مجرد دخان.. قصة قصيرة

اليمين أمير

الحوار المتمدن-العدد: 2661 - 2009 / 5 / 29 - 05:16
المحور: الادب والفن
    

في غيابات الزمن الغابر وفي قوقعته المغلقة، بعيدا عن العيون. كان مجرد دخان يتشكل شيئا ما في أعماقه في صمت ويتقوقع حول نفسه في هدوء غريب.. نشأ في أعالي جوه الخاص، وبين سحبه التي شكلها من بقيا دخان سجائره المفضلة. كان يستمتع بصنع أشياءه الصغيرة ثم يعرض عنها كأنه صبي يعبث ببعض الدمى.. فقد كان يشكل أفكاره ثم ينفثها مع دخان السجائر التي كان يمتص لفافاتها كثيرا، ليجسدها فوق السحب التي شكلها ثم يقذف بها فوق أرضه الصغيرة لتنمو وتتكاثر في هدوء، وكم كان يفرح حينما يرى تماثيله تتشاجر وتتسابق نحو المجهول في جنون عظيم، إلى أن يسأم من تلك الوجوه يقتلعها من أرضه كأنه إله جبار، ليشكل منها أشياء أخرى وأفكارا جديدة تزرع في نفسه البهجة والسرور.. وبينما كان منشغلا بألعابه الصغيرة وسجائره المفضلة، راودته فكرة غريبة.. فقد سئم تلك الحياة الساذجة والحلقات المتكررة، وأراد أن يحدث تغييرا شاملا في نظام الآلهة المتجبرة التي لا تدع أي مخلوق النفاذ من قوقعته المصنوعة لأجله.. قال في نفسه لماذا لا أتمرد على هذه القوانين المتسلطة وأشن عليها ثورة عنيفة، فهي تسيرني وتتحكم بقدراتي وتوجهني في صنع ألعابي كما يحلو لها، وأنا لدي طاقات وقدرات عظيمة.. فلماذا لا أصنع متمردين مثلي أشكلهم من سجايا مهجتي ومن بنات أفكاري، ثم أنفثهم من أعماق روحي المستتر، عبر دخان لفافاتي اللامتناهي، حتى يتسنى لنا مواجهة هاته الآلهة المستبدة.. راح يخطط لنفسه كيف سيقدر على زرع أفكاره فوق أرضه العتيقة التي شكلها له أجداده منذ الأزل الأول، والذين التهمتهم الآلهة أيام جنونها.. ولكن هل يمكن لهذه الأرض أن تنبت أرواحا مثلي لا يخافون الآلهة ولا يخشون جنودها المقربين. فكر في أعماقه وقال لنفسه لما تصنعني الآلهة دوما ولا أصنعها، ولماذا تضع حراسها لمراقبتي، فقد سئمت هذه التفاهات وصنع هذه الأشياء المجردة التي لا تجدي نفعا، وتؤول في النهاية إلى مجرد دخان.. لا بد لي أن أشكل شيئا مميزا يبقى خالدا عبر الأزمنة والعصور، راح ببراءة الأطفال وبراعة العباقرة يخرج كل ما يملك من طاقة وأفكار ويقذف بها بكل ما أوتي من قوة نحو تلك المساحات الضيقة فوق أرضه الصغيرة المتآكلة، ولكن أحدا من الحراس اكتشف أمره فوشى به إلى الآلهة المستبدة.. وجد نفسه أخيرا محاصرا من كل الجهات فوق أرضه العتيقة التي نزل إليها للاطمئنان على أرواحه الصغيرة، والجنود يقذفونه من كل جانب بكل أنواع الآلام والعذاب الشديد. والآلهة تعصر غضبها فوق رأسه وتدك تلك الأرض الصغيرة دكا، وتحرق كل الأشياء والأرواح بنارها المسمومة، إلى أن لفظ الجميع آخر أنفاسهم تحت وطأة العذاب.. واحترق كل شيء وأصبح مجرد دخان.. وبعد مر العصور ندمت الآلهة على فعلتها لأنها لم تستطع تشكيل أرواح جديدة لتسير شئونها المعقدة.. لكن ذلك الدخان كان يتشكل شيئا ما في أعماقه في صمت ويتقوقع حول نفسه في هدوء غريب..

#اليمين_أمير (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات