|
العلمانية بين الفهم الفلسفي والواقع التاريخي
احسان حمدي العطار
الحوار المتمدن-العدد: 2628 - 2009 / 4 / 26 - 10:00
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
حينما يكون هناك تباين حضاري واسع بين حضارات متجاورة : متحاورة كانت ام متصارعة فأن هناك سلطة تفرضها الحضارة القوية على الاخرى الضعيفة مما يجعل العلاقة على مختلف مستوياتها رهن توازنات القوى والعاب السلطة التي تفرضها حيثيات التباين . وبالتأكيد تكون الحضارات القوية اكثر قابلية على اجتراح الامكانات والحلول العملية لمختلف المشاكل التي تواجهها سواء بالاستعانة بتراثها الفكري واعادة احيائه وتجديده او الاستعانة بتاريخ الامم الاخرى ومنتجاتها دون التخوف من طغيان تلك المنتجات على واقعها لانها اكثر تقبلا للجديد وقدرة على هضمه ضمن وجدانها الذي يتطور بفعل عملية الهضم المتميزة هذه . ومن ابرز هذه الامثلة الحضارة العربية في عصورها المزدهرة حينما استقبلت منتجات الفكر اليوناني واستطاعت ترجمته وجعله عنصر قوة لا ضعف ( مع الاشارة الى ان المشاكل التي واجهت حركة الترجمة لم تنتج من خوف حضاري بقدر ما كانت تنبع من واقع ان الحضارة الاسلامية هي حضارة دينية والمعروف ان العقائد الدينية تكون اقل قابلية للتواصل مع الاخر نتيجة لطبيعتها المحتكرة للحقيقة المعرفية). مع حركة النهضة التي بدأت في مصر وانتشرت عربيا بدأت عملية الترجمة الثانية ولكن مع اختلاف في ميزان القوى مئة وثمانين درجة لصالح الاخر عن مرحلة الترجمة الاولى وهنا بدأت مشكلة العلاقة مع المفاهيم والفلسفات التي غزت العالم العربي بين التبعية والاستقلال , بين القدرة والضعف , بين الماضي والحاضر . وبين تلك الافكار برزت الديمقراطية والعقلانية والحرية والاشتراكية والإنسانية ولكن يمكن وضع جميع المصطلحات والافكار في خانة ومصطلح العلمانية في خانة اخرى لعدة اسباب : اهمها علاقة هذا المصطلح بالدين خاصة مع طبيعة الحضارة الاسلامية القائمة على الدين والمتميزة به والتي اثارت مشاكل جمة في حركة الترجمة الاولى حينما كنا في موقف قوة فكيف ونحن بموقف الضعف . مع وجود مثل هذه الدعوات العلمانية فهي مرفوضة من الواقع الإسلامي من جانبين : الأول : لأنها صادرة عن منافس حضاري : الثاني لكون فكرة العلمانية ( أو كما تصور الفكرة في فضائها الغربي ) بالضد من الدين أو من تسييس الدين . إن الحل برأيي لهذا المشكل هو طرح الإشكال بصورة صحيحة فليس الإشكال في هذا المصطلح أو ذاك أو أي المنتجات التي يعرضها الغرب نختار أو أي المناهج نطبق بقدر ما يجب أن نطرح تساؤلات عن الكيفية التي بها ننقل تلك المناهج والمصطلحات من واقعها الغربي إلى الواقع العربي دون حدوث عملية تسقيط تطيح بالفكرة أو تضر الواقع . من هنا أنا على وفاق تام مع فكرة طه عبد الرحمن التي طرحها في مشروعه ( فقه الفلسفة) أو في كتابه ( روح الحداثة ) والذي يفرق فيه بين واقع الحداثة وروح الحداثة ؛ فواقع الحداثة لايمكن تكراره أما الروح فيمكن أن تتجسد في واقع تاريخي مختلف كالواقع الإسلامي مثلا ( مع اختلافي الكبير مع تطبيقاته الفلسفية في ترجمة الكوجيتو الديكارتي اوفي تحديده لواقع الحداثة وروحها(. لذلك افرق بين رؤيتين للعلمانية الأولى: ضيقة مكبلة لروح العلمانية مستوحاة من واقع تطور الفكرة في الغرب . أما الثانية :فهي منفتحة موسعة قائمة على رؤية فلسفية للعالم ومكانة الإنسان فيه . لنطلع على كتاب محمد عابد الجابري الدين والدولة وتطبيق الشريعة ) ورؤية الجابري للعلمانية ومدى مقاربة رؤيته لروح العلمانية دون التأثر بتاريخ تطور الفكرة والوقوع في شرك سوء الفهم والانغلاق بدل الانفتاح والعلاقة السوية مع هذه الفكرة . يبدأ الجابري من تاريخ الفكرة في فضائها الغربي القادم من كلمة ( لايك ) والمشتقة من اللايكوس والذي يمثل الشعب بمقابل كليروس أي رجال الدين أو الكهنوت . إذن الفكرة أي ( اللايكية ) هي فكرة مرتبطة بوضعية خاصة وهي الوضعية التي تتولى بها مؤسسة معينة السلطة الروحية ومن هنا فهي تقوم ببناء سلطة داخل سلطة سرعان ما تتحول هذه السلطة إلى سلطة أحادية باعتبارها سلطة الله على أرضه والرابط بين الإنسان والله .أما في الإسلام فينفي الجابري وجود مثل هذا الرابط بل إن علاقة الإنسان بربه علاقة خاصة لا وجود ثالث بينهما ،من هنا يقول :إن مسألة العلمانية في العالم العربي هي مسألة مزيفة غير منسجمة مع الواقع الإسلامي فكأنما العلمانيين استوردوا المشكلة والحل . نلاحظ من هذه القراءة إنها تميل إلى تاريخ المفهوم اوعلاقة مفهوم العلمانية بالواقع الغربي لا المفهوم نفسه ومن هنا حصل الخلط لدى الجابري بين واقع العلمانية وروحها بل إن هذا الخلط قبل أن يقع به رافضو العلمانية وقع به مؤيدوها فرفعوا شعارات العلمانية دون أن يفهموا العلمانية كفلسفة . بمقابل هذا الخلط لدى اغلب المفكرين العرب وقع بين يدي واحد من الكتب الذي أثار إعجابي بقدرته على تبيان أخطاء القراءات العربية للعلمانية والوصول إلى روح العلمانية أي الوصول إلى المفهوم الفلسفي والمحتوى المنطقي للفكرة . والكتاب هو ( الأسس الفلسفية للعلمانية -دار الساقي ) للمفكر الأردني عادل ظاهر . ويؤشر ظاهر عدة أخطاء في علاقة مفكرينا بالعلمانية . الخطأ الأول : عدم التفريق بين العلمانية ( بكسر العين ) والذي يشير إلى العلم والمنادين بالنزعة العلموية والذين يتبنون النزعة الوضعية التي لا تعترف بإمكان المعرفة الميتافيزيقية أو الدينية أو الخلقية لان العقل غير قادر على كنهها . أما العلمانية ( بفتح العين ) فهي مشتقة من العالم أي من مكانة الإنسان في العالم والتأكيد على استقلالية الإنسان والعقل الإنساني وقدرته على معرفة مايجب عمله دون الاستعانة بمصدر أخر خارجي . الخطأ الثاني : فهم العلمانية بأغراضها والتي حاولت الحركة العلمانية الغربية تحقيقها ( كما لاحظنا مع الجابري مثلا ) وليس من خلال الفهم الفلسفي . الخطأ الثالث : الخلط بين ظواهر العلمانية والسمات الجوهرية لها. فالظواهر والإغراض والأهداف كلها مشتقات ثانوية من النواة السيمانتية الجوهرية للعلمانية . لنأخذ كمثال على هذا اعتبار الجابري إن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة أو فصل اللاهوت عن الناسوت وبما إن لا لاهوت في الإسلام إذن لاعلمانية . بينما العلمانية هي رفض سيطرة أي قوة على الإنسان وفرض أيديولوجيتها عليه ووضع حواجزامام استقلالية الانسان . ونعود إلى عادل ظاهر الذي يعرف استقلالية الإنسان على إنها الحق في تقرير الغايات والوسائل أي ماينبغي أن يكون وكيف يمكن تحقيق ما ينبغي أن يكون . وبما إن التيارات الإسلامية تقول إن الأسبقية للنقل لا العقل في تقرير الغايات والوسائل فهي فرضت على العقل قيودا وحدودا وهنا تنبع حاجة العلمانية أي الحفاظ على استقلالية العقل . لذلك يفرق ظاهر بين علمانيتين الأولى العلمانية اللينة تلك التي تنبع رؤيتها من اعتبارات تاريخية أو سوسيولوجية أو سياسية بينما العلمانية الصلبة والتي أؤثر أن اسميها ( روحية العلمانية ) والتي تأخذ الاعتبارات الفلسفية والمنطقية فوق أي اعتبار الخطأ الرابع : عدم القدرة على الاندماج مع تطور الفكر الانساني وعدم فهم كيفية تطور الأفكار. فأن أي فكرة تنشأ سواء كانت الديمقراطية أو العقلانية أو الاشتراكية وأخيرا العلمانية فهي يجب أن تنشأ في واقع معين فليس من المنطقي أن تنمو في عالم أخر ثم تهبط إلى عالمنا المادي التاريخي والاجتماعي بل العكس صحيح أي أن الفكرة تنشأ ضمن شروط المادة والاجتماع والسياسة ولكن نحن من نسحبها ونجردها من واقعها لنحولها إلى فكرة سابحة في فضاء التجريد فتقولب في واقع مغاير لواقعها الأصلي.إذن بعد تعداد الأخطاء التي وقع بها المفكرون العرب دعونا ننتقل إلى فهم عادل ظاهرللعلمانية الصلبة والتي تقوم بالرد على دعاوى الاسلام السياسي بشكل خاص والتي تضع المعرفة الدينية أساسا لكل معرفة بينما يشدد عادل ظاهر على أسبقية العقل واوليته ( وهو عنوان لأحد كتبه عن دار الساقي وهو أولية العقل ) وهنا تكمن أطروحته الرئيسة في الكتاب . فيقوم بتبيان ماهية المعرفة الدينية من جهة ثم ماهية المعرفة الانسانية ( والتي يقسمها إلى قسمين كما رأينا : معرفة أخلاقية تحدد الغايات ومعرفة عملية وتحدد الوسائل ) وبعد تبيان الطبيعة المنطقية لقضايا المعرفة الدينية ويستنتج إنها قضايا ضرورية في جميع الأكوان الممكنة (حسب تعبير لايبنز) أما الطبيعة المنطقية لقضايا المعرفة العملية بشقيها فهي ممكنة ومن هنا لايمكن اشتقاق المعرفة العملية من المعرفة الدينية لاختلاف طبيعة المعرفتين المنطقية . ينتقل بعدها ظاهر إلى الرد على زعم البعض عدم قدرة الإنسان على معرفة وتدبر شؤونه الدنيوية دون معونة إلهية . طبعا هذا الرأي يفرض هنا إن الإنسان غير قادر نتيجة قدراته العقلية على عقل هذه الشؤون ولكن هذا الرأي خاطئ فلسفيا لأن أساس المعرفة الدينية هو معرفة الله ومعرفة الله تستدعي معرفة صفاته والتفريق بين الله والشيطان ( وهي فرضية فلسفية وضعها ديكارت افترض وجود شيطان ماكر يحاول خداعنا لجعل العبادة له دون الله ولكن هذا الشيطان هو غير أهل للعبادة لكونه يحاول خداعنا فأبعاد صفة المكر عن الشيطان واجب لنعرف الله) وإبعاد شبه المكر معناه جعل الخير الكلي صفة من أهم صفات الله لذلك وجب أن يزود العقل الإنساني بقابلية التفريق بين الخير والشر وبهذا نكون قد أثبتنا إن الإنسان قادر على التزود بالمعرفة الأخلاقية وأسبقيتها على المعرفة الدينية والمعرفة الأخلاقية كما عرفنا هي المكون الأول من مكونات المعرفة العملية وهي المعرفة المعيارية . إذن القول بأن العقل قادر على معرفة الله وغير قادر على معرفة الغايات والوسائل وقوع في دور منطقي واضح لا لبس فيه . بعد عدة فصول يتناول فيها ظاهر هذه الموضوعات وغيرها ما يشكل أسسا فلسفية معمقة للعلمانية نتبين من خلالها قدرة العلمانية على التكيف مع الواقع العربي أو أي واقع فان المشاكل التي تطرح في افقها العلمانية حلولها هي مشاكل يتعرض لها جميع البشر باختلاف المكان والزمان فانها كما رأينا من زاوية الفهم الفلسفي مهمة لتثبيت استقلالية الانسان ووضعه في مكانه الصحيح . وهنا علينا أن نتناول المفاهيم والمصطلحات الأخرى الوافدة لمعرفة روحها عن طريق النظر الفلسفي وانتزاع المعنى المعمق للأفكار المترجمة ضمن سياسة فكرية منفتحة على الاخر واعين لسلطة الأصل بحيث تتخلص من تلك السلطة دون المساس بروحية الفكرة.
#احسان_حمدي_العطار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العرب وتراثهم .... النظرة الى الماضي بين التزويق والتغريب
-
ما بعد التفكيك وصياغة اولويات الثقافة العربية
-
الثأر الاجتماعي بين العولمة والقاعدة الاجتماعية المنفلتة
-
التراث والفكر العربي ..... محنة مزمنة
المزيد.....
-
الحزب الحاكم في كوريا الجنوبية: إعلان الأحكام العرفية وحالة
...
-
عقوبات أميركية على 35 كيانا لمساعدة إيران في نقل -النفط غير
...
-
كيف أدت الحروب في المنطقة العربية إلى زيادة أعداد ذوي الإعاق
...
-
لماذا تمثل سيطرة المعارضة على حلب -نكسة كبيرة- للأسد وإيران؟
...
-
مام شليمون رابما (قائد المئة)
-
مؤتمــر، وحفـل، عراقيان، في العاصمة التشيكية
-
مصادر ميدانية: استقرار الوضع في دير الزور بعد اشتباكات عنيفة
...
-
إعلام: الولايات المتحدة وألمانيا تخشيان دعوة أوكرانيا إلى -ا
...
-
نتنياهو: نحن في وقف لاطلاق النار وليس وقف للحرب في لبنان ونن
...
-
وزير لبناني يحدد هدف إسرائيل من خروقاتها لاتفاق وقف النار وي
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|