أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اليمين أمير - حالة ضياع.. قصة قصيرة















المزيد.....

حالة ضياع.. قصة قصيرة


اليمين أمير

الحوار المتمدن-العدد: 2662 - 2009 / 5 / 30 - 07:32
المحور: الادب والفن
    


كنت أرغب في أن أسألها إذا ما كانت مجرد حلم مؤلم، ولكني لم أجرؤ. ووجدتني أنقاد خلفها كالرضيع، ويدها تسحبني بعيدا عن ضوء المصباح الذي التقينا تحت وهجه، والضباب يلفنا مثلما الرداء. لكن يدا أخرى تهم بإيقاظي دون كلل. حاولت أن أستفيق، أن أتشبث بتلك اليد التي شعرت في قرارة نفسي أنها تريد فعلا مساعدتي لأدرك الحقيقة، لكن يدها هي كانت أقرب إلي من أي شيء آخر، و أقوى حتى من الحقيقة. فراحت تسحبني مني إليها وتلج بي عتمة الليل، والضباب يغشانا، بعيدا عن ضوء المصباح الذي بدأ نوره ينطمس ويختفي...
دخلت الزقاق وقد غشيه الضباب، فشعرت كأنما روحي تصعد في الأفق بين السحب، كان المنظر يوحي بالهذيان، وكأنما الزقاق قد أصبح نفقا طويلا تكثف بداخله دخان السيارات. الضباب تجمع فتكتل كالجليد وأنا أسير دون أن أبلغ منتهاه، كأنني أمشي فوق دولاب يدور في مكان واحد. ربما كنت قد خرجت من المقهى في ساعة متأخرة من الليل، وحينا الذي يعتكف أقصى المدينة سوف يتعبني السبيل إليه، ولكني وجدتني أختصر المسافة بيني وبينه بالشرود والخيال اللامتناهي وكما تعودت دائما أتناسى جميع ظريات الحركيات، لعلي أمحو من واقعي كل القوانين التي تتحكم بالسرعة، والمسافة والزمن، كي أصل إلى الحي دون أن أشعر بشيء من الجهد ولا حتى الوقت.. وإن في اعتقادي أن بعض العلوم وإن كانت تجريبية سوف تزول يوما ما لتحل مكانها علوم أخرى ربما نجهل أسسها الآن.. كانت وأنا في الطريق بعض التصورات تجتاح مخيلتي، كعلاقة الدين بالسياسة والفن بالعلم، والحب بقانون الجاذبية، إلى أن ولجت الشارع الممتد طويلا نحو حينا الذي توجد فيه الكثير من التناقضات.. كأنما به قد استنسخ من رجل أسطوري تشبه صفاته إلى حد كبير صفاتي وأنا يتخمر بداخلي الشعر. زقاقنا الذي يبدو للوهلة الأولى رواقا طويلا، خاصة بالليل وهو يتوسطه ذاك المصباح المتفرد في التوهج، وكأنه شمعة أرهقها الاحتراق، فأشفقت عليها ضرام النار، وإن بصري لا يكاد يدرك ضوءه على بعد بضع أمتار. كأنه شحيح ويعز عليه أن يمدنا بنوره، فيأبى إلا أن يحتجزه بداخله، فلا يظهر إلا وهو أشبه بوجه مصفر أهلكه السقم، أو وجه امرأة تريد وضع حملها. غير أنه يختزن في ضعفه هذا إصرارا على البقاء.. لست أدري لماذا يبدي لي كل من في الحي المودة والاحترام إذا ما أنا صادفت أحدهم في الطريق، مع أني أعلم أنهم جميعهم يضمرون في قرارة أنفسهم حقدهم وبغضهم لي، ربما كانوا فقط يتظاهرون بالطيبة أمامي ليتقوا ويأمنوا شري وسخطي، فأنا عكر المزاج دوما وكثير الشجارات، ومشاكلي كثيرة، وعلاقاتي مشبوهة خاصة مع النساء، العازبات منهن وحتى المتزوجات. هذا ما كانت تتناقله الألسنة عبر شوارع المدينة والمقاهي، فتتسلل أحيانا خلسة إلى مسمعي، رغم ذلك فأنا لا أعتقدني بهذا السوء والطيش، فمعظم الشجارات كان سببها أعمدة الكهرباء والمصابيح، والنسوة في الحقيقة كن يتعمدن إثارة عواطفي ويتغزلن بي كثيرا من الأحيان. ولأني كنت أحب كثيرا كتابة الشعر فقد كنت أراهن كالقصائد ومرات كالقوافي، وكنت سرعان ما أمل عشق واحدة حتى أجدني أهيم بأخرى وهكذا عشت أرنو بينهن كالنحلة، أبدا لن تكتفي برحيق زهرة واحدة. فأخالني أحيانا يوسف الصديق وأنهن نسوة المدينة، غير أني ما كنت لأتقي فيهن النار أو أخشى الذنوب. حتى ملني السفر بين هاتي وتلك، وأعياني البحث عن قصيدة تهزني قوافيها، وعن امرأة تحتويني أحداقها، وتملؤني بكيانها ووجودها. فقد كان قلبي مثلما النار كلما سألته هلا اكتفيت قال هل من مزيد. واعتقادي بوجود امرأة قد تفهم ربما ولو بعض جنوني، كان يدفعني دوما للبحث عنها، كما لو كنت رجل سياسة يبحث عن حل لأزمة مستعصية أو عالم يحاول وضع نظرية جديدة. ولكن في الحقيقة كان الحب دائما أكبر القضايا جدلا وأكثرها تعقيدا.
لم أعد أهتم كثيرا لما يجري في البلاد، السياسة صارت تحشر أنفها في كل شيء حتى باتت مقرفة لا يستسيغها أحد، والدين أصبح مجرد لباس يرتديه الصالح والطالح، وكأنه موضة العصر. لقد تعفنت الأمور كثيرا وما عاد بوسعنا أن نميز بين الخبيث والطيب. ربما علينا أن نخسر جيلا كاملا حتى نصل إلى درجة الوعي الحقيقية فالأمور تسير من سيئ إلى أسوء، والوطن بأكمله يعيش حالة ضياع وفوضى لا متناهية. ولكن الأمل يبقى دائما موجودا حتى في ضعفنا ويأسنا، مادامت الحياة مستمرة. أذكر جيدا عندما قرأت عن طريق الصدفة ذلك النص المنشور في إحدى الجرائد التي كنت كثير الميل إلى قراءتها، وقد استهواني وقتها وأعجبني كثيرا ما جاء في مضمونه وكيف كانت طريقة طرحه. وحينما استنفذت قراءته أدركت أن من كتبه كانت امرأة، تسرب خلسة بداخلي شعور غامض لم أستوعب توغله في بادئ الأمر ولم أستطع أن أجد له تفسيرا، فأصبحت كل يوم أقتني الجرائد علي أعثر بين الصفحات على نص آخر مثله يروض بداخلي ذاك الشعور المفرط، إلى أن صادفت نفس الاسم مرة أخرى فانتابني الخوف في البدء. ولكني سرعان ما تعودت ثم أدمنت بعد ذلك قراءة نصوصها. وبدأت أتناسى عشيقاتي والقصائد، وكم تمنيت لو أنني ألتقي تلك المرأة التي تسكن شرق البلاد، والتي يمتزج في أسلوب كتابتها أصالة التراب بحداثة الطرح والتفكير. دون أن أدري وجدتني أعرض عن القصائد وعن نسوة المدينة، ولا شيء يشغل تفكيري إلا نصوصها المميزة، وخيالها الذي امتطاني كالبرق فأضرم بداخلي حرائق الهوى، فامتدت عبر شراييني ألسنتها تشعل عناصري كلها. حتى بت أوقن أنها المرأة التي سوف تفهم بعض جنوني وسيغمرني حبها كالبحر الهائج، وأظنها القصيدة التي هزتني منذ قرأتها أول مرة، قوافيها شديدة الإبهار والغموض.
حينما دخلت الحي وجدته كما ألفته دوما، كما لو أنه ناسك يسجد منذ الأزل تحت السماء في خشوع ومعظم الأزقة يشغلها الكرى النائم في عتمة الدجى، وبعضها قد غالبها النعاس. هكذا هو حينا العتيق يأبى إلا أن يحافظ على أصالته، فقد تجذر في أعماقنا ضوء القمر والنجوم، فما عدنا في حاجة للإنارة العمومية. كانت أعمدة الكهرباء وحدها كافية لتشوه منظر تلك التحفة النادرة والبنايات المرصوصة فيما بينها كأنما تشكل لوحة تجريدية، قد تعبر ربما عن هواجس رجل تائه غير أن تلك الهواجس ترفض أن يسلط عليها الضوء. فهي إنما تتشكل في الخفاء ولا ترضى إلا بنور الشمس الساطع ليظهر جمالها الحقيقي لذلك فإن جل المصابيح التي سعى عمال البلدية طيلة أسبوع ليتموا وضعها في أماكنها عبر كامل أزقة الحي تكسرت منذ ليلتها الأولى واختفى بعضها.. ربما كان حينا يرفض التغيير ويكره أن يشوب ليله ضوء اصطناعي لا جمال فيه ولا إحساس، فهو لا يقنع إلا بمصابيح السماء. ومن يدري؟ فلعله يثور يوما وينفض عن أزقته ذلك الإسفلت الذي كدر صفاء ترابه، ويقتلع أعمدة الكهرباء المغروسة فيه بدلا من أشجار التوت التي كانت تملأ المكان. يخيل إلي أحيانا أن حينا هذا جريح وما تلك الأعمدة إلا رماح تخترق صدره. حتى أكاد أسمع أنينه وتأوهاته من خلال شقوق الجدران واختناق الأزقة...
قبل سنوات شكل السكان لجنة خاصة، وكم سعوا جاهدين غير متخاذلين كي يوصلوا الكهرباء، والغاز إلى بيوت الحي. وها بعدما أثمر طول انتظارهم تأبى الأزقة إلا أن ترفض معانقة المصابيح فقد تعودت أن يكون الليل فيها ليلا كما هو نهارها نهارا، ولم تتعود أن تزيف حقيقة الأشياء. كتلك الأزقة التي تجذرت مسالكها في ذاكرتي، صارت هاته النصوص وقد أدمنت قراءتها تتوغل عمق أفكاري وتراودني عن نفسي، فأصبحت ألتقي صاحبتي كل ليلة وسط زقاقنا تحت نور المصباح الخافت، في خيالي لأجلس طويلا كي أستحضر روحها، وأحلل شخصيتها من خلال أعمالها وأحاول أن أجسد لها صورة في مخيلتي. كنت دائما أقتفي أخبارها وأتتبع كل ما تكتبه في الجرائد وأظنني قد اشتريت كل أعداد الجرائد التي تحمل بين صفحاتها ولو بصمة من بصماتها. حتى صارت غرفتي الضيقة توشك أن تختنق فيها تلك الجرائد.
ملني الشوق المؤرق وفرط الرجاء، ودون أن أعي وجدتني أكتب إليها، لم تكن رسالة وإنما مقالا أرسلته إلى الجريدة، غير أنه لم يجرؤ أحد على نشره، كنت أحاول أن أستفز أفكارها، ولكني في كل مرة كنت أرسل فيها بعض الخواطر أو المقالات وبعد أن أقرأ الرد على صفحة الجريدة ـ عملك جميل، ونعدك بنشره في الأعداد القادمة ـ أتذكر أنني لم احتفظ لنفسي بنسخة منه فينتابني شعور بالحزن المرير. ربما كنت فاشلا في كتاباتي، كنت فاشلا في أن أوصل تلك الأفكار التي كانت تساورني وتلك الأحاسيس المخبأة بين طيات مهجتي إلى أهلها. لكنني قررت أن أراسلها شخصيا وإن كانت تبدو سذاجة مني. ولم يكن من السهل أن أعثر على عنوانها الشخصي، وفعلت أخيرا وكتبت إليها، وانتظرت طويلا عله يأتني ردها رغم تمازج الخوف والشوق بداخلي، ولست أدري لماذا اعتقدت أنه سيتدفق بيننا نهر من الهواجس والمشاعر ينبع من أفكارنا ليصب عمق عواطفنا.. ولكني ما كنت جبران أنا ولا كانت هي مي، فاكتفيت بأن تصب هي عمقي وبأن أبيح لنفسي أن أتعشقها من خلال أعمالها، وألا أترك مجالا لأي امرأة أخرى أن تزرع سهامها في صدري، فأصبح جريحا كحينا العتيق، ولم يقنعني في الهوى إلا طيفها الذي شكلته في خيالي من أسلوب كتاباتها. فهي بعد لم ترني ولا تعرف عني شيئا حتى تهم بي كامرأة العزيز، حين شغفها فتاها حبا فراودته عن نفسه.
كان الزقاق ضيقا مثل الرواق، وكمعظم أزقة الحي يسده جدار من الجهة الأخرى، لم أدر لما بدا لي هذه المرة أطول بكثير مما كان عليه، حتى لا أكاد أرى طرفه المقابل وكأنه بلا نهاية. الساعة قد أغرقها الدجى والبيوت تبدو خاشعة والضباب يغشاها وسط الليل الحالك، وكعادتي سأتسلق الجدار، وقبل أن أقفز إلى الفناء الصغير ومن هناك من فوق السطح المجاور سيستقبلني بنباحه الكئيب كلب الجيران، وسيفزعني ككل مرة، ويلج بصوته أرجاء الحي فتعم الفوضى ويخرج النساء والرجال يرهقهم الوجل. وفي الأخير يعاودون أدراجهم إلى مضاجعهم وكأن شيئا لم يحدث فلا يجرؤ أحدهم على أن يسمعني تنهداته وأنا أسب وأشتم، وأتلفظ بأقبح الكلمات.
كنت أتقدم بخطى مثقلة وبعد لم يتراء لي حائطنا الذي يشبه مجموعة مكعبات غير متناسقة الشكل ولا التركيب، والمكان الذي انطلقت في اتجاهه لا جدوى من الوصول إليه، كأنني أسير فوق دولاب يدور في مكان واحد، وخطواتي تتثاقل أكثر فأكثر، ربما كان النبيذ قد احتواني سكره فأصبحت أهذي، ولكن في الحقيقة لا أحد يحاول أن يفهمني فأنا لا أحتسي الخمر من أجل السكر فحسب، وإنما أمارسه كالتصوف أو ربما للتقرب من شيء شديد الغموض لم أدرك كنهه بعد. يقال أن السكر يجعل الإنسان يفضي بالحقيقة، والحب حقيقة، والشعر حقيقة أيضا لذلك أجدني لا أجرؤ على الكتابة إلا إذا كنت ثملا...
كم اشتقت إلى حينا الجميل والمدينة بما احتوت. فالأيام التي قضيتها في السجن أرغمتني على أن أنسى بعض الأزقة والشوارع، وأرغمتني أن أنسى حتى بحور الشعر. قال لي بعض النزلاء الذين عمروا طويلا في السجن واعتادوا على الإقامة داخله: سوف تخرج من هنا يا صديقي وأنت توشك أن تنسى اسمك كيف تعودت أن تكتبه. ونسيت فعلا الكثير من الأشياء ولم يبق بمخيلتي إلا طيفها والسكر، وبعض الذكريات التي تحاول منذ أسبوع أن تستعيد قدرتها على التمركز والاستقرار بذاكرتي...
لم يزل الدولاب يدور تحت أقدامي والزقاق يمتد طويلا دون توقف عمق الضباب، ونظرات الفجر كأنما بها تريد أن تفك الخيط الأبيض عن الخيط الأسود، لتخطفني من مكاني. كأنه المشهد بتفاصيله تحمله الذاكرة في طياتها.. في نفس هذا المكان أذكر أنني التقيتها، وحدثتني طويلا ووعدتني باللقاء مرة أخرى وبأن تأخذني معها حيث سترحل، لم أتذكر جيدا ما جرى بيننا من حديث، ولكنها قالت لي أشياء كثيرة ثم شقت لها طريقا في عتمة الليل فغشاها ظلام الدجى فكانت كالسراب. ولكني كنت متيقنا بأنني سوف ألاقيها مرة ثانية، وهاهو حدسي لم يخيبني، فلما أعرض الدولاب عن الدوران ورفعت رأسي لأسحب كل ما استطعت من الهواء كي أستعيد أنفاسي، لمحت من خلال الضباب الذي يتثاقل في التكثف كأنه يأبى الانقشاع، طيفها وقد تمثلت بشرا أمامي، كان ظهورها فجاءة لم أتوقعها في تلك اللحظة، حتى أني لم أستطع استيعاب ملامحها جيدا. ووجدتني كالتائه أو كالذي نوم مغناطيسيا، أنقاد إليها دون تردد ولا إدراك، ولا حتى وعي مني. ولكن شيئا في أعماق نفسي يتمنع تارة ثم يرضخ، ثم يتمنع أخرى، وهي لم تتفوه بكلمة هذه المرة، وإنما راحت تمسك بيدي وتجذبني إليها بعيدا عن ضوء المصباح المتوهج فوق جدران الزقاق.. تذكرت فجأة أن المرة الأولى التي التقيتها فيها لم تكن حقيقة وإنما كانت مجرد حلم مرهقة أحداثه الجميلة. وقد استفقت منه عند الصباح كالمخدر بالأفيون. وفوجئت في ذلك اليوم وسرى بدمي جنون الموت حينما قرأت في المساء نبأ وفاتها يملأ صفحات الجرائد ـ الأديبة والصحفية الكبيرة تموت في ظروف غامضة.. ـ وا حسرتاه يا معللتي، كيف لي أن أكون عاشقا بعدك والحب ما عاد يحمل وجه الحب.. والموت عندنا نوع من الانتصار... كل شيء غامض، الوطن نفسه يموت في ظروف غامضة. كان لابد وأن أسافر في ذلك اليوم ولأول مرة إلى حيث كانت تقطن شرق البلاد. لقد حضرت مراسيم الدفن مع من حضر من الناس، وكأنما جثتي التي واروها تحت التراب. كانت وجوه الحاضرين تملأ مساحة المقبرة من كثرتها، لقد أتوا من كل مكان على ما يبدو. بعض تلك الوجوه لم تكن غريبة على ذاكرتي، أو ربما تشابهت فقط تفاصيلها، فاختلط علي الأمر. لم أكن أدرك من قبل أنها كاتبة معروفة إلى هذا الحد وأن عشاقها يسكنون كل مكان، ورحت أتساءل بيني وبين نفسي إذا ما كانوا يعشقونها بمثل جنوني..؟ وشيء بداخلي كأنما يريد أن يتحرر مني ليخرج ويصرخ في هاته الوجوه، ويعلن أمام الجميع بأنني عاشقها الوحيد. كانت الجنازة أشبه بملتقيات الأدب، الكل يتحدث عن الشعر والقصة وعن المدارس الحديثة. سمعت أحدهم يقول: ـ إن المرحومة كانت حالة خاصة ومميزة في الأدب المعاصر، وسوف تعرف أعمالها مكانة هامة عند النقاد والمهتمين بالأدب الحديث.. وربما ستدرس أعمالها في الجامعات مستقبلا ـ وقال آخر: لقد قرر اتحاد الكتاب بجمع كل أعمالها في مجلد خاص وسيتم طبعه عما قريب... كنت أسترق السمع بدقة حتى أكاد أسمع نبضات أفئدة كل الحاضرين. ولكن ما استطاعت أذني أن تلتقط ولو كلمة واحدة تتحدث عنها كامرأة.. وليس كأديبة فقط، ربما لم يجرؤ أحدهم أن يصف جمالها أو كبرياءها أو أي شيء يتعلق بها كأنثى...
لم أشعر إلا وأنا تحتويني المقبرة وحدي دون تلك الوجوه التي قد انصرفت من غير أن أنتبه لمغادرتها، ووجدتني وقد تسمرت أقدامي فوق الأرض، وتحجرت العبرات عمق أحداقي، ينتابني نوع من التيه والهذيان وكأنني احتسيت أنهارا من الخمور... لم أدر ما الذي حدث وكما لو أنني كنت أحلم، كان المكان شديد البياض حينما استفقت، وجسدي يكبله التشنج. قال أحد الذين بدأت ألمح وجودهم أمامي: لقد استفاق من غيبوبته وسوف يتحسن حاله بعد ساعات.. ربما كنت قد لبثت ليلة أو ما يزيد في المستشفى، وبعدما خرجت منها حاولت أن أذهب ثانية إلى المقبرة، ولكني لم أجرؤ، وشعرت ولأول مرة بخوف رهيب يقشعر منه جسدي كله، وما كان لي إلا أن عدت أدراج المسافة التي قطعتها. ووجدت ثورة بداخلي تريد أن تفجر عناصري لتصرخ ملء قوتها وتلج أفئدة الناس أجمعين رحت دون وعي مني أفرغ حبر الأقلام فوق الأوراق في نوع من التيه والضياع المتلاشي كالشظايا، وحبلت الأوراق وأنجبت في الأخير بعد شهور طويلة اعتكفت فيها غرفتي والأوراق. فخرجت الرواية تكلم الناس وتطلع على الأفئدة كالنار، فكان لها صدى عميقا في النفوس. ووجدتني بعد أيام من نشرها، ـ وبعد أن أنفقت فيها كل ما أملك من جهد ومال كي أخرجها من الظلمات إلى النور ـ تنفتح أمامي وعلى مصراعيها أبواب السجن، فلبثت فيه كم لبثت! وتحولت أيامي كلها إلى ليلة واحدة متكررة، يمارس فيها العذاب كل طقوسه فوق جسدي، حتى استوى بداخلي فصار قريني. ولكني هاأنا اليوم بعدما انقضت عدة السجن ألتقيها ثانية وكأنها واقع ولم تفارقن أبدا. أم أن السكر استوطنني كخيالها وما عاد بوسعه أن يفضي إلينا حقيقة الأشياء.. في الحقيقة كانت الظروف قد تغيرت كثيرا واتخذ مسار الوطن منحى آخر وتبدلت المفاهيم عند العام والخاص، وبدأ الصلح يتسع مداره. وكأن شيئا لم يكن.. إلا أن الغموض لا يزال يشوب بعض الأمور، ولم يزل الوطن جريحا وشعبه قد أنهكته السنون.. فهل ربما سينقشع الغموض يوما عن هذا الوطن وينقشع الضباب من أمام ناظري لأدرك الحقيقة.
لم يكن شيئا أشوق إلي من رؤيتها والتحدث إليها... حاولت أن أسألها إن كانت مجرد حلم مؤلمة لذته، ولكني لم أجرؤ ووجدتني أنقاد خلفها كالرضيع ويدها لا تزال تمسك بي، وتسحبني بعيدا عن ضوء المصباح الذي التقينا تحت وهجه. وأنا تائه بين الحلم و الحقيقة فبدأت أشعر بشيء كأنما يحاول أن يوقظني من سباتي العميق وكأن يدا أخرى تريد أن تمسك بيدي، فبدأت أميل إلى الإدراك وأوشك أن أوقن أنني أحلم، فالزقاق الذي ألفتني بيوته قد تغير شكله، والمصباح بنوره الخافت كما تعودت دائما أن أراه أصبح أكثر توهجا وضياء..
حاولت أن أستفيق.. أن أتشبث بتلك اليد التي شعرت في قرارة نفسي أنها تريد فعلا مساعدتي لأدرك الحقيقة. لكن يدها هي كانت أقرب إلي من أي شيء آخر و أقوى حتى من الحقيقة. فراحت تسحبني مني إليها وتلج بي عتمة الليل والضباب يغشانا، بعيدا عن ضوء المصباح الذي بدأ نوره ينطمس ويختفي..




#اليمين_أمير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مجرد دخان.. قصة قصيرة
- النرجيلة.. قصة قصيرة


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اليمين أمير - حالة ضياع.. قصة قصيرة