرياً على الأقل.
مرة أخرى، ودون العودة إلى إشكالية تفسير التطور التاريخية وبيان القوى المحركة فيه، أود فقط الإشارة بعجل إلى موقفي الشخصي الذي يتلخص في النقطتين الآتيتين :
أولاً، رفض الموقف الثقافوي الذي يرى أن الثقافة - ومنها العقائد الدينية - تمثل الثابت في التاريخ، بل أرى أن العوامل الثقافية هي الأخرى قابلة للتحول والتطور، شأنها العوامل البنيائية الأخرى.
ثانياً، إن المادية التاريخية - وهو المنهج الذي أراه أكثر خصوبة من غيره - لا تفترض الإبتذال الإقتصادي القائل أن الإقتصاد يتطور من تلقاء نفسه بسبب تقدم قوى الإنتاج، وأن العوامل الأخرى، وبالأخص على المستوى الأيديولوجي الذي تنتمي إليه العقائد الدينية، لا تأثير لها أو أنها لا بد أن تتكيف تلقائياً لإحتياجات الإقتصاد.
فلا أقبل هذا التبسيط لفكر ماركس، فأطرح إشكالية التماسك بين مختلف مستويات الواقع الإجتماعي : البنية الإقتصادية والبنية السياسية والبنية الأيديولوجية. بتعبير أخر، أقول إن التماسك أمر ضروري وواقع تاريخي. فالمجتمع - أي مجتمع - متماسك الأطراف، فيما عدا خلال مراحل إنتقالية قصيرة عندما يعاني من أزمة تفكك. ولكن لكل مستوى منطق خاص به، الأمر الذي قد يؤدي إلى المنافسة بينها في تحديد الهيمنة الإجمالية.
فما هو المستوى الذي يتكيف لإحتياجات إنجاز التمسك العام؟ الإجابة يمكن تصورها في تكيف إيجابي يعمل في إتجاه إستعجال التطور، وتكيف سلبي عندما يقف البناء الأيديولوجي للمجتمع عقبة في سبيل إستمرار التطور.
لقد قامت أيديولوجيا اليهودية والإسلام على مبدأ أن الله هو السلطان الحقيقي الذي لا بد أن يحكم المجتمع. وليست الحاكمية التي يلجأ إليها الأصوليون المعاصرون سوى تكريس لهذا المبدأ بأسلوب متطرف، وإستنتاج كل ما يمكن إستنتاجه منه. كما رأينا أن النصوص التي تعتمد عليها اليهودية والإسلام تتناول مجالات الشريعة بالتفصيل، الأمر الذي دعا إلى قراءة حرفية للنصوص بل إلى التحفظ إزاء ترجمتها من لغتها الأصلية العبرية والعربية. وليس في المسيحية ما يقابل تلمود اليهود وشريعة وفقه المسلمين.
لا شك أن تعقيد الحالة اليهودية والإسلامية قد وضعت حدوداً ضيقة على الفكر الذي يسعى إلى التوفيق بين الإيمان والعقل، الأمر الذي لعب دوره في إفشال مشروع إبن رشد (المسلم) وميمون (اليهودي) في تجاوز حرفية النصوص. وهكذا إنتصر الغزالي عند المسلمين ويهودا هاليوى عند اليهود، اللذان كرسا تغليب الإيمان على العقل. وكانت هزيمة إبن رشد وميمون بمثابة طي صفحة الفلسفة غند المسلمين ويهود الشتات في دار الإسلام.
ثم جاء الإنحطاط الحضاري الذي رافقته المبالغة في الجانب الطقوسي والشكلي للممارسات الدينية. ولم تعوض حركات الصوفية عند المسلمين والقبلانية عند يهود الشتات العربي، وهي حركات إستوردت ممارساتها وأفكارها من التراث الهندي بالأساس، لم تعوض جمود الفكر الديني الذي رافق إنحطاط المجتمع.
يبدو أن المسيحية قد إتسمت بدرجة أعلى من المرونة، الأمر الذي أتاح فرصة الخروج من إطار الإشكالية القديمة المتمثلة في التوفيق بين الإيمان والعقل، لأن المسيحية لم توطن مملكة الله على الأرض، وذلك إستناداً إلى قول المسيح : (( مملكتي ليست من هذا العالم )).
معنى الرسالة هذه واضح تماماً. كأن الله أراد أن يكرس فكرة أن مصير البشرية على الأرض في أيديها، وأنه هو -الله- لن يستبدل تدخلاته بإختيارات البشر الحرة. إن هذا الفهم لرسالة المسيح قد خلق فعلاً جواً ملائماً ساعد على تبلور الفكرة التي فتحت باب المعاصرة، ألا وهي أن (( الناس صناع تاريخهم )). وأقل يمكن قوله، بهذا الصدد، هو أن هذا التأويل للميتافيزيقيا المسيحية يسّر فعلاً إنتصار الأفكار التي مهدت للمعاصرة عندما تكونت ظروف إجتماعية موضوعية عملت في إتجاهها. فالمعاصرة لم تبد بالضرورة معادية لجوهر العقيدة.
إن هذه الخصوصية المسيحية منعت تقديم حل جاهز في صورة قانون ديني وصفي، الأمر الذي يسّر عملية تبني القانون الوضعي. وربما هذه الخصوصية تقدم تفسيراً لمفارقة عجيبة ألا وهي أن مقاومة الكنيسة لفكر التنوير، رغم قوة تنظيمها، كانت مقاومة وقتية سرعان ما ضعفت وتلاشت، بينما الإتجاه السلفي في اليهودية والإسلام إنتصر في مقاومة فكر التنوير هذا، بالرغم من غياب نظام كنائسي عند المسلمين. كذلك عند اليهود منذ تحطيم معبد أورشليم وإلغاء المحكمة العليا.
على أن يهود الشتات الأوربي قد إستفادوا بدورهم من العلاقة الجديدة بين المجتمع والمسيحية في هذه القارة. هكذا سعى الحاخام موسى مندلس، في القرن 18، إلى ثورة ثقافية يهودية على نمط الثورة التي حصلت في الديانة المسيحية. فنادى بقراءة التوراة قراءة حرة، معتبراً النص مصدر إلهام أخلاقي لا غير. كما وقف الحاخام إلى جانب مفكري التنوير ورحب بفكرة العلمانية.
وهنا أود أن أشير إلى كتاب ذي أهمية حاسمة في الموضوع، ألا وهو كتاب (( اليهود تحت وطأة ثلاثة آلاف سنة )) لإسرائيل شاحاك. هذا المؤلف اليهودي يرى أن يهود الشتات الأوربي كانوا قد تحرروا من خطر الفهم الثيوقراطي للعلاقة بين الدين والدولة، بفضل وجودهم في مجتمعات علمانية تحررت من هذا الخطر. لكن أيديولوجيا الصهيونية أعادت سيادة التأويل السلفي الذي ينتقده مؤلف الكتاب، حيث يخشى أن يكون عقبة أمام المسيرة الديمقراطية في المجتمع الإسرائيلي المعاصر. فالجدل لا يزال غير محسوماً - حتى الآن - بين المتدينين والعلمانيين حول هوية دولة إسرائيل : هل هي دينية أم علمانية؟
وهذه الإشارة تنقلنا إلى الملاحظة الأخيرة ألا وهي أن الثقافة الجديدة، التي نشأت مع الحداثة، أقيمت على أساس القطيعة مع التراث الميتافيزيقي للعصور الوسطى، قطيعة تجلت في طرح أسئلة جديدة لم تعرفها الثقافة القديمة في العوالم المسيحية والإسلامية وغيرها. لكن المسيحية إستطاعت أن تتكيف لمقتضيات هذه القطيعة، وأنجزت ذلك بالفعل، بحيث أن مفكري الحداثة أصبحوا لا يعرفون أنفسهم على أساس الهوية الدينية، بل طابعهم الأساسي هو كونهم بورجوازيين أو إشتراكيين، سواء كانوا متدينين أم ملحدين. والحال أن هؤلاء إما أن يكتفوا بالحداثة التي أنشأتها الرأسمالية ويرونها نهاية التاريخ، أو يسعوا إلى تجاوز حدودها فيرون أن العالمية الرأسمالية المبتورة لا تمثل سوى مرحلة تاريخية، لا غير.
* فصل من كتاب " مناخ العصر، رؤية نقدية ". إصدار مشترك لمؤسسة الإنتشار العربي ودار سينا للنشر.
#سمير_أمين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انا ماركسي ، اشتراكي ، شيوعي ، أممي
-
الانهيار المالي، أزمة نظام؟
-
هزيمة مشروع الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما على الخط الأ
...
-
الفجوة بين الفقراء والأغنياء
-
العولمة وقضية مستقبل مجتمعات الفلاحين
-
الأسباب الموضوعية لفشل الثورات الإشتراكية الأولى
-
الإسلام السياسي في خدمة الإمبريالية
-
الإسلام السياسي
-
هل تمثل آسيا الصاعدة تحديا للنظام الإمبريالي؟
-
حول مفهوم القومية
-
في إطار الرؤية التاريخية للتوسع الرأسمالي ألامبريالية الامري
...
-
تبدأ بالعنف وتنتهي بالهيمنة الأمريكية د. سمير أمين يحدد 3 مل
...
المزيد.....
-
بدولار واحد فقط.. قرية إيطالية تُغري الأمريكيين المستائين من
...
-
عوامل مغرية شجعت هؤلاء الأمريكيين على الانتقال إلى أوروبا بش
...
-
فُقد بالإمارات.. إسرائيل تعلن العثور على جثة المواطن الإسرائ
...
-
واتسآب يطلق خاصية تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل إسرائيلي في الإمارا
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام المختفي في الإمارات
-
هكذا يحوّل الاحتلال القدس إلى بيئة طاردة للفلسطينيين
-
هآرتس: كاهانا مسيحهم ونتنياهو حماره
-
-مخدرات-.. تفاصيل جديدة بشأن مهاجم السفارة الإسرائيلية في ال
...
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|