|
الانتهازي الخطير .. قصة قصيرة
أحمد الجنديل
الحوار المتمدن-العدد: 2663 - 2009 / 5 / 31 - 01:55
المحور:
الادب والفن
رنّ جرس التلفون في الصباح الباكر بصوت لجوج ، أسرعتُ إليه ، كان على الطرف الآخر صديقتي بشرى تنقلُ لي إعجابها بلباقة زوجي عبد الرحمن ، وحسن أدائه في مناظرة تلفزيونية . كان الصوت الذي أسمعه من صديقتي مفعما بالحماسة : ـــ كنتُ مبهورة بوطنيته ، ودفاعه عن القيم النبيلة . لم تعطني فرصة ، لأقدم لها شكري على ما تقول ، بل واصلت حديثها دون انقطاع . في حفلة التخرج التي أقامتها كلية الآداب ، كان عبد الرحمن يجلسُ في الشريط الأول من قاعة الاحتفال ، وأثناء التقاط صورة مشتركة للمتخرجين ، وقع نظري عليه ، لم أكن شاهدته من قبل إلا عبر شاشات التلفاز ، وما أن انتهت لحظات التصوير حتى انفرط العقد ، وخرجتُ من القاعة برفقة صديقتي بشرى حيث الرواق القصير المؤدي إلى الخروج من الجامعة . بعد ثلاثة أشهر من تخرجي من الكلية ، جاء أمر تعييني مدرسّة لتعليم اللغة الإنكليزية في ثانوية حمورابي التي لا تبعد عن بيتنا كثيرا . عند عودتي من المدرسة إلى البيت ، وأنا لا زلتُ في الشهر الأول من تعييني ، قرأت علامات الاهتمام بادية على حركات أمي ، وعند دخولي على أبي ، كانت خيوط من القلق عليه هو الآخر . في مساء اليوم التالي ، أخبرني أبي أنّ رجلا تقدم إليّ طالبا الزواج يدعى عبد الرحمن سرحان الماس ، وأخبرني أنه يترك لي الحرية في الرفض أو الموافقة . كنتُ أقفُ أمام أبي مسلوبة الإرادة ، لا أملكُ سوى خجلي ، شعرتُ بالضعف يداهمني بقوّة ، هذه المرّة الأولى التي أظهرُ ضعيفة إلى هذا الحد ، ليس لديّ ما أقوله ، نظري مغروس في الأرض . أدركَ أبي ما أعانيه ، سمعتُ ضحكة طارت من فمه ، وهو يقول : ـــ اذهبي يا ندى ، وفكرّي بالأمر جيدا ، وأعلني رأيك بوضوح . خرجتُ من غرفة أبي مرتبكة ، وذهبتُ إلى غرفتي ، وأنا في دوامة من التفكير الغائم ، وجدتُ أمي أمامي ، وعلى وجهها ترقصُ بشائر التفاؤل ، مسَكـَتْ يدي وراحت تقبـّلني دون أن أجدُ سببا لما تقومُ به سوى أنها تباركُ هذا الزواج ، وبلهجة المعلم الناصح لتلميذه ، قالت : ـــ عندما تأتي القسمة لأحد ، فمن الكفر ردّها ، وهذا الرجل مستقبله مضمون ، وشهادته عالية والجميع يقول أنه سيصبحُ وزيرا في وقت قريب . ـــ ولكنني لا اعرفه . قطبت حاجبيها ، وأطلقت ضحكة عالية : ــــ عندما تزوجتُ أباك لم أكنْ أعرفه ، اسأليه بذلك !! ران صمت لم أعرف كيف أقطعه ، بقيتُ حائرة دون أن أنبس ببنت شفة . ـــ لقد فاتحتُ أباك وقال : الأمر تقرره ندى ، وأنا أقول : من الحماقة غلق الباب الذي فتحه الله لنا . قلتُ بلا أرادة ، وبدافع التخلص ممّا أنا فيه : ـــ الأمر يعودُ لكم ، فأنا موافقة إذا أنتم موافقون على هذا الزواج . لم أكمل حديثي ، قطعته أمي وأسرعتْ إلى أبي تخبره عن موافقتي . بعد شهرين ، تمّ زواجي من الدكتور عبد الرحمن سرحان الماس ، وانتقلتُ إلى بيت يقع في حي المنصور ، ولا يعوزه شيء ، بيت حديث البناء والأثاث ، وفيه حديقة جميلة نُسِقَتْ على يد فلاح ماهر . ذات ليلة وبعد وصوله في ساعة متأخرة ، عرفتُ أنه ثمل ، لا املك غير العتاب والرجاء إلا انه رمى بكلّ توسلاتي ودموعي في مستنقع غروره ، واستمر في مواصلة ما هو فيه ، وبذلك لم نعد زوجين تشدهما أواصر المحبة والألفة ، انقلنا إلى ضيفين على فندق من الدرجة الممتازة ، واصل مشواره في إعداد خطاباته الملوثة ، وواصلتُ رحلتي في القراءة والتدريس ، ومع مرور الأيام بدأتُ اكتشفُ صفحات الخزي التي يتمترس خلفها زوجي الدكتور ، أدركتُ أنّ رأسه مزبلـة لأفـكار آسنة رضعها من ثـدي الشيطان ، وأنا لا أريدُ أن أكون جـزء من لعبة قـذرة ، لستُ بالثوب الذي يرتديه ، وليس بالزوج الذي أبتغيه ، ولابدّ من وضع حد لهذه الحياة التي أعيشها معه ، فما اعتادت ندى السير حتى النهاية في طريق مرصوف بالأخطاء ، في صباح يوم جمعة عاد يحدثني بلغة المثل العليا المزيّفة ، قلتُ له : ــ تفكيرك هذا يقودنا إلى الخراب في كلّ شيء . ـــ فليكن الطوفان . ضقتُ ذرعا به ، لم يعد باستطاعتي الاستمرار معه ، نهضتُ متحججة بزيارة أبي ، ارتديتُ ملابسي على عجل ، وأثناء خروجي لم اسمع منه كلاما ، صفقتُ الباب ورائي ، واتجهتُ إلى بيت أبي . عند العصر كنتُ أمام أبي في غرفته وجها لوجه ، لقد عقدتُ عزمي على قرار الطلاق قبل سماع نصيحة أبي ، لم أترك طرفا إلا وأخضعته لكلّ الاحتمالات ، وبدون تردد وصل صوتي إلى أبي : ـــ أبي العزيز ، عبد الرحمن لوثـّني ، وأريدُ التطهر بالابتعاد عنه . نظرات أبي تبحثُ عن شيء ضائع في وجهي ، وجميع ما فيه يقول ، وماذا بعد ؟ . استنهضتُ قواي الخفية ، بدأتُ أتوسل بذاكرتي على نقل الإحداث وفق سياقها الزمني ، دفعتُ إرادتي إلى الأمام محاولة استحضار اللغة المناسبة التي تنسجمُ ومشاعري المهانة ، تهيأتُ لكشف ما حصل ، أشعرُ بالحرج يعصفُ بي عندما أتحدثُ أمام أبي ، كرامتي الجريحة منحتني دفقة من الرغبة على فضح ما بيننا كزوجين ، أبي كان يقرأ فصول ما أعاني منه ــ أعرفه جيدا ــ ولابدّ من الحديث . بتأمل صبور وبهدوء قلق ، دفع أبي كرسيه إلى الأمام ، وبدأتُ في الحديث : ـــ زوجي عبد الرحمن معطوب في تفكيره ، وفاسد في سلوكه ، وسافل في طموحه . كان يملكُ الدكتوراه في العهارة السياسية وليس في علومها ، يشربُ الإسلام بكأس وثنية مرّة ، ويكرعُ الكفر بكأس محمدية مرّة أخرى . إذا دارت بوصلة مصالحه نحو لندن ارتدى قبّعة تشرشل ، وإذا انحرفت باتجاه موسكو كسا ذقنه بلحية لينين . متحضر حد النخاع في حديثه عن الحضارة ومتخلف حد العظم في جذوره . داخل رأسه سوبر ماركت سياسي يضّم كلّ ما يحتاجه ، ومع كلّ بضاعة يرفقُ الوصفة الدقيقة لطريقة تناولها وقد وضع بضاعته تحت ستار سميك من النباح السياسي نقش على واجهته ـ كلّ شيء من الوطن والشعب ــ وبهذا السلاح راح يقاتل في عالم تتلاقح فيه الأضداد . الوطنية عند زوجي ليس لها مفهوما واضحا ولا تصورا شاملا ، بل كان يراها في قنينة الويسكي الاسكتلندي مرّة ، وفي الصلوات الخمسة مرّة أخرى ، وثالثة بين فخذي مومس ، وأخرى في خدمة أعداء الوطن والشعب ، وخامسة في مضاجعة غلمان السياسة . كان فيضان الكلمات يخرجُ هادرا من فمي وأنا أتحدثُ إلى أبي ، ورأسي مشدود إلى الأرض ، وعندما استرقتُ النظر إليه لكي أرى تأثير حديثي عليه ، وجدته مستندا على كرسيّه كمستمع مطيع ، هادئ القسمات رغم الغضب المتجول في عينيه ، أردتُ التوقف غير أنّ هاجس كرامتي المهيضة ردعني وحثّني على المواصلة ، انسقتُ وراءه ، وواصلتُ : ــ ومع اكتشافي لكلّ هذا ، تشبثتُ بالصبر ، وبدأتُ أراهنُ عليه فهو سلاحي الوحيد الذي أدافعُ به من أجل أن تمّر العاصفة بسلام ، رغم يقيني أنّ العواصف عندما تهبّ تخلّف وراءها ركاما من الدمار . وفي أحد الأيام حدث ما كنتُ أخشاه ، امرأة تحتل فراشي رأيتها بكلُ قبحها وعهارتها ، لم أعدْ أحتملُ أكثر من هذا ، صرختُ دفاعا عن كرامتي وأنا أدركُ أنّ البكاء سلاح العجزة والأغبياء ، دافعتُ عن وجودي كامرأة وزوجة ، هربت العاهرة وبقي العاهر مكشوفا مثل صرصار مصعوق ، لا يملكُ غير الأيمان الغليظة بأنّ ما حصل لت يتكرر ، وأمام حالة الطلاق تجرعتُ الإهانة كما أتجرعُ السمّ الزعاف . انتفضَ أبي ، أحسستُ بذلك ، مدّ رأسه إلى الأمام ، شفتاه مطبقتان بشكل تام ، لا ترى سوى الخيط الفاصل بينهما ، قلتُ ما دمتُ قد بدأت فعليّ الوصول إلى النهاية ، وواصلتُ بصوت كسير : ـــ لم يمض وقت حتى تكررت الحادثة مع امرأة أخرى ، وأخرى ، قلتُ في سرّي : ( هذا المخلوق لم يتعود شرب الماء العذب من منبعه الصافي ) بعدها راعني كثرة الأموال المتدفقة عليه ، افرازات الدور المشبوه بدت واضحة لي ، خيوط اللعبة استهوتني إلى فك رموزها ، سقط الحجاب عن طلاسم زوجي العتيد ، عند ذاك رميتُ سلاح صبري لأستبدله بسلاح الطلاق ، هذا ما فكرتّ به ، وبنيتُ قراري عليه . انعقدَ لساني ، فمي أصيب بالخرس ، وقفتُ أمام أبي كمتهم في محكمة ، مشدود إلى سماع قرار القاضي ، أطلق أبي زفرة حارقة ، وقال بصوت منفعل : ـــ ارجعي إلى بيتكِ واجمعي ما ترينه ضروريا لكِ وعودي إلى هنا ، وسيكون لي شأنا مع عبد الرحمن . خرجتُ مسرعة من غرفة أبي وأسرعتُ إلى بيتي ، امتدت يدي بسرعة إلى مصوغاتي الذهبية وملابسي والأوراق المتعلقة بي ، وضعتها في حقيبتين ، وانطلقتُ إلى بيت أبي . لم يمر أسبوع على هذا الحدث حتى انتهى الأمر ، ولم تعد ثمة علاقة تربطني بعبد الرحمن ، سمعتُ لغطا في المدرسة يدور بين زميلاتي ، وقرأتُ في صحيفة محلية تعتاش على توافه الأمور من صحفي صعلوك خبر طلاقي تحت عنوان ( فضيحة ) ووصلتني اتصالات من أصدقائي ومعارفي ، وكنتُ أتصدى لكلّ ما أسمع بالطريقة التي تعلمتها من أبي ، حتى تلاشى الدخان وذهب الزبد ، ولم يعد أحد يهتمُ بالموضوع . في حزيران الماضي ، وفي نفس الشهر الذي تمّ طلاقي من عبد الرحمن الماس ، تمّ زواجي من نشأت سلطان الجاسم ، ومع نشأت تعرفتُ على صفحات حياته التي تنسجمُ وما أطمح إليه ، وبعد مجي مولودنا الأول ( عطيل ) بأيام ، جاء خبر مقتل عبد الرحمن على يد أحد المجهولين . كنـّا مجتمعين في دار أبي عند سماعي هذا الخبر ، ودون أيّة مشاعر مسبقة ، ولا أثر للأسف عليه ، انحدرت دمعة كبيرة ، تلقفتها بأطراف أصابعي ، وقلتُ بصوت سمعه الجميع : ـــ لقد أغرقه الطوفان الذي كان يسعى إليه ، رحم الله زوجي السابق ، فقد كان منافقا كبيرا ، وانتهازيا خطيرا .
#أحمد_الجنديل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ايقاعات راقصة لعازف حزين
-
الهجرة الى مواسم الرعب .... قصص قصيرة
-
كم أنت رائعة ياناهده 0000!!!؟
-
الثلوج تلتهم النيران ... قصص قصيرة
-
الدفاع عن حقوق المرأة ...... ( بلقيس حسن انموذجا )
-
العراق بين شرعية الاحتلال واحتلال الشرعية
-
التنوع في الكتابة ( جاسم عاصي انموذجا )
-
أنهار الخوف .. قصص قصيرة
-
تداعيات البعد الواحد ... قصة قصيرة
-
العلاقات العربية الأمريكية مسارات الرفض والقبول
-
ليلة الزفاف الدامي
-
لوحتان ( للعرض فقط )
-
تراويح شيطانية
-
زفاف في معبد وثني .......................... قصة قصيرة
-
العصافير تموت جوعا في البيادر .............................
...
-
حقوق الانسان زيف الشعارات وفعل الهراوات
-
عندما يغيب الصهيل .............. قصة قصيرة
-
الهجرة الى البحر........منلوج قصصي
-
حكايات عن عواصف الرعب .......... قصص قصيرة
-
الحفاة ........ .. قصة قصيرة
المزيد.....
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|