|
داليا رياض.. - رغم أني جملة كتبتها السماء-
وديع العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 2661 - 2009 / 5 / 29 - 08:48
المحور:
الادب والفن
" رغم أني جملة كتبتها السماء" صراع الذات والآخر في قصيدة داليا رياض (تطيش نحو السماء)
تنتمي قصيدة داليا رياض (تطيش نحو السماء) إلى لحظة توتر نفسي واحدة تعمل على تكثيفها وبلورتها في هيكل شعري لاستكمال حالتها التاريخية من خلال الاستجابات وتسجيل ردود الأفعال المتعلقة بما يجعل منها ظاهرة متكاملة مستقلة بنفسها ، وتعبيرها عن وضع اجتماعي ونفسي وفاصلة زمنية محددة. والمعالجة الفنية للنص بدفع نقطة التوتر إلى المنتصف وحصرها بين استهلال (رجعي) محيل على الماضي والذات ونهاية مفتوحة نحو الأعلى والخارج، أقرب لتقنيات البناء القصصي التي وظفتها الشاعرة هنا لانتاج نص شعري. خطاب القصيدة يتشكل من تمازج صوتين، كلاهما نابع من الذات ومعبر عنها، بيد أن أحدهما منحني ينعقف ويحاور نفسه، بينما الثاني يصدر من الذات بخط مستقيم ويتجه إلى (مخاطَب) افتراضي لا يظهر على سطح القصيدة. مما يمكن مقارنتها بقصيدة (كولالة نوري) عبر أكثر من سياق. فالقصيدتان نتاج فعل خارجي على كينونة الذات الشاعرة (أكتبي عن البحر) لدى كولاله نوري و (إحكي ما تحسينه فقط) لدى داليا رياض. تقول الشاعرة لميعة عباس عمارة (ذات مقابلة معها) أن المرأة الشاعرة تنقطع عن الكتابة بعد الزواج في خضم انشغالات وتبعات الحياة الزوجية. في الحقيقة أن طبيعة العلاقة (البابوية) بالمفهوم الغربي أو (الفحولة) بالمفهوم الشرقي وإرثها الثقافي الذي يختزل الآخرين في (معيته) أو (حوزته) إلى تابعين (قاصرين) عن سنّ الرشد وعليهم طاعته والانقياد له بدون جدال (نظرية بيت الطاعة) في الفقه الشرعي أو (نفذ ولا تناقش) الحزبية سيئة الصيت. فالمرأة ، بغض النظر عن أصلها وحسبها، وتحصيلها وغناها، ومواهبها وعلومها، هي (ملك) [حيازة] للـ (بعل) ولو كان أحمق أو موتوراً. حقوق الحيازة والملكية هذه تتجاوز الجسد إلى ذات الانسان والشريكة وإمكانياتها وممتلكاتها المادية والفكرية كأحد مظاهر وتقاليد المرحلة الاقطاعية أو البدوية البدائية في تاريخ المجتمعات والتي لا تزال تحظى بالصدارة والنضارة في الألفية الثالثة. في إطار هذا المنظور يجد الرجل / الشريك/ الحبيب أن من حقه التدخل في طرائق تفكير شريكته وطبيعة مشاعرها ومواقفها. وهي إحدى الثغرات أو المفاصل التي لم تحظَ بالاهتمام والاعتبار في دراسة أدب المرأة ومقارنته بأدب الرجل الأكثر حرية (حقوق الملكية والتصرف) من زميلته التي تجد من يحرمها من حقوقها ويشاركها فيها أو يتدخل في سياقاتها. تقول الشاعرة داليا رياض في جملة (مقول القول) محصورة داخل أقواس صغيرة نقلاً (عنه) : [أكتبي ما تحسّينه!] بينما تقول كولاله نوري في قصيدة (لكن البحر لم يكذب عليّ!) : [كنت أتوقع هذه القصيدة () متى تكفين عن هذه القصائد () أكتبي عن البحر] ففي الحالتين ثمة (صيغة) أمر ضمني [أكتبي..] مشروطة غير مطلقة. مما يبرر ضيق الشاعرة أو الكاتبة بهذا الأمر (المقيت) وتتفنن في التعبير عن استيائها ورفضها لهكذا منطق أو ثقافة. كلتا الشاعرتين دفعتا (صيغة التدخل) إلى داخل القصيدة دون الابتداء أو الابتدار بها، أولاً. وقدمتا الردّ / الجواب / الاحتجاج بمستوياته وتقنياته المختلفة على الفعل / الأمر ، ثانيا. تقول داليا في المقطع المرقم (3).. "أحسّ بكذا، وأحس بكذا، ما عندي حكي"، معتمدة اللهجة السورية المجترحة من قسوة الواقع اليومي، وليس من العسير تأخير هذا الكلام لنجد أنه جملة (جواب) على جملة (سؤال): "أكتبي ما تحسينه فقط" وتضيف مفردة (فقط) [من التفقيط وتحديد المعنى والسقف والاطار] دلالات إضافية مخزونة لمتن الفعل الأمري المتجاوز الذي يستحق منا جميعاً، الادانة والرفض، وليس (فقط) من لدن الشاعرة ذات الشأن. فهو، السيد، البطريارك، الملك الأوحد، صاحب السلطة المطلقة والعرش الفريد، يأمر أن لا تكتب في كذا وكذا، لا تكتب عن فلان وعلان، أو تتدخل في أمور [الدين أو السياسة] مثلاً، وتكتفي بالاهتمام ببيتها وأطفالها وأسرتها وقائمة التبضع والطبيخ. وهو ما يتجسد أو يتكشف في صيغة (أكتبي ما تحسينه ، فقط) لا غير!. وعندما تحدو السلطة أو الاستهتار بالشخص التدخل في (فعل تفكير) الآخر، فهو يبيح لنفسه التدخل في (فعل إحساس) الآخر ومنظومته الشعورية ، ليقول لها في اليوم التالي، (أشعري بكذا، أفرحي، أحزني،..). ضمن هذا الجوّ، تقول الشاعرة الرقيقة، على لسان المرأة الشرقية المنكسرة (ما عندي حكي)!. وتذهب أكثر من ذلك لغرض الاستفزاز، معلنة أنها تحس بكذا وتحسّ بكذا، ولكنها لا تريد أن تقول أو تحكي. لأنها غير ملزمة باطلاعه على خرائط مشاعرها وهواجسها الذاتية. أما الشاعرة كولاله نوري .. سيقول صديقي ثانية.. (كنت أتوقع هذه القصيدة) (متى تكفين عن هذه القصائد) قل لي لماذا عليّ أن أكفّ أكتبي عن البحر لكن البحر لم يكذب عليّ أقصد أنه لا يستحق قصيدة. - (لكن البحر لم يكذب عليّ)- كولاله نوري فالمناظرة هنا أكثر جراءة وتحدياً.. والمنادى (الآخر) يوصف بأنه (صديق) بينما لدى داليا هو (حبيب) ورغم أن مفهوم (الحبّ) أكثر عمقاً وشمولاً ودفئاً من مفهوم (الصداقة) لكن استقلالية الذات ودرجة الاعتداد النفسي كما تكشفت هنا كانت أقل. فالصداقة ضمانة لاستقلال كيانين قادرين على التفاهم وتبادل الرأي، بينما (الحبّ) ترسيخ لحالة (تبعية) عبودية تختزل الكيانين في واحد وتختزل حرية الرأي لصالح (القمع) والدكتاتور. ولا تقف كل من الشاعرتين لدى حدود (الرفض) أو الاحتجاج وانما تتعديانها إلى فعل (الادانة). وقد لعبت اللغة دوراً تقنياً مناسباً لترجمة الموقف. فتضيف كولاله بعد رفضها المراوغ لفعل الانصياع للأمر الذكوري (اكتبي عن البحر). فتستخدم فعل الأمر (قلْ لي..) ثم تعطف عليه بالاستفهام (لماذا عليّ أن أكفّ..) فالرفض هنا ضمني وغير مباشر ولكنه قوي ولجوج في نفس الوقت. ثم تختمه بضربة (مايسترو) تضع حداً لسجال فارغ.. (لكن البحر لم يكذب عليّ.. أقصد أنه لا يستحق قصيدة!)، فأعطت لـ(صاحب الأمر) صفة الكذب الذي يؤهله لدخول التاريخ، أما البحر فهو أدنى أو أرقى من ذلك، فلا يستحق التسجيل. ونستشف منه رؤية الشاعرة للكتابة كتعبير عن [احتجاج] ورفض، وهو مفهوم جدير بالاعتبار ضمن كرنفالية الشعر العربي في المديح والفخر والنسيب وما إليه. ويمكن الافادة من (فكرة) الاحتجاج في استشفاف صورة الزمن أو (المرحلة) المتردية التي تختزل الخصائص الانسانية والقيم الرفيعة السامية للانسان لصالح تضاداتها. بالمقابل، لم يقتصر موقف الشاعرة داليا رياض على مجرد (الرفض) أو (النفي) [ما عندي حكي!]. وانما تعاود الكرة في المقطع التالي (5) .. ليس شرطاً أن أحكي ما أحسّه فقط، ليس شرطاً أن أحكي فقط.. ليس شرطاً. وهنا تبرز دالتان دخلتا في بنية جملة الرفض. دالة المنطق، بديلاً عن اللغة، والبعد النفسي كدالة ثانية. في المقطع (3) استخدمت (مقول القول) المباشر لطرفي الجدال .. [- إحكي ما تحسينه، فقط! - أحسّ بكذا، وأحسّ بكذا، ما عندي حكي!] ففي الجملة الثانية تم اختزال حرف (لكن) وتقدير الجملة [أحسّ بكذا وأحسّ بكذا، (لكن) ما عندي حكي!]، وبالمقارنة نجد ورود هذا الحرف في جملة جواب (كولاله نوري)، [أكتبي عن البحر ، (لكن) البحر لم يكذب عليّ]. مع اشتراك كل من جملتي (لكن) لدى الشاعرتين بعدة قواسم مشتركة، لغوية واسلوبية، منها دالة (الكلام) ، [حكي، يكذب]، ودالة النفي [ما عندي، لم يكذب]، وياء النسبة على الذات [ عندي ،عليَّ]، بالاضافة إلى دوال اسلوبية باعتماد صيغة الحوار [Dialog] والمناظرة أو المواجهة. وفيما اختلفت حدة المواجهة في الحالتين من الناحيتين النفسية والفكرية فقد تشابه طرفا المعادلتين [قمع – رفض - احتجاج]. فالمرأة في قصيدة داليا رقيقة هادئة ، وسايكولوجيا سالبة القطبية [Passiv]، فقد رفضت الاملاءات الصادرة إليها ولكنها في نفس الوقت ألغت فعلها أو موقفها (الإشكالي) ملتجئة للصمت [(ما عندي حكي!) ، (ليس شرطاً أن أحكي فقط.. ليس شرطاً)] . ورغم أن الصمت يؤدي وظيفة الاحتجاج (السلبي) على الصعيد السياسي أو الثقافي، إلا أنه دالة (القبول) في الفقه الشرعي، وصورة (للتقية) في النظام العربي. في هذا المفهوم يبدو البعد النفسي الزاخر في القصيدة دالة، ليس على مبلغ الألم فقط ، وانما الاحباط وقصر نَفَس المواجهة. الالغاء، اختزال الذات، يبقى غاية الأداء الذكوري ضد (سلطة) الأنثى التعجيزية. والصمت هنا ينفع التسليم للمقابل والتنازل بالمعنى العام الشمولي ولو (على مضض)، وهو حال يوميات كثير من النساء المضطرات لاجترار أوضاع تجترح كيانهن ووجودهن على الأرض. وتتجلى صورة التراجع النفسي والمعنوي في القصيدة في طريقة تقسيم البيت وتكرار نفس مقولات (الآخر).. [ ليس شرطاً / أن أحكي ما أحسّه فقط، / ليس شرطاً / أن أحكي فقط../ ليس شرطاً. ] فالتشريط الوارد في جملة الطلب ممثلاً بالحرف (فقط) يتحول إلى قاعدة للرفض أو قاعدة مرفوضة أساساً، (ليس شرطاً) = لا يوجد شرط أو تشريط، (أن أحكي ما أحسّه). والردّ أن تبطل فعل (الحكي) وتحتفظ بما تحسّه لنفسها. هذا الاسلوب في التعبير أو الرفض ليس بعيداً من جملة كولاله نوري المحاججة [قلْ لي لماذا (عليَّ أن أكفّ)؟..] ، بيد أن جملة داليا رياض خبرية حاسمة، بالمقارنة. لا تكشف الشاعرة مغزى السجال الرئيسي تحديداً، وتبقى مفردة (فقط) محمّلة بما يكفي من الغموض واللبس، إلى حدّ يدفع الشاعرة لموقف شمولي حدي عارم، (ليس شرطا أن أحكي، ما عندي حكي). ويصور تقطيع جملة الرد (ليس شرطاً أن أحكي ما أحسّه فقط) والمقابلة لجملة الطلب (إحكي ما تحسينه فقط!)، صورة التمزقات النفسية التي تعتور ذات الانسانة في مواجهتها ورضوخها الجريح للاقتصاص من ذاتها فتتكرر (ليس شرطاً) ثلاث مرات، كناية عن مبلغ الألم الذي يخلفه (التشريط) والتفقيط ، وتتكرر (أن أحكي فقط) مرتين، وترد جملة (ما أحسّه) مرة واحدة، كناية عن صعوبة التلاعب أو التفريط بهذا الجزء من الكيان الانساني. أما الشاعرة كولاله فتبقى رابطة جأشها متحولة من الرفض والاحتجاج إلى صورة التحدي والاستمرار في الكتابة وإدانة (الآخر) بتهمة الكذب، وهو مغزى لم يتبلور جيداً في النص، لكنه يبقى فاعلاً في المستوى العام، كما أن الملحوظ مقارنتها العميقة بين (الصديق) و (البحر)، وثمة علاقة حسية ووجودية حميمة جداً بين كينونة الانثى والماء سيما في صورة البحر العرمرم، ليس هذا مجال الاستطراد فيها. استعاضت داليا عن الماء والبحر بالهواء والحمامات البيض، وهو مغزى آخر. فإذا كان البحر وجبروته وسعته كناية عن السلطة والقوة المتناسبة مع رغبة كولاله في التحدي والمواجهة ، فالهواء والحمام كناية عن الحرية والانطلاق المنسجمة مع واقع النص لدى داليا والرغبة في التمرد على [مربّع] القفص الذي يمثل الدالة الرئيسية الأخرى في القصيدة.
دلالة [المربع] " أحسّ بكذا، وأحسّ بكذا، ما عندي حكي"، "إحكي ما تحسينه فقط". هذه ليست جملة، هذا مربع. تقرأ الشاعرة بعين أحاسيسها وواقع المنظور الاجتماعي للبيئة المعاشة، وهي بذلك تحرر اللغة من البراقع وتعاين الكلام في موشور التجربة. ففي لغة تتمتع بكفاية من الهشاشة والميوعة والضبابية بحيث تتعادل فيها التضادات، لا يكفي التسلح بقواعد الصرف والنحو، وانما بالعمق النفسي والثقافة الاجتماعية للبيئة لفك التشابكات ومنع التداخل بين الأضداد. وفي ظل هذا المنظور الاجتماعي النفسي [سوسيو- سايكولوجي] يأتي تشخيص النص ، [هذه ليست جملة، هذا مربع.] ، انتقالة مباشرة من اللغة إلى الاشارة ومن التعبير إلى الرسم والصورة. الانتقال من اللغة المجردة إلى المعنى الباطني أو الايحاء النفسي للمفردة، (هذه ليست جملة/ هذا مربع!.). مرة أخرى يقودنا النص إلى تناص رؤيوي آخر قد تلقي المقارنة والقراءة المشتركة أضواء كاشفة على كل منها على حدة. ففي قصيدة (لا تمسك يدي المجروحة) للشاعرة فرات إسبر تقول، [العالم غرفة متهدمة الجدران] وليست تلك الغرفة غير هيكل ديناصور أثري منخور. أما الشاعرة منى كريم في قصيدة (من يمسح طاولات يدي) فتقول، [في سبعة أيام خلق الربّ، هذا الصندوق!.] ، وهنا يقتضي الكشف عن تلك العلاقة الكامنة بين [غرفة ~ صندوق~ مربع]!. فالغرفة والصندوق كناية عن صورة العالم الذي لم يجازف الخيال العلمي بالبتّ في [تربيعه] حتى الان. لكن كلاً من الغرفة، والصندوق، والعالم، حسب ذلك قريبة من دالة المربع. بيد أن (المفروض) في نظرية داليا رياض الهندسية لا يعود على العالم بالمعنى الفيزيائي وانما على ما يسود في هذا العالم، مربع داخل مربع داخل مربعات متتالية. وظيفة الشاعرة [كيف أكسر ضلعاً من أضلاعه،] ، فالمربع إذن هو السجن. واللغة قيود تحاصر ذات الانسانة ضمن قوانين العيب والعادات والحرام والخطأ والفوبيا. أصوِّب كلماتي نحوك .......... لكنها تطيش. لم أتعلم من قبل كيف أصيب الهدف، ليس حتى بعد كل هذه الحروب. فالقصيدة تعبير عن قسوة وعتمة السجن / الجدران الأربعة التي تنوء تحتها الشاعرة/ أنثى النص. جاءت في مرحلة قررت فيها وضع حدّ للقسوة والعتمة والامتهان عبر (كسر أحد أضلاعه). بالمنطق الرياضي، اعتمدت الشاعرة تشخيص الحالة أولاً، وبعد التشخيص بدأت في تحديد الحلول / البدائل. أي البدء في اختطاط مرحلة جديدة ووضع حدّ لربيع الآلام. ان الدلالة النفسية للمربع في إشارة النص، أقوى من الصورة الهندسية أو المعنى اللغوي للمفردة. فالسجن المربع ليس فيزياوياً أو هندسياً وانما هو نفسي ~ فكري~ روحي يغلل كينونتها من الداخل ويختزل طاقاتها الانسانية المتفجرة ونبضها بالحياة. السجن الذي يحولها إلى دمية راكدة جامدة ملتفة ببراقع وأستار تجعلها محرومة من أشعة الشمس ودفقات النور، تجعلها قرينة العتمة والعزلة كأي مصدور أو محجوم محجور، لوقاية المجتمع من عدواه وشروره. هذا السجن النفسي والروحي قتل للجمال والحرية والانطلاق والانسانية، قتل للروح قبل الجسد، وتحجيم للفكر قبل الأطراف. ولذلك لا تطيقه الشاعرة فلا ترى غير (كسر أحد أضلاعه). لغوياً، يكتسب استخدام مفردة (ضلع) أهمية استثنائية، فالضلع رديف الصدر، الصدر الانساني الموصوف بالسعة والرحابة، وهو نقيض (السجن) في النص. وهذا يدعم الرأي حول البعد النفسي والروحي للسجن على حساب الصورة الفيزياوية الموصوفة بالمربع. ويجسد في عين الوقت حجم المعاناة النفسية والروحية والفكرية للكاتبة بين أغلال المربع. وفي هذه النقطة تتمايز رؤية الـ[مربع] لدى داليا رياض عن رؤية الـ[غرفة] لدى فرات إسبر والـ[صندوق] لدى منى كريم . وفي المنظور الاجتماعي تنمو صورة [مربع~ سجن] إلى أطر العادات والتقاليد الجامدة ومنظومة القيم البدائية المتوارثة وصولاً لمستويات الفهم والتعبير السياسي، حيث تتساوى الانثى مع الذكر في الحقوق والواجبات والرأي والتمثيل. بالمقابل، اقترنت صورة السجن بحالة النزوع الانساني الطبيعي للحرية والهواء الطلق والملامسة المباشرة مع الاشياء، وتنشق عبق الحياة الحقيقية ممثلة بكسر الطوق والخروج للرحبة.
دالة الحمامات البيض أولاً: تكررت صورة (حمامات بيض) ثلاث مرات خلل النص في المقاطع [2، 4، 7] على التوالي. بينما تكررت صورة المربع مرتين [3، 6] ، جاء تكرار مناظرة (الحكي) مرتين كذلك [3، 5]. وضمن الثالوث الدلالي الذي يستوي عليه [قِدْرُ] الشاعرة صاحبة قصيدة [ماذا نطبخ غداً]، تشكل دالة (حمامات بيض) ركيزة ثالثة لانجاز معالجة النص عبر [المناظرة – المربع - الانطلاق]. ويمكن استشفاف عدة مستويات دلالية من هذه الصورة. بدء، تم الاشارة لدى المقارنة مع كولاله نوري إلى اختلاف اتجاهي البديل لدى الشاعرتين، البحر لدى كولاله والسماء لدى داليا. البحث عن السعة والقوة والجبروت والتحدي لدى الأولى، والتحرر من كل ما هو أرضي ودوني [الدنيا الدنيّة!] لدى الثانية. من جهة أخرى تمثل عبارة (حمامات بيض) صورة مناظرة بمستوى الايقاع اللغوي والفنى لعبارة (عباءات سود) عند السياب [كحل وعباءات سود]. فقد جاءت [حَمَامَاتن، عَبَاءَاتن = مَفاعيلن] بينما تجانست [بيض ، سُود = فَعْلُن] ايقاعيا هي الأخرى وتنافرت لونياً حسب المغزى. والاشارتان متعلقتان بالأنثى واحتراقاتها الشرقية. على الصعيد الرمزي والميثولوجي تتعدد دلالات (الحمام) واللون الأبيض. فالمعنى العام والقريب هو الانطلاق والسلام والمحبة [هل تستطيع الحمامة أن تكره!] ، أما البعد الميثولوجي فقد ربط مشهد الموت بالطائر [وكلاً ألزمناه طائره في عنقه] / (القرآن الكريم)، أو تشبيه الروح بحمامة بيضاء وهي ترتفع نحو السماء، وفي الفن الأوربي الوسيط تضفي أجنحة بيضاء على صور الموتى ترفعهم في الأثير. وبين هذين المعنيين تراوحت رؤية الشاعرة، مع تغليب واضح للمعنى الأخير. ان إرادة النص ونزوعه الطبيعي هو الانطلاق من أغلال السجن وعبودية المربع، ولكن هذا الانطلاق يبقى محكوماً بعديد من الاحتمالات والبدائل، وضمن منظورها الواقعي تركت الشاعرة الباب موارباً لتلك الاحتمالات. فالخروج على منظومة تقاليدية يتجاوز عمرها الألف عام وفي بيئة ثقافية ما زالت تجترّ الماضي لا يعَدُّ الخروج مأموناً، ولا النجاة مضموناً. لكن الواضح والأكيد هو رفض الاستمرار بالجريرة والاجترار، والخروج على الغلّ ولو إلى [السماء ]. وهو ما تكشف عنه الجملة الأخيرة في النص بكل ما تمثله من دعابة مرة وسخرية مقصودة [حبيبي!، أنظر، إلى الحمامات البيض، تطيش نحو السماء.] . عبارة تشي بفرح طفولي، بنشوة الحرية، بالنكاية لمن أراد لها البقاء داخل القفص، فاختارت الموت في (فضاء حر). ثانياً: استشفت الشاعرة عنوان القصيدة من صورة (الحمامات البيض)، وبدت القصيدة عموماً مشغولة بها. أي أن جهد الشاعرة قد انصبّ طيلة النصّ على كيفية تقديم هذه الصورة أو توصيل هذا المعنى. الحمامات البيض ترجمة توق النفس الانسانية للحرية والسلم والجمال والانطلاق. حلم التحليق والسباحة في الآفاق. وهي الحالة التعويضية لأسار المكان الاجتماعي ومحدودية الجغرافيا. وفي مقاربة شعرية .. [الحشرات هي الأرقى دائماً لأنها تستطيع الطيران إلى كل مكان أما نحن فيلزمنا الكثير للانتقال من أرض لأخرى.] من قصيدة (البدون) لوديع العبيدي* فالتوق هنا قد يتجاوز النص الاجتماعي إلى نص المكان الجغرافي المكبّل هو الآخر بتبعات متراكمة موروثة تضغط على قاطنيه وتدفع بهم أو بأفكارهم ومشاعرهم في اتجاهات متباينة. فيكون التحليق [تطيش في السماء] انتصاراً على الجغرافيا وخلاصاً من أسرها تفتح أمامها أفقاً أو آفاقاً جديدة. بعبارة أخرى أن (الخلاص) هو هاجس قصيدة الشاعرة داليا رياض التي جاءت تحت عنوان [تطيش في السماء]. ومفردة (تطيش) اشتقاق [فعل مضارع] من المصدر الثلاثي (ط ا ش يطيش = طيش) أو يتبعثر ( كما في اللغة الدراجة [طشّ يطشّ] أو يخرج عن مساره المألوف أو السائد. فالكناية هنا أن الحمامات (البيض) غادرن القفص (المربع). و(البيض) من مترادفات المرأة في لغة العرب، فتجتمع أكثر من وشيجة تدعم المفهوم النسوي في النص ومغزاه. الآن أفكر كيف أكسر ضلعاً من أضلاعه.. فانطلاق الحمامات أو البيض أو الحمامات البيض لا يكون إلا بفتح (كوّة) في الجدار أو كسر أحد أضلاع (المربع) وهو ما جرى التفكير فيه، بيد أن محصّلة المحاولة انتهت بشكل آخر.. كسرت ضلعاً من أضلاعي.. رغم أني جملة كتبتها السماء، لا مربع. وهنا لابدّ من التوقف، والانتباه للتحول في مجرى النص. فالتوق الانساني للتحرر من العبودية والأسر الاجتماعي الاقطاعي لم ينته، أن الذي انتهى هو الكائن الانساني، هو الجمال الانساني، هو التألق والبراءة والنبل. وبقيت البشاعة والقباحة متباهية بقبحها اللانهائي. فكرة التحرر أو التحرير عبر الموت ليست حديثة في تاريخ الاحتراق الانساني ألبتة. ذلك ما يجعل الانتحار بطولة ويمنح الخلاص من واقع ذميم بهاء وروعة. تعترف، أو تذكر، "إن نفعت الذكرى"، أنها كائنة مخلوقة، شأنها شأن الكائنات الأخرى، أي أنها ليست أدنى، أو أرقى من غيرها. (جملة كتبتها السماء). وهي إذ تلوذ بالسماء أو إليها، فثمة أسئلة كثيرة تبرعم في مكانها، ربما سجلت الشاعرة فرات إسبر بعضاً منها في قصيدتها (إلى أين تأخذني؟..). أسئلة مجروحة ونازفة، طافحة بالوجع الانساني والحلم بحياة جديرة بالعيش.
في اقتصاديات اللغة الشعرية تتكون القصيدة من خمس وثمانين مفردة متوزعة على سبعة مقاطع أو جمل شعرية. بينها ثلاث وأربعين مفردة مكررة تكرار لفظي أو معنوي. وباختزال التكرار يتبقى ست وستون مفردة في النص فقط. وإذا علمنا أن ثمة ثلاثة وثلاثين استخداماً بينها للأحرف والأحرف المشبهة بالفعل والأفعال الناقصة وأسماء الاشارة والظروف وغيرها، فالمتبقي هو ثلاث وثلاثين كلمة صحيحة ذات معنى تام [إسم / فعل]، لزمت الشاعرة للتعبير عن فكرة العبودية واضطهاد الأنثى وتوقها للخلاص التاريخي. ويهيمن الفعل المضارع على زمن القصيدة، وإن كانت الاحالة إلى الماضي واضحة أحياناً عبر استخدام النفي (ما ، ليس، لم). أما المهيمنة الثانية فهي لمشتقات (الكلام) وملحقاتها التي بلغت (16). وقد تعاقبت استخدامات النفي والاثبات في صيغ التعبير، ومنها مفردتي [جملة ، مربع] المتكررة مرتين وردت كل منهما في حالة نفي مرة [ليست جملة، لا مربع] وإثبات مرة [هذا مربع، أني جملة]. ابتدأت القصيدة بإحالة على الماضي (لم أتعلّم) بما تنطوي عليه من تقريع ذاتي وندم.. يجعلها قريبة من استهلال وسام هاشم في قصيدته (الوعل).. لم أتعلم من قبل كيف أصيب الهدف ليس حتى بعد كل هذه الحروب. ومع استخدام (لم) الذي يفيد النفي (المعنى) والقلب (الزمن) تبدو عبارة [من قبل] زائدة وفائضة عن الحاجة، ومثلها (ليس) في السطر الثالث، وبالامكان إعادة كتابة المقطع بعد التشذيب دون أن يختلّ النص.. لم أتعلّم.. أن أصيب الهدف.. رغم كل هذه الحروب. لكن بقاءها على وضعها السابق ينفع التأكيد والايحاء بالاجهاد والتشتت الذي يتأكد في المقطع التالي.. أصوب كلماتي نحوك لكنها تطيش حمامات بيض نحو السماء. فطول العهد التاريخي على غبن الأنثى أورثها حالة من التعب المتراكم، فـ(تطيش) سهامها عن أهدافها وتتحول إلى حمامات مسالمة بيضاء رافلة بالمحبة. وتتأكد حالة الارتباك (الذهني) عند الوصول للمقطع الرابع.. الآن أفكر، كيف أكسر ضلعاً من أضلاعه، كي تطيش كلماتي حمامات بيض نحو السماء. فالعلاقة بين الحرفين [لكنّ، كي] غير متناسقة هنا، أفادت حصول (انحراف) في الأولى بينما تتحول إلى أمنية (كي، من أجل، لعلّ، عسى)، في الثانية، وهو ما يندرج في نهاية القصيدة كذلك. وفي هذا السياق كذلك تأتي الاشارة [أصوّب كلماتي نحوك] وعلاقتها بالتعبير (أكسر ضلعاً..)، ففي حين جرى الحديث عن التصويب والكلمات في المقطعين [1، 2]، تحول إلى (أكسر ضلعاً.. ) في المقاطع التالية. ولعلّ صعوبة المواجهة أو إستحالتها التاريخية هي التي ألجأت الشاعرة لعكس زوايا المربع داخل ذاتها لاتخاذ الخطوة التالية.. كسرت ضلعاً من أضلاعي.. وهنا تتوفر ثلاث دلالات للنص.. حالة التماهي بين الكائن الانساني الأنثوي والقفص المحكومة به ، أن تحرر المرأة لا يكون إلا بتحرير ذاتها وروحها [الصدر (القلب)] من الغلّ والقيد، صعوبة المواجهة المفضية للموت احتجاجاً على انعدام العدالة والمساواة. وأخيراً، تنضم هذه القصيدة إلى جملة النصوص التي تجعل من الهمّ النسوي بأبعاده المختلفة شاغلاً رئيساً لها، من جانب وإلى قافلة قصيدة النثر التي تبدو أكثر التصاقاً بالمرأة الشاعرة منها بزميلها الشاعر. يوليو 2006 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القصيدة• منشورة في موقع كيكا. ترقيم المقاطع من قبل الكاتب.• القصائد المشار• إليها في الدراسة سبق معالجتها من قبل الكاتب ما عدا قصيدة (إلى أين تأخذني) لفرات إسبر المنشورة في موقع (دروب) الالكتروني. من ديوان - صدفة نجوت – وديع• العبيدي –شعر بالألمانية والعربية – النمسا 2006- ص15.
نص القصيدة داليا رياض تطيش نحو السماء (1) لم أتعلم من قبل كيف أصيب الهدف ليس حتى بعد كل هذه الحروب. (2) أصوب كلماتي نحوك لكنها تطيش حمامات بيض نحو السماء. (3) " أحسّ بكذا، وأحسّ بكذا، ما عندي حكي"، "إحكي ما تحسينه فقط". هذه ليست جملة، هذا مربع. (4) الآن أفكر، كيف أكسر ضلعاً من أضلاعه، كي تطيش كلماتي حمامات بيض نحو السماء. (5) ليس شرطاً أن أحكي ما أحسّه فقط، ليس شرطاً أن أحكي فقط.. ليس شرطاً. (6) كسرت ضلعاً من أضلاعي رغم أني جملة كتبتها السماء لا مربع. (7) حبيبي! أنظر إلى الحمامات البيض تطيش نحو السماء. * شاعرة عراقية تقيم في دمشق.
#وديع_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ستة عقود في محراب الحرف- حوار مع الفنان كريم الخطاط
-
- أريد الطحين لأخبز معه أحزاننا-
-
مقدمة عامة في تجربة مظفر النواب الشعرية
-
حسن الخرساني و سقوط مردوخ
-
مفيد عزيز البلداوي وقصيدة الحلزون
-
سعد جاسم وقصيدة الحداد لا يليق بكريم جثير
-
دراسة في مجموعة ” نون ” لأديب كمال الدين
-
حمّالة الحطب.. عن المرأة والغزو!..
-
(عَنترَهْ..)
-
(فراغ..)
-
(إلى صلاح نيازي..!)
-
جدلية الزمان والمكان في رسالتين إلى حسن مطلك - قراءة تحليلية
-
(شيخوخة..)
-
الدكتور يوسف عزالدين في حوار شامل
-
(حزن..)
-
الانسان.. ذلك الكائن الأثيري
-
(مساء..)
-
عن المكان الوجودي..
-
المرأة والمكان.
-
(شوسع الدنيه وما لمّتني..)
المزيد.....
-
دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا
...
-
الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلم
...
-
“عيش الاثارة والرعب في بيتك” نزل تردد قناة mbc 2 علي القمر ا
...
-
وفاة الفنان المصري خالد جمال الدين بشكل مفاجئ
-
ميليسا باريرا: عروض التمثيل توقفت 10 أشهر بعد دعمي لغزة
-
-بانيبال- الإسبانية تسلط الضوء على الأدب الفلسطيني وكوارث غز
...
-
كي لا يكون مصيرها سلة المهملات.. فنان يحوّل حبال الصيد إلى ل
...
-
هل يكتب الذكاء الاصطناعي نهاية صناعة النشر؟
-
-بوشكين-.. كلمة العام 2024
-
ممثلة سورية تروي قصة اعتداء عليها في مطار بيروت (فيديو)
المزيد.....
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
المزيد.....
|