|
مفهوم الباريسيا وشجاعة قول الحقيقة عند ميشيل فوكو Parrèsia
نجاة تميم
الحوار المتمدن-العدد: 2648 - 2009 / 5 / 16 - 04:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لوفاة سقراط قيمة حتى في قلب العقلية الغربية. ميشيل فوكو دشنت المحاضرات التي ألقاها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو خلال الفترة 1982-1984 في كوليج دو فرانس بداية بحث حول مفهوم الباريسيا وذلك من خلال إعادة قراءته للفلسفة اليونانية القديمة ودراسة وتحليل تطور هذا المفهوم وعلاقته بالسياسة والفلسفة وأزمة المؤسسات الديمقراطية الإغريقية في القرن الرابع قبل الميلاد. يذكرنا فوكو بأن المواطن الإغريقي يصعد على أغورا (ساحة عامة)، غير خائف من أن يقول ما يفكر به والصديق يقول لك ما لا تريد سماعه أو أيضا المستشار الذي يرفض مجاملة الملك رغم مخاطرته بحياته. لكن هناك، بالتأكيد، طرق كثيرة لقول الحقيقة : كالحكمة، والنبوة والتعليم. ظهرت كلمة "الباريسيا" في الأدب الإغريقي لأول مرة من خلال التراجيديات الستة لأوريبيدس (حوالي 484-407 قبل الميلاد) واستمر وجودها في كتب اليونان القديمة إلى القرن الخامس بعد الميلاد. الباريسيا تعني إيثيمولوجيا قول كل شيء. فالباريستس يقول كل ما يفكر به، لا يخفي شيءً. فهو يقول الحقيقة للآخرين، متوخياً مصلحتهم ومساعدتهم. يقول بكل صراحة ما يريد قوله دون أن يستعمل فنون الخطابة، يتكلم بوضوح وإقناع بحيث يفهمه المتلقي. هناك نوعان من الباريسيا؛ النوع الغير مستحب وهو كلام تمويهي يستعمله في بعض الأحيان السياسيون ورجال الدين للنهي والإقناع وقد لا يمت للصحة بشيء. وهذا ما يسميها أفلاطون بالديمقراطية السيئة بمعنى إذا تمكن أي شخص من أن يوجه حديثه للناس ويقول ما يريد فليس هو بالضرورة "باريستسا". فهذا النوع من الباريسيا لا نجده في نصوص الكلاسيكية القديمة لكننا غالبا ما نجد فقط الباريسيا الإجابية. فالباريستس ليس صادقا فحسب ويعبر عما هو مقتنع به وإنما متأكد من قوله للحقيقة ومن صحة رأيه. وما يميز الباريسيا عن أنواع الخطابة هو أن هناك دائما توافق دقيق بين الإقناع والحقيقة. أما الشروط التي يجب أن تتوفر في الباريستس فهي ميزاته الأخلاقية؛ فيكون، بذلك، له الحق للوصول إلى الحقيقة والتكلم عنها وإيصالها للآخرين لتوعيتهم وحثهم على أعمال حميدة تصب في صالحهم وفي صالح بلدهم. الفيلسوف مثلا ينتقد الطاغية وهو يعرف جيدا أنه، على الأقل، سينفى أو يعدم لكنه مع هذا يجد في نفسه الشجاعة ويعتبر قوله للحقيقة واجبا يؤديه للمصلحة العامة والأهم في ذلك أنه غير مجبر على فعل ذلك. وهذا ما حدث مع أفلاطون الذي واجه الطاغية دنيس سسيليا بأعماله لذلك غضب منه وحكم عليه بالعبودية. كانت الباريسيا تعتبر ثاني ركائز الديمقراطية في أثينا. فهي مفهوم سياسي. وتعمل من الأسفل إلى الأعلى ومن الداخل إل الخارج أي يواجه الباريستس الشخصية الأعلى مرتبة منه بما يدور في داخله. أما الركيزة الأولى فهي إسيغوريا وتعني حرية التعبير. لكن الباريسيا الحقيقية اختفت من أيامنا هذه. ويحاول فوكو إحياءها والاستماع إلى دقات نواتها. إن الباريسيا تؤثر، في نفس الوقت، على الذي يمارسها وكذلك على الذي تُمارس عليه. تغضب، نعم، لكنها وسيلة كل واحد منا للوصول إلى حقيقته وبمعنى أدق إلى نفسه. فهي" قلق الشخص على نفسه" أو هوس الذات. فما يوضحه فوكو هنا هو دراسة وتحليل" الرسالة السابعة "و"أ بولوجيا" سقراط و"ألسبياد" أفلاطون. إن قلق الشخص على نفسه وقلقه على الآخرين هما وجهان لضرورة واحدة تكمن في وصول كل منا إلى أعماق نفسه والاعتناء بها بحيث يمكن للشخص تغيير حياته وطريقة عيشه وحتى نفسه. كيف أستطاع سقراط أن يقول الحقيقة لسكان أثينا بحيث عرَض نفسه للموت؟ الجواب :" لكي يحثهم على الاعتناء بأنفسهم، ليس بثرواتهم ولا بسمعتهم ولكن باهتمامهم أولا بأنفسهم، وبمعنى أخر، بحكمتهم، وبالحقيقة، وبروحهم. فأن يهتموا بأنفسهم فهذا أساسي جدا." من المهم أن نقارن هنا بين مفهوم الباريسيا والمفهوم الديكارتي الحديث. فديكارت يعتمد على البرهان الذي يستنتجه عن طريق التجربة لكي يصل إلى الحقيقة، لكن هذا لا يعني أنه متأكد مما يعتقده في الواقع صحيحا ويمثل الحقيقة، عكس الباريستس الذي لن يساوره الشك أبدا فيما سيقول. يبني فوكو، في المحاضرات التي ألقاها عام 1984، شخصية فلسفية يجد نفسه فيها: بعد إعادة قراءة المفكرين اليونانيين القدامى وتحليل مفهوم الباريسيا والتحكم في النفس والاهتمام والاعتناء بها فهو يؤكد تسجيل نفسه في الحداثة الفلسفية؛ ويطرح إشكالية وظيفته ويحدد طريقة تفكيره ووجوده. ما يفهمه فوكو وديميريل من عبارة سقراط الأخيرة والشهيرة لِكْريتون ؛إعطاء قربانا لإسقلابيوس (إله الطب لدى القدامى)، هو إحساس عميق بالعرفان للفلسفة التي تشفي من الأمراض الخطيرة: مرض الآراء الخاطئة والأحكام المسبقة. فما يشغل فوكو هو مسائلة وظيفة "قول الحقيقة" في السياسة حتى يتسنى لنا أن نضع عددا من الشروط الأخلاقية للقواعد الأساسية للتوافق ما بين: شجاعة قول الحقيقة والإقناع. "كما أننا لا يمكننا أن نثبت لبنات الحقيقة دون الأخذ بالاعتبار الوضعية الرئيسة للغيرية. الحقيقة، ليست هي دائما هي نفسها. لا يمكن أن توجد حقيقة إلا في عالم الآخر والحياة الأخرى."حسب قول فوكو. لم تكن آخر محاضرة لميشيل فوكو، التي ألقاها، في كوليج دو فرنس، قبل أشهر من وفاته يوم 25 حزيران (يونيو) 1984، وثيقة تاريخية فحسب وإنما أيضا مثلا مدهشا لما حاول الفيلسوف التفكير به وهو "شجاعة قول الحقيقة". فوكو يعرض في هذه المحاضرة سيرورة "قول الحقيقة، الصراحة" من أيام الإغريق-الرومان ويربطها بما يجري بأيامنا هذه. عن طريق الباريسيا، يوظف المتحدث حريته ويختار الشجاعة بدلا من القناعات، الحقيقة بدلا من الكذب و التزام الصمت، المخاطرة بحياته بدلا من حياة آمنة، النقد بدلا من المجاملة والواجب الأخلاقي بدلا من المصلحة الخاصة. وكان سقراط أول من استعمل هذه الطريقة. يبدو، حاليا، أن هذا النوع من الخطاب أصبح معزولا مقابل أنواع أخرى من الخطابات: كالخطاب العلمي الذي يحدد أشكال قول الحقيقة، الخطاب السياسي الذي يطرح تساؤلات حول بُنية النظام السياسي وخطاب المواعظ الذي يحدد أصول السلوك. حرص ميشيل فوكو، بعد تعيينه بروفسورا لكي يشغل كرسي " تاريخ أنظمة الفكر" بكوليج دو فرانس ابتداءً من12 نيسان (أبريل) 1970 إلى يوم وفاته عام 1984، على نشر ملخصات محاضراته لكل سنة دراسية. لكن بسبب مشاكله الصحية، لم يستطع ذلك في السنوات الأخيرة من حياته. وقد صدر له،عام 2004، كتاب باللغة الهولندية يحمل اسمه بعنوان "الباريسيا، شجاعة قول الحقيقة" وهو في الأصل ترجمة لستة محاضرات مُسجَلة ألقاها الكاتب والفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية في خريف 1983. وصدر له كذلك،عام2008، مجلدان باللغة الفرنسية تحت عنوان " التحكم في النفس وفي الآخر"(الجزء الأول) و" التحكم في النفس وفي الآخر: شجاعة قول الحقيقة"(الجزء الثاني) عن دار النشر كاليمار. حررت من قبل فرانسو إوالد وألساندرو فونتانا. وهي محاضرات ألقيت من قبل فوكو في كوليج دو فرانس ما بين عامي 1982 و1984. إن نشر هذه المحاضرات التي لا غنى لنا عنها والتي أصبحت متوفرة شيئا فشيئا تمكننا من الوصول إلى الفكرة الفوكولدية التي ما زالت حية وبقوة.
#نجاة_تميم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
Aimé Césaire شاعر الزَنْوجة
-
كلود ليفي-شتراوس وعيد ميلاده المائة
-
الغيرية في رواية المتجول للكاتب الهولندي أدريان فان ديس
-
جائزة- الكونكور- الفرنسية و الميثولوجيا الفارسية
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|