أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - ليذهب فان جوخ إلى الجحيم















المزيد.....

ليذهب فان جوخ إلى الجحيم


يوسف ليمود

الحوار المتمدن-العدد: 2648 - 2009 / 5 / 16 - 08:54
المحور: الادب والفن
    


ولماذا هذا العنوان الجاحد أيها الكاتب الجاحد؟
لست جاحدا، بل هو الحب ما يجعلني أتكلم هكذا. أنا أفصل بين جوخ الشخص، وجوخ الفنان. حب الشخص على حدة، والفنان كذلك على حدة. وحين أربط بين الاثنين، الشخص والفنان، يكون حبا من نوع آخر. حبا واعيا، بل واعيا جدا.
وكيف، أو لماذا؟ لأن الذائقة الثقافية، العربية تحديدا، والعالمية بشكل عام، لا ترى ذلك الفنان إلا من منظار حكايته التعيسة وجنونه المزعوم. والنتيجة أن لا عمله، كفنان، يُرى كما يجب، ولا شفقتنا وغناؤنا له، كشخص، يفيده حيث هو منذ قرن من الزمان.
لكن هل يمكن أن نفترض أن كل المتيمين بهذا الفنان، في العالم كله، تأملوا حقا في لوحاته؟ أو أكثر، هل بإمكانهم حقا تذوق أعماله وإدراك قيمتها لو أنها عُرضت عليهم من دون معرفة اسم راسمها؟ وهل نطبّق افتراضنا هذا على شاعر كرامبو مثلا: أن كل من يطعمّون أحاديثهم ومقالاتهم باسمه كتعويذة، قد قرأوه حقا، أو كانوا سيحتفون بنصوصه لو عُرضت عليهم وكأنها لشاعر آخر مجهول؟

طابورٌ ثعبان، يتلوى ببطء شديد أمام متحف الفن في مدينة بازل، حيث المعرض الشامل للوحات هذا الرسام التي رسمها "بين الأرض والسماء" (هذا هو عنوان المعرض، مسبوقا بالاسم: فان جوخ). هؤلاء الذين جاءوا من كل النواحي، إنْ بطائرة أو قطار أو سيارة أو مشيا، بعد أن انتظروا الحدث طويلا، ها هم يزحفون في الطابور ببطء ليقفوا أمام لوحات "المجنون الذي قطع أذنه وأهداها إلى عاهرة!"، وطبعا لأن زيارتهم ستفتح للكلام سككا في سهراتهم في المطاعم، وطبعا سيعودون إلى بيوتهم حاملين الكتاب الضخم الذي يحوي كل أعماله ليوضع في مكان مرئي على رف مكتبتهم التي هي ديكور لا يمكن الاستغناء عنها...! أرجوكم، أنا لا أعمم.
كم مرة، في مناسبة كهذه، استحضرتُ، في خيالي، طيفَ ذلك الفنان التعيس يتمشى أمام هذه الحشود، ورصدتُ ردود الفعل، فأراهم، كلما اقترب هو من أحدهم، يتراجع الأخير خطوة إلى الوراء اتقاءً لرائحته ورثاثة منظره عموما، وأتساءل: يا إلهي، أليس هؤلاء الناس هم أنفسهم من قتلوه؟ أليسوا هم أنفسهم من سخروا منه وأداروا له ظهورهم وجوّعوه ورموا لوحاته، التي كان يهديها لهم، في المزابل وعشش الدجاج؟ أليسوا هم أنفسهم من تألم هو لوجودهم الرخو النيئ المُبكي، حد اليأس فإطلاق الرصاصة في قلبه البريء؟ أليسوا هم أنفسهم، بسبب كسلهم الفكري وغبائهم الوجودي، من يشجعون حاكميهم على سحقهم واستعبادهم في العمل والمفاهيم والثقافة حد الوصول بهم إلى هذه اللحظة: الوقوف في طابور طويل، تحت الشمس أو المطر، لمجرد أن يتشمموا من على مسافة مترٍ لوحاتِ "الرسام المجنون"؟ أليسوا هم أنفسهم من رأوا القملة في شعر رامبو دون أن يتحسسوا الخنزير المفرود في أجسامهم، والآن يتلون أشعاره كصلاة في الصالونات الأنيقة المذهبة التي احتقرها هو وهرب منها إلى جحيمه وقدره؟

حسنا. إذا كان هذا يحدث في الغرب الذي هذا الفنان سليلُه، فماذا عن الشرق الذي لا يعرف ذلك الفنان إلا ترديدا ببّغائيا؟ كيف نتوقع من المتشدقين بالثقافة، وبالتالي من العامة، في عالمنا، أن ينظروا إلى عمل فنان كفان جوخ أو رامبو وهم لا يرون من الأول سوى أذن مقطوعة، ومن الأخير إلا تاجر عبيد؟ هل نظروا لحظةً في سمائه كيف رسمها، في سحبه، في شمسه، في نجومه، في إناء زهوره، في الزهور، في عبّاد شمسه، في قمحه، في شجرته السوداء الباسقة، في كنيسته، في عاهراته، في مساجينه، في فقرائه، في غربانه، في موانئه، في غرفته كيف شكّلها، في حذائه، في جمجمته، في حساسية خطوطه، في كهربائية ألوانه... وقبل كل هذا، هل نظروا في عينيه؟ هل رأوا البياض الحارق خلل نظرته الحارقة؟

لا معنى هنا للإتيان على عمل هذا الفنان الذي ظلمته وطمسته حكايته كشخص. كما أنه لا عين لتسمع ولا أذن لترى! فطريق الرؤية طويل، ولا وصول إلا بالجهد وتنقية الحواس والقدرة على الفصل بين الأشياء. أذكر فقط أنني في مراهقتي الفنية أردت أن أعرف سر إعجاب بيكاسو الشديد بفان جوخ حد الكلام عنه في كل مناسبة: هل كان يحب الشخص فيه أم الفنان أم لم يكن يفصل بين هذا وذاك؟ لسنوات طويلة أقنعت نفسي بفكرة أن فان جوخ لبيكاسو، كان يمثل شخصيتة الأكثر خفاءً: الفشل (ولم لا؟ ألم يكن لذلك الأسباني الناجح جانبا فاشلا خفيا؟). اعتقدت أنه كان ينتقم لفان جوخ من العالم بنجاحه ومرونته وبهلوانيته؛ أنه يمثّل خطوة، ليس فقط في تاريخ الفن، بل أيضا في تاريخ الفنانين، تمسح بقايا الرومانسية العالقة في أذيال هذا النوع الخالص كالذهب الخالص، من الفنانين، كأشخاص. ربما كان في افتراضي ذاك بعض من حقيقة. لكني الآن أرى الأمر بشكل أكثر وضوحا، أو هكذا أظن. أرى أن بيكاسو القاسي (والمبدعون، كما قال نيتشه، قساة)، قوّم جوخ من خلال عمله وليس من خلال الشخص. فبالنظر الواعي لأعمال جوخ، نتبين كم كان هذا الفنان عقلانيا في فكره وبناء عناصر عمله الفني. ربما شخصيته الحادة المتوهجة التي لم تكن تقبل المساومة، هي ما تُحدِث اللبس غالبا، حين التورط العاطفي المسطح معه، والخلط بينه كشخص وبين عمله! معروف أن بيكاسو كان عقلانيا طوال حياته، كشخص وكفنان، ولا ننسى تأثره، في بداياته الفنية حين أتى باريس، بأعمال فان جوخ حد تقليده في نماذج معدودة. ثم إني لن أنكر عنصر الوهج المشترك بين الاثنين، رغم التوجهات المفارقة لطاقتيهما... وطبعا من دون أن نغفل ظروف الوقت والمكان.

وصولا إلى ظروف الوقت والمكان، كيف يمكن أن نقوّم، أو مجرد ننظر إلى عمل هذا الفنان في وقتنا هذا، بغض النظر عن "مكاننا"؟ هذه إشكالية. ولكن فلنحاول، وكل ابن آدم خطّاء: اتفقنا أن نفصِل بين الرجل كحدوتة ومأساة (كل واحد منا، بل إن أصغر حشرة تدب على هذه الأرض، حدوتة ومأساة)، وبين منجزه الفني. السؤال هو: هل توجد، في الفن، أو في غيره، قيم خالدة أبدية لا تتغير ولا تتبدل مثل الله، مثلا؟ لو كان الجواب نعم، ألا يهدد ذلك اللهَ نفسَه كقيمة مطلقة؟ أليست القيم جميعها عرضة للتحولات، لأنها، أصلا، نتاج واقع له ظرفه وزمنه ومؤثراته...؟ المنطق والبديهة يقولان بأن القيم تتغير بتغير الظرف، لتدخل، من مجال القيمة الفنية التي خدمت وقتها، إلى حيز القيمة التاريخية، حيث تجد بيت راحتها الأخير، إلى أن يأتي طوفان نوح آخر وتعاد كَرة العالم وقيمه من جديد! فلم يُتعامل مع أعمال فان جوخ تحديدا وكأنها قيمة مطلقة في حين أن أعمال معاصر له كسيزان أثّرت على تاريخ الفن ووجهته بأكثر كثيرا من تأثير جوخ؟ ألأن سيزان كان عاقلا جدا؟

ثم، ألا يمر الإنسان نفسه، عظيما كان أو حقيرا، بكل التحولات الحياتية حتى وصوله إلى مثواه الأخير، متحف التراب؟ فلم يريدون تحنيط ميت وتلميعه كل عام وآخر في فاترينات المتاحف تحت: "فان جوخ بين السماء والأرض"... الخ، مثلا؟ أهو اتّجار بالأسطورة، أم ضبط ساعة دماغ الناس على توقيت متأخر مئة عام، أم هو رد فعل ضد المعاصر، أم المسألة مجرد استعراض بريء للتاريخ؟ غير أنه هنا، بسبب الحضور الطاغي للحدوتة - المأساة الشخصية، على حساب الناتج الفني لهذا الفنان، فإن سؤالا كالتالي يكون هو الأهم: هل يخرج هؤلاء الواقفون في الطابور من المعرض بروح جديدة تسمح لهم، إنسانيا، بأن يروا عشرين فان جوخ يمشون جنبهم على نفس الرصيف، حتى لو لم يرسموا خطاً في حياتهم؟
هذا هو السؤال يا سادتي وهذه هي المأساة!

يوسف ليمود
النهار اللبنانية



#يوسف_ليمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سحرية الصورة في أفريقيا، أوقيانوسيا، والفن الحديث
- -بالصدفة، نثر الفصول- لاحساين بنزبير .. ذلك الثقب في اللسان
- كيكي سميث .. الجسد بين الهنا والهناك
- فرنشيسكا وودمان .. امتدادات الدادائية وظل الموت المراهق
- بالتوس .. مئة عام وعام بين الاغتراب والزمن
- إيف كلاين .. أجساده الفراغية وثورته الزرقاء
- مقدمة عن الجسد في الفن
- الجانب المعتم - رغبة الفوتوغرافيا وفوتوغرافيا الرغبة
- شيماء عزيز .. بالأسود ترسم أجسادها وبه تخفيها
- حجر قايين
- فينيسيا.. من كاناليتّو إلى مونيه
- صبحي جرجس .. حين طية المعدن تقول المكان وتختصر الزمن
& ...
- مائة عام على الفنون الجميلة في مصر!
- أتجرد من ماذا لحساب ماذا
- الرحيل عن بيروت
- في رحيل ريك رايت أسطورة بينك فلويد وبينك فلويد الأسطورة
- في رحيل المصور حسن سليمان .. وقفة بين المرئي واللامرئي
- فرنان ليجيه في معرض استعادي .. أيقونة الحديث والمعاصر
- من يوسف ليوسف .. تلويحة غياب متأخرة
- سوق الفن السنوي في بازل وسؤال الوعي


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - ليذهب فان جوخ إلى الجحيم