|
عن الأسرة والكراسي
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 2643 - 2009 / 5 / 11 - 05:43
المحور:
الادب والفن
ان تخلص الفن من فكرة المحاكاة الموروثة من الثقافة اليونانية، رغم كون ذلك خطوة جبارة في تطوير الفنون وتقدمها، غير ان ذلك أدى في نفس الوقت إلى سقوط الفن في غياهب ظلمة فكرية، وأدى إلى خلق سلطة جديدة لا حدود لها، ومنحها لمفسري الفن وشيوخه، وأدى خلق هذه السلطة الفنية، والمكونة من النقاد الفنيين والمثقفين والفنانين انفسهم، بالاضافة إلى اصحاب صالات العرض ومديري المتاحف والمسئولين السياسيين عن الثقافة، إلى خلق هوة عميقة بين الفن والحياة وبين الفن والمشاهد العادي اللذي لم يستطع ان يتجاوز مرحلة المحاكاة ولم يستطع - حسب نظرة هؤلاء النقاد- الوصول إلى اسرار الفنومعناه العميق. فنلاحظ هذه النظرة الغيبية للفن بوضوح اكثر حدة، فيما يتعلق بالفن التشكيلي، حيث نشاهد ظواهر غريبة في مجال النقد، أذ يتكلم النافد احيانا مثل (العرافين)، الذين يتنبأون بما يخبئه المستقبل، فيفسرون معنى الألوان والأشكال، ويجعلون (اللوحة) تنطق وتبوح بسرها كما يفعل المشعوذون الذين يحركون الطاولات، ويجعلونها تتحاور مع البشر بأية لغة يشاءون. ذلك ان اغلب النقاد يعتبرون الفن لغة يجب اكتشاف وتحليل شفرتها، وترجمتها إلى لغة الكلمات، أو في احسن الأحوال يجعلونها رموزا يجب تحليلها مثل الأحلام، ويستعملون في ذلك ادوات الإنشاء الفرويدية وغيره من مفسري النفس البشرية وابداعاتها. ونحن نعرف اليوم ـ ونستطيع ان نؤكد ـ بأنه لا يوجد وراء (اللوحة) سوى الحائط الذي يسندها، وكل ماعدا ذلك هو من السحر والشعوذة الفكرية، والتي لا تقود إلا إلى المزيد من التعمية، وتعميق الهوة ـ العميقة أصلا ـ بين المشاهد والفن، واغراقه في الخطأ الأساسي، وهو محاولة ايجاد الرسالة المخبأة وراء الألوان والخطوط. وبهذا القول لا نعني انه لا يوجد أي معنى او رمز لأية لوحة او أي عمل من الأعمال الفنية، بل نعني بان هذا المعنى او الرمز ـ إذا وجد ـ فإنه ليس له علاقة مباشرة، او داخلية بالعمل الفني.إنه بناء وتركيب بعدي، وليس من خصائص العمل الفني جوهريا، إنه يتعلق باللوحة وبالمشاهد معا، انه مجرد (علاقة) او اضافة ثقافية اجتماعية، تلتصق بالعمل الفني من الخارج، كعنوان اللوحة، وسعرها، وتاريخها، وتوقيع الرسام، الخ. إن الفنان حين يبدأ في رسم لوحته، لايضع خطة جهنمية لإخفاء مايريد قوله، إنه لا يرسم اسرارا، إنه فقط يقوم بعمله حسب احاسيسه، وقواعده، وقوانينه الداخلية، وحسب المعطيات المادية المتاحة امامه، ولا يستطيع هو ذاته تنظير عمله علميا بطريقة لغوية. إنه لا يستطيع ان يتجاوز حدود اللغة، كما لا يستطيع ان يتجاوز حدود اللوحة. فاللغة حدودها المعنى، بينما الرسم والفن عموما، هو مسرح الخيال، أو المخيلة. وهذا لا يعني عدم وجود الخيال في الكتابة مثلا، غير ان الوسيلة المستعملة لفتح لوحة ما، غير الوسيلة المستعملة لفتح رواية او قصيدة شعرية. المفتاح يختلف اختلافا جوهريا، ولا نستطيع حتى ولو كنا سحرة، ان نفتح عملا فنيا كاللوحة، بمفتاح اللغة، ولا ان نفتح قصيدة شعرية، بمفتاح الخيال ـ الكلمات تمنعنا من ذلك، رغم وجود بعض التجارب المعاصره التي تحاول ان تتجه في هذا الاتجاه، حيث تستعمل الكلمات كأشكال بصرية، وتحاول التخلص من المعنى قدر الإمكان، و تجارب الشعر الصوتي والشعر البصري تنحو هذا الاتجاه دون نجاح كبير، لسبب تقني بسيط، هو عدم قدرة هذه التيارات التخلص من فكرة الكتاب كوسيلة لنشر هذا النوع من الشعر. إن السؤال المطروح الذي يقود في اغلب الأحيان إلى محاولة التفسير للفن، أو للعمل الفني. جوهر الفن هو (ما هو الشيء الذي يجعل من شيء ما عملا فنيا ؟). وفي تاريخ العالم منذ البداية، آلاف المفكرين والفنانين والشعراء والشيوخ، الخ. حاولوا الإجابة على هذا السؤال كل بطريقته وحسب معتقداته الشخصية. وفي النهاية، كانت كل الاجابات لها نفس الدرجة من الحقيقة، نظرا لعدم وجود منهج او طريقة واضحة للاجابة، أو حتى لطرح مثل هذه الاسئلة. الشاعر ماياكوفسكي يقول في احدى قصائده لاأحب الورود، لأنني لست أنا الذي خلقتها. فالشاعر الخلاق ـ على ما يبدوـ لايحب الطبيعة، لأن الطبيعة ـ حتى عند أرسطوـ كانت تقابل، أو تضاد الفن. لأن الطبيعة هي الشيء الذي يوجد بداخله مبدأ الحركة، أما الفن فهو الشيء المخلوق الذي يكون فيه مبدأ الحركة من الخارج وليس من الذات. غير انه في العصر الحديث، اصبحت كلمة فن ( 1 ) ليست مضادة للطبيعة، وانما للصناعة والتقنية ( 2 )، أي للآلية الخاضعة لقوانين المادة الصرفة. ففكرة الخلق إذاً ، لم تعد كافية لتعريف العمل الفني، سواء كان لوحة، او قطعة فنية، اوشعرية او موسيقية أو مسرحية او رواية الخ. ذلك ان الانسان الذي يخلق كرسيا او طاولة او سيارة او صاروخا أو أي شيء آخر من هذا النوع، فإنه لن يكون بذلك قد خلق عملا فنيا، انه لن يكون اكثر من خباز او مهندس او عامل، مهما كان هذا العمل معبرا عن نفسية هذا الانسان او مناسبا له ـ رغم علمنا بعدم امكانية هذا التعبير في العالم الرسمالي ـ ففكرة الخلق أو الابداع لا يمكن لوحدها ان تكون كافية لتعريف العمل الفني وتحديد هويته. وهناك ايضا الفكرة السائدة في المجال الفني، بأن العمل الفني لا يجب ان تكون له غاية محددة ومفيدة عمليا( 3 ). بمعنى ان اللوحة ليس لها وظيفة اخرى سوى كونها لوحة. غير انه من الصعب اليوم تقبل هذه الفكرة، ونسيان ان العمل الفني له وظيفة وفائدة وغاية اقتصادية واجتماعية، باعتبار العمل الفني انتاجا وبضاعة وسلعة تجارية، لا تختلف عن الطماطم، أو البصل، لها اسواقها واسعارها وسماسرتها، وتخضع لقانون العرض والطلب، وغيره من قوانين السوق. كما انه يمكن ان نذكر ان الاشباع النفسي او الروحي للفنان ذاته، ولمشاهد اللوحة، حيث ان الاحاسيس الجمالية، والمتعة البصرية ـ رغم خضوعها لقوانين الذاتية، وعدم قدرتناعلى قياسها وتقييمها ـ فان وجودها ليس محلا للشك، مما دفع بعض الفلاسفة والنقاد منذ القدم، إلى ايجاد العلاقة بين الفن والجمال ـ فالفن كل ما هو جميل، ويبعث في الانسان الشعور بهذا الجمال ـ. غير ان هذا المقياس لم يعد كافيا اليوم، حتى لوافترضنا كفايته في الماضي. حيث ان عنصر الجمال قد اختلط بكافة تفاصيل المنتوجات الصناعية، وحتى بالنظام السياسي والاجتماعي ذاته. كل الاشياء والادوات التي تحيط بنا في جميع اركان الحياة المعاصرة، من السيارة إلى الملابس إلى اجهزة الاتصالات المختلفة، من فرشة الاسنان وعلبة السجائر، يتم التفكير فيه بطريقة جمالية معينة، لها قوانينها وموضاتها المختلفة حسب الزمان والمكان، بالاضافة إلى ان فكرة الجمال تنطبق أيضا على الطبيعة ـ المناظر الجميلة ـ مثل البحر والجبل ومختلف الالوان والاشكال التي نجدها في الطبيعة، والتي تثير فينا نفس الاحساس بالروعة او الرهبة او الدهشة الخ. وهو ماعبر عنه شيلينغ ( 4 ) في كتابه فلسفة الفن بقوله الله وحده هو الفنان. ماهي اذا هذه الخاصية العجيبة التي تجعل من عمل انساني ما… عملا فنيا. وتضفي عليه هذه الصفة التي تبعث في نفس المشاهد او السامع الاحساس بانه امام ظاهرة فنية ؟ من المفارقات المدهشة في تاريخ الفلسفة والفن، انه للحصول على اجابات واضحة، يجب في كثير من الأحيان الرجوع إلى الفلسفة اليونانية ذاتها، حيث وضعت في الغالب كل الاسئلة الممكن طرحها، والتي طرحت فيما بعد طوال مئات السنين. افلاطون طرح هذا السؤال، ورغم ان جوابه لا يفيدنا كثيرا في هذه اللحظة، غير انه اشار إلى الطريق التي تؤدي إلى الاجابة الصحيحة. فافلاطون في جمهوريته انتقد الفنانين عموما، والشعراء بالذات، موضحا ان العمل الفني يتميز بكونه وهما، وليس حقيقة. بمعنى ان العمل الفني يتميز بكونه خياليا وليس حقيقيا، أي عدم وجوده نهائيا. ويضرب مثلا في الجزء العاشر من كتاب الجمهورية، ليشرح الفرق بين الفني، والعمل غير الفني، ( مثال السرير). فيفرق بين فكرة السرير- والذي يسميه السرير الحقيقي-، والتي تمثل جوهر السرير ذاته، ثم السرير العادي الذي نعرفه، والذي يصنعه النجاراو العامل حسب المواصفات والاحتياجات الانسانية والمادية للسرير، وهو سرير معين محدد له مقاييسه الخاصة، وله وظيفة معينة في استعماله اليومي، ثم السرير الثالث، والذي هو مجرد صورة رسمها الفنان لهذا السرير المعين. وهو يقول بان الفنان لا يحتاج إلى أية معرفة خاصة تتعلق السرير، وتكفي عدة خطوط والوان وظلال لتوحي بفكرة السرير. غير ان هذا السرير الثالث لا علاقة له بالسرير الحقيقي كفكرة، أو كمثال متعال، ولا بالسرير الثاني المحدد الذي خلقه الصانع أو العامل، بل هو مجرد محاكاة لهذا السرير الثاني، مجرد صورة وهمية تعتمد على فكرة المحاكاة ( 5 ) للطبيعة. غير انها لا يمكن ان تصل إلى محاكاة حقيقية مهما حاول الفنان ان يبدع، وممهما كانت وسائله وامكانياته متقدمة. لذلك فإن هذا السرير ـ الفني- مجرد خدعة. والفنانون عموما مجرد كذابين على الجماهير. وسقراط يذهب ابعد من ذلك في سخريته من الفنانين الذين يريدون محاكاة الواقع، فيقول بانه ليس هناك داع لاستعمال الخطوط والالوان، إذ يكفي ان نمسك بمرآة ونوجهها حسب رغبتنا مقابل الاشياء التي نريد محاكاتها، وللتو تظهر في المرآة الاشجار والبيوت والاشخاص والوجوه التي نريد اظهارها. وكل انسان يستطيع ان يفعل ذلك. فمحاكاة الطبيعة هي مجرد لعبة صبيانية لا نحتاج اليها. إفلاطون اذاً حكم حكما نهائيا بتفاهة الفن وعدم الحاجة إليه في مدينته الفاضلة، وكان نقده موجها بالذات إلى الشعراء اليونانيين في ذلك الوقت ـ هوميروس بالذات ـ والذي اراد طرده من مجتمعه المثالي لخطورته على الناس، لأنه يكذب عليهم، ويقدم لهم معلومات خاطئة. ونيتشه في كتابه عن ميلاد التراجيديا، يعتقد بأن افلاطون كان يحس بالغيرة من شعبية الشعراء التراجيديين الذين كان لهم جمهور واسع يتعدى بكثير جمهور المهتمين بالفلسفة. ورغم ذلك فإن نيتشه يقول في هكذا تحدث زرادشت ما يناقض هذا القول تماما، فيقرر ولكن إذا قال الانسان بكل جدية ان الشعراء يكذبون، فإنه يقول حقا، لأننا نحن الشعراء نكذب كثيرا، ولابد لنا من الكذب، ما دام ما نجده من العلم قليل. ثم يواصل في نفس القصيدة قائلا لقد اتعبني الشعراء، الأقدمون منهم والمجددون، فما هم في نظري إلا رغوة لا صريح تحتها، بل هم انهار جفت مياهها. إن افكارهم لم نتفد إلى الاغوار، وقد توقف شعورهم عند اول جرفها، وخير ما ترى في تأملاتهم، قليل من الشهوة، وقليل من الضجر، وليست بحورهم سوى مجالات تنزلق على تفاعيلها الأشباح … إن نيتشة قد عودنا على ان يقول شيئا، ثم نقيضه في اليوم التالي، وهي ميزة الفلاسفة الشعراء، أو الشعراء الفلاسفة. غير ان رأيه لا يختلف عن رأي افلاطون، ولا عن الرأي الديني السائد عموما منذ القدم في العالم الاسلامي، حيث ان تحريم التصوير في الاسلام، والذي توضح منذ عهد المتوكل العباسي، ويعتمد أساسا على عدة احاديث يؤكد النوري صحتها، ومنها قول محمد لزوجته عائشة يعذب المصورون يوم القيامة، ويرى ابو علي القاري ان هذا الحديث يتجه إلى منع تصوير الله تصوير الاجساد، وان الحديث يجب فهمه على هذا النحو يعذب المصورون الذين يصورون الله تصوير الاجساد. غير ان هذا التحريم قد لعب دورا كبيرا في عدم الاهتمام بالتصوير التشبيهي، والانصراف كلية إلى الفن التجريدي. غير ان هذا التحريم ـ مهما كانت اسبابه ـ لا يرتكز على اية فكرة فلسفية، وانما يرتكز اساسا على تحريم عمل ـ الخلق ـ على الانسان. لأن الله وحده هو الخالق، وهي فكرة دينية محضة، ولا مجال للنقاش فيها. بينما افلاطون حاول بطريقة عقلية ان يحدد بوضوح بان العمل الفني هو عمل خيالي، ولهذا السبب فهو غير متفق مع واقع الاشياء، وانه يضيع البشر في متاهات وهمية مضرة بالمجتمع. وربط الفن بالخيال، تبقى على العموم فكرة تحتاج إلى المزيد من النقاش والتحليل، خاصة وان الكثير من الفنانين يرفضون هذه الفكرة حاليا، وذلك منذ ظهورما يمكن تسميته بالفن النظري او الفكري او التصوري ( 6 )، والذي يهتم بالتصورات الفنية، اكثر من اهتمامه بالصور الفنية. مارسيل دوشان ( 7 )، حين وضع مرحاضه المشهور باسم النافورة فونتين في صالون الفن الحديث بنيويورك في سنة 1917، ورغم رفض لجنة الصالون لهذا العمل، غير ان دوشان كان قد فتح عصرا جديدا في الفن المعاصر، بمقولة ( 8 ) او المصنوع الجاهز. وهي فكرة تحاول التخلص من نظرية المحاكاة ( 9 )، وذلك بوضع الشيء ذاته وليس صورته في الصالون او المعرض او المتحف الخ. غير ان هذا العمل رغم اهميته التاريخية، لم يقدم خدمة كبيرة للفن، ولم يقدم حلا للمشكلة القائمة ـ تعريف العمل الفني ـ ذلك ان هذا العمل لم يكن نابعا عن تغيير جذري في مفهوم الفن، بقدر ماكان رغبة ملحة فرضها تطور السوق الراسمالي ذاته. وذلك للتغيير وتقديم بضاعة جديدة، ذلك ان العمل الفني المختلف في الشكل عن الاعمال السابقة، لا يعد في ذاته تغييرا جوهريا، ولا ثورة فنية، وانما التجديدي يتمثل في تحطيم القواعد والاسس المبني عليها هذا المنظور الفني، وذلك ما ادركه كما يبدو شاعر كالبياتي حين يقول ان التجديد في الشعر ليس ثورة على العروض والاوزان والقوافي كما خيل للبعض، بقدر ما هو ثورة في التعبير. إذن السؤال الافلاطوني ما يزال مطروحا بدون اجابة حقيقية. حين نسأل احد النقاد الفنيين اليوم، عن الفرق بين التفاحة الحقيقية وصورة التفاحة، فانه يجيبنا بكل بساطة عليك ان تقضمها لتعرف الفرق، متجاهلا او ناسيا بأن أي انسان حين يقضم التفاحة، فانه يعرف قبليا بانها تفاحة حقيقية، وان التجارب العلمية والانثروبولوجية والنفسية اثبتت بما لا يدع مجالا للشك، بان أي انسان مهما كانت ثقافته، يستطيع ان يميز بطريقة واضحة وقبلية، بين الشيء وصورته، مهما كانت هذه الصورة مشابهة. وحتى بعض الحيوانات تستطيع ان تفرق بين الشيء الحقيقي وبين صورته في المرآة. وهذا ما دفع الفنان الامريكي جوزيف كوسوت ( 10) للعودة إلى فكرة افلاطون، وقام بعرض عمل فني يعتبره بعض النقاد اهم عمل فني في القرن العشرين، وهو العمل المسمى واحد وثلاثة كراسي ( 11 ) عام 1965، وهو بداية عمل فكري اراد به ان يوضح او يشرح الفكرة الاساسية الافلاطونية، حيث عرض كرسي خشبي حقيقي وبجانبه صورة الكرسي ذاته، ثم صورة اخرى مكبرة لتعريف الكرسي في القاموس. ونستطيع ان نلاحظ بطبيعة الحال ان الفرق بين اسرٌة افلاطون الثلاثة، وكراسي كوسوت، هو ان السرير المثالي الافلاطوني هو الفكرة، أي فكرة السرير في ذهن الاله، تسبح في الفضاء، بينما كوسوت يضع مكان الفكرة المثالية تعريف القاموس اللغوي لكلمة كرسي ( 12 ). وبذلك وضع كوسوت المشكلة في اطار جديد، لأنه يدخل عنصر اللغة كبديل للمثل الافلاطونية، والتي لها نتائج مختلفة كل الاختلاف فيما يخص مشكلة الادراك الحسي واللغوي والخيالي. وإذا كان لكوسوت اية اهمية في تاريخ الفن المعاصر، فان اهميته ناتجة عن هذه المحاولة الجريئة لتصوير الفكرة الفلسفية الافلاطونية. ووضعه في مكان واحد التساؤل الأول عن الفرق بين الوعي المدرك والوعي الخيالي، والوعي اللغوي الوعي المتعلق بالمعني. رغم ان محاولة كوسوت فكريا تظل محدودة لعدم تمكنه من الوصول إلى شرح هذه المستويات المختلفة للادراك. ففي النص المرافق لهذا العمل، يكتفي بالقول بأن هذا العمل لا يستهدف المخيلة، وانما هو لعبة فلسفية للمشاهد، وظل النص مجرد نص شعري لا يضيف شيئا، رغم احتواء العمل ذاته على امكانيات كبيرة للوصول الى تحليل علمي لمستويات الوعي المختلفة. ويكتفي كوسوت بهذه الفكرة المسطحة فكرة الفن، والفن هما شيء واحد. ويعود بنا الفنان المعاصر إلى مئات السنين الى الوراء، وكأن كل تقدم فكري منذ افلاطون حتى اليوم، لم يكن له أي وجود يذكر. وليس المجال هنا للدخول في التفاصيل الفلسفية التي تجعل هذه الفكرة خاطئة او رجعية، وانما لابد ان نعاود التركيزعلى انه قبل محاولة معاينة العمل الفني، وما يميزه عن العمل الانساني عامة، ان نطرح مشكلة الصورة كمشكلة فلسفية ونفسية، لا نستطيع التغاضي عن ايجاد الحلول لها. خاصة ونحن نعيش اليوم في بداية القرن الواحد والعشرين، وهوعصر تحتل فيه الصورة مكان الصدارة في جميع جوانب الحياة اليومية، سياسيا وفنيا واجتماعيا، كالمجلات والسينما والكتب والتلفزيون والفيديو والمسرح والتصوير والاعلان الخ. الصورة اليوم هي البديل عن الواقع وعن وجوده المادي. ولابد ان هذا التضخم الصوري يؤثر بطريقة او باخرى على ادراكنا الحسي، ويغير في طريقتنا في رؤية العالم والاحساس به والتعامل معه. لابد لنا من التساؤل عن الفرق بين الكرسي الخشبي المادي، وبين صورة هذا الكرسي، وكذلك عن الفرق بين هذين الكرسيين وبين كلمة كرسي. رغم ان هدف هذا المقال ليس التساؤل لمجرد التساؤل، وانما محاولة ايجاد مميزات العمل الفني، والذي نعتقد في النهاية بانه مجرد صورة (13 ) لااكثر ولا اقل من ذلك. وان ميزة هذه الصورة هو عدم وجوديتها. فهذا العدم الذي ينخر العمل الفني من الداخل هو الصفة الاساسية والجوهرية التي تجعل منه عملا فنيا. رغم ان اللوحة او القطعة الشعرية او الموسيقية لها وجود مادي حقيقي يرتكز عليه العمل الفني ذاته، غير ان اللوحة بصفاتها المادية ـ الكادر ـ الالوان ـ القماش ..الخ. لاتشكل العمل الفني في جوهره. انها المواصفات المادية التي تسمح للعمل الفني بالظهور في لحظة معينة، لحظة التقائه بعين المشاهد، او باذن المستمع، والذي يخلق في تلك اللحظة العمل الفني ويعطيه وجوده. غير انه يخلقه بطريقة عدمية بالنسبة لقوانين الوجود المادية. يخلقه بطريقة غامضة. انه نوع من الوعي السلبي ـ الوعي الخاص الذي يخلق عالما خاصا خياليا منفصلا ومتعاليا عن العالم الحقيقي، وبمجرد ان يقفل المشاهد عينيه، يختفي هذا المحتوى الفني، وتعود اللوحة إلى شيئيتها المادية، وتغوص في صمتها وعزلتها الأبدية كشيء
1- Art
2- Technique
3- Inutile
4- Schelling
5- Mimèsis
6- Conceptual Art
7- Marcel Duchamp
8- Ready Made
9- Mimèsis
10- Joseph Kosuth
11- One and Three Chairs
12- Chair
13- Image
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طبيعة الكارثة
-
مناورات لفك الحصا ر
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|