|
فيلم حين ميسرة : أكشن العالم الأسفل
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2620 - 2009 / 4 / 18 - 10:17
المحور:
الادب والفن
1 فيلم " حين ميسرة " ، للمخرج خالد يوسف ، لا يُجسّد واقعَ مصر اليوم وحسب ، بقدر ما أنه بنفسه ضحية لهذا الواقع . بكلمة اخرى ، فإنّ الرحم الواهن لا يمكن إلا أن يحتضن جنيناً رخواً بهذه الدرجة أو تلك . كذلك هو حالُ غرسة الثقافة في موطن النيل ، المُستزرعة في تربة لا ثقافية . فكلّ نصّ ، فنيّ أو أدبيّ ، يحاوط ويداورُ في هذه المَهلكة سعياً لطوق النجاة . نوائبُ أهل البلد ، حكاماً ومحكومين ، تعزى وفق المشيئة ذاتها لدوائر البغي والعدوان ، من صليبية وصهيونية : فمشهدُ إغتصاب البنت الحسناء ، " ناهد " ـ المُبتده به الفيلم ـ لا بدّ أن يسطي عليه مشهدٌ آخر ؛ هوَ قصف الطائرات الأمريكية للعاصمة العراقية . ومشهدُ النهاية في الفيلم نفسه ، المتأهّبة بحسبه قواتُ الأمن المركزيّ لمهاجمة حيّ " حين ميسرة " ، العشوائيّ ؛ هذا المشهد ، لن يحظى بإنشداد الجمهور المُشاهِد إلا إذا كان متماهياً بلقطةٍ جانبية لجهاز التلفاز في المقهى ، وهوَ يعرض صور إقتحام الدبابات الأمريكية لبغداد . طاغية العصر ، التكريتيّ ، يطوّبُ دوماً بطلاً قومياً ، في أيّ فيلم على الشاشة الكبيرة يتناهضُ لفضح القمع الرسميّ ، المُسدّد للفئات المهمّشة في عالم مصر ، الأسفل ، الأكثر بؤساً وتخلفاً ؛ ويطوّب بتلك الصفة أيضاً في أيّ مداخلةٍ ، تنويرية ، على الشاشة الصغيرة ، تواجهُ الفكرَ الظلاميّ ، الأصوليّ !
2 مهنياً ، يعتبر خالد يوسف نفسه تلميذاً في مدرسة يوسف شاهين ، المخرج الراحل . عمل كلاهما في فيلم " هيّ فوضى " ، وكذلك في أعمال اخرى ، سينمائية . ربما أنّ إعتماد الأول إسم أستاذه كنية ً ، لهيَ من قبيل الصدفة ولا ريب . إلا أنّ إشكاليّة فنّ شاهين ، وخصوصاً تعمّده " التغريب " ، لا يمكن أن تكون إتفاقاً ، حينما يتعلق الموضوع ببحث تأثر تلميذه به . إذ إبتداءً من فيلم " العصفور " ، المُنتج في مستهل سبعينات القرن الماضي ، نجدُ المخرج الراحل وقد أسحقَ بعيداً عن موجة الواقعية الجديدة ، بإتجاه ذلك التغريب ، الموسوم ؛ وهيَ الموجة ، التجديدية ، التي برز فيها إسمه جنباً لجنب مع إسم صلاح أبو سيف ؛ أحد أهمّ المبدعين في عالم الفنّ السابع . وإذا كان يوسف شاهين ، في القسم الثاني المختتم به مسيرته الفنية ، قد حاولَ إسقاط الواقع الفرنسيّ ، نصاً وحواراً ورؤى ، على واقع بلده ؛ فإنّ خالد يوسف ، بالمقابل ، راحَ " يتجاوز " معلمه هذا بإتجاه إسقاطٍ من نوع آخر ، أفدَحَ مدىً : أكشن السينما الأمريكية ! وقد ينبري من يدافع عن خيارات المخرج الشاب بالقول ، أنّ " الأكشن " باتَ حالة شبه عامة في عصر العولمة هذا ، الذي أعقب أعوام الحرب الباردة . إنّ تلك المُحاججة لصائبة ، مبدئياً . بيدَ أنّ المرء ، في النهاية ، لا يمكن له فصلَ هذه الموجة السينمائية ، الأكثر جدّة ، عن الحالة التي تحياها مصرُ الآن ، ثقافياً وإجتماعياً وسياسياً ـ وهيَ الحالة ، المزرية ، التي سبق لنا توصيفها في مبتدأ المقال . وعلى أيّ حال ، فإنه من المنطقيّ أن يُحتفى بأيّ عمل جادّ ، فنيّ ـ مهما يكن حجمُ الملاحظات عليه ـ وسط هذا الركام من الأعمال المبتذلة ، الكوميدية والميلودرامية ، التي تكاد أن تودي اليوم بالسينما المصرية .
3 إستباقاً للمقارنة بين كلّ من أكشن " حين ميسرة " ومثيله في السينما الهوليوودية المعاصرة ، لا بدّ من التنويه بإعتماد هذا الأخير ، غالباً ، لبيئة غرائبية مدجّنة ، تتداخل فيها أعراقٌ غير بيضاء ، توصم مواربة ً بالإنحطاط والدموية ـ كذا . إنها البيئة السمراء والصفراء ، الأمريكية ، المهملة على هامش مدن كبرى ؛ مثل نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلوس : أحياء عشوائية ، دورها من الوضاعة أنها تشابه بيوت مدن الصفيح ؛ شوارع قذرة ؛ فتية متبطلون ومتسكعون ؛ مومسات على قارعة الطريق ؛ متسوّلون ومتشردون .. الخ . من جهته ، ففيلمنا هذا ، موضع الدراسة ، لا يبني حكايته على بيئةٍ متخيّلة ( فنتاسيّة ) ، بل على واقع مرير ، مخجل ، يبرهن بالأرقام وجود عشرين مليوناً من البشر في أحياء مصر ، العشوائية ، علاوة على أكثر من سبعة ملايين طفل مشرّد في شوارعها الأنيقة ، وعلى مرأى من أعين وعدسات السيّاح الغربيين ، القادمين لرؤية الحضارة الفرعونية ، الخالدة . على أنه ينبغي التنويه ، بأنّ فيلم " حين ميسرة " كان عرضة لهجمة ضارية من دعاة إسلاميين ، بدعوى : " نشر الشذوذ الجنسي والسحاق والتخريب الأخلاقي ... وأنّ أصابعَ أمريكية وصهيونية تقف وراء مثل هذه الأعمال الفنية الشاذة ، ضمن مخطط تخريبي لتدمير أخلاق المجتمع " ( موقع العربية . نت ) . أيْ أنه بمقتضى هذه التهمة ، فالقائمون على فيلم " حين ميسرة " هم من عرَّفوا مجتمعاتنا الإسلامية ، الفاضلة ، على الشذوذ الجنسي ، ثمّ قاموا بعد ذلك بتصويره فنياً في لقطات سينمائية !!
فيلم " حين ميسرة " ، يغترف من إناء موجة الأكشن وبدءاً بأفيش عرضه ، الذي يُظهر أبطاله مطوقين ضمن دائرة من النار : هذا المنظر ، تمّ إستيحائه ولا شك من مشهد عنيف ، قام فيه زبانية " فتوّة " الحيّ بإرهاب مجموعة من الشباب ، ثمّ بمحاصرتهم في حلقة نارية . " عادل " ( الممثل عمرو سعد ) ، كان أحد أولئك الشبان ، التعسين . إنه يعيش مع أمه ( الممثلة هالة فاخر ) ، المسؤولة عن عائلة إثر موت زوجها ؛ هيَ التي يداعب خيالها صورة وردية وسط الفقر المدقع ، المرعب ؛ صورة إبنها البكر ، المقيم زمناً طويلاً في الخليج ، مؤملة ً بعودته المظفرة بحقيبة متخمة بالدولارات والهدايا . ولكنّ هذا الإبن ( النجم خالد صالح ) ، للمفارقة ، يكون في طريقه فعلا لموطنه ، إنما محتملاً حقيبة من المتفجرات ، موجّهة للجماعة الأصولية التي ينتمي إليها . طريق " عادل " يُقطع بصورة فظة من قبل ضابط أمنيّ ( الممثل الموهوب أحمد عبد الغني ) ، المجسّد عنف السلطة وعدم تسامحها إزاء معاناة الفقراء من مواطنيها . إذ يعمد ذلك الضابط إلى مداهمة الحيّ العشوائيّ ، موجة مدمّرة بإثر أختها ، تحقيقا لأوامر رؤسائه بتطهيره من المتطرفين الأصوليين . بدورها ، فالفتاة الجميلة " ناهد " ( النجمة سمية الخشاب ) ، يتقاطع طريق حياتها مع الشاب " عادل " ، حينما ينقذها هذا من حادثة إغتصاب بشعة . ثمرة علاقتهما الجسدية ، غير الشرعية ، سيكون طفلاً بريئاً ، تتخلى عنه أمه في حافلة عمومية ، بعدما يئست من الإلحاح على أبيه ذاك للشروع بالزواج . هذه العلاقة / الثمرة ، هيَ ثيمة " حين ميسرة " ، الرئيسة ، فيما أنّ الحكايات الاخرى ، كانت بمثابة مكملاً لها ووصولاً إلى هدف فكرة الفيلم ؛ فضح وإدانة العنف الموجّه ضد الفئات المسحوقة ، سواءً بسواء أكان من لدن السلطة الحاكمة أو الأصولية المعارضة .
دائرة النار ، الموصوفة ، كان عليها أن تكبر وتتسع ، لتلتهم إلى الأخير الحيّ العشوائيّ برمته . ثمة أشخاصٌ ، نافذون ، يتعهدون النار تلك بعنايتهم . " فتحي " ( الممثل عمر عبد الجليل ) كان أحد هؤلاء الأشخاص . إنه يغلف طبيعته الحقة ، الطيّبة ، بمسلكٍ عنيف ، وهوَ من كان عوناً للشاب " عادل " في مجابهة قسوة الحياة وشروطها الظالمة في حيّ العشوائيات هذا . من ناحية اخرى ، كان تاجر المخدرات ( النجم أحمد بدير ) ، يتبدى كرجل عطوف ، بحدبه على شباب الحيّ للتغلب على ذلك الفتوّة القاسي ، الذي يمتهن كراماتهم يومياً . ولكنّ تاجر المخدرات هذا ما عتم أن كشف عن وجهه الإجراميّ الآخر ـ كداعيَةٍ أصوليّ . الحقيبة المتخمة بالمواد المتفجرة ، والتي يحملها إبن " أم عادل " ، القادم من أرض الخليج ، كانت موجهة أساساً إلى ذاك الداعية الأصوليّ : لكأنما كاتب السيناريو ( ناصر عبد الرحمن ) ، يقدّم هنا إشارة رمزية عن الفكر التكفيريّ ، المتسلل إلى أرض الكنانة من تلك الأرض ، الطاهرة ! أكثر من إشارة رمزية ، ستضافر فكرة الفيلم هذه ، وعلى الرغم من صعوبة وصولها للمُشاهِد في غمرة مشاهد العنف ( الأكشن ) العديدة ، وغير المبررة بمعظمها سواءً في مضمار الفكرة أو السياق الدرامي . وإذ تضحي " ناهد " ضحية ً لأهل النفوذ والثروة من الطبقة البرجوازية ، المتطفلة ، بإستغلالهم لجسدها الجميل ، الرخِص ، فإنّ وليدها لا يلبث بدوره أن يكبر لقيطاً في أسرة من المحسنين ، منتمية للطبقة المتوسطة . أخلاق هذه الطبقة ، المدّعية الفضيلة ، تتكشف على حقيقتها المرَة تلو الثانية ، حينما يُسلّم هذا الطفلُ البريء من يد ظالمةٍ إلى اخرى أكثر جوراً وتعنتاً ، حتى ينتهي به المقام إلى الشارع مشرّداً مع أنداده البائسين ، تحت سماوات الله . هذه العائلة المنفرطة ، بمصائرها المتوازية ، الضائعة ، ربما هيَ كناية ً عن فئة المهمّشين في مصر ، الرازحة تحت خط الفقر . ومن المفارقات العديدة ، التي يطرحها الفيلم ، أن ينتهي المطاف بالصبيّ اللقيط إلى إشباع جوعه من مخلفات قمامة المنازل الراقية ، في حين أن والدته تلتهم أصناف الطعام ، الفاخرة ، مع النبيذ والشمبانيا ، في العوامة الفخمة التي يمتلكها عشيقها . فضلا عن أنّ العلاقة الجنسية بين هذا الصبيّ ورفيقته المتشردة ، والمنتهية بإنجاب طفل غير شرعيّ ، إنما كانت تكراراً لولادته هوَ ؛ لحكاية أبوَيْه بالذات ! ولعلّ مشهد الختام ، المؤثر ، كان الأكثرَ ترميزاً ودلالة في " حين ميسرة " : قطارٌ منطلق رويداً ، لا نعرف شيئاً عن وجهته ، سوى أنّ أفراد تلك العائلة ذاتها ، المضاعفة ، قد وجدتْ فيه ملاذاً آمناً وفي لحظة حَرجة ، حاسمَة ، من مصائرها المتشابهة ، المتشابكة . الأمّ " ناهد " والأب " عادل " كانا إذاً متجاورَيْن في مقصورة واحدة ، ودونما أن يعلم أحدهما بوجود الآخر . فوق رأسَيْهما مباشرة ، كانت عائلة من صلبَيْهما تفترش سطح القطار ؛ مؤلفة من الصبيّ اللقيط وإمرأته وإبنهما . حادثة الإغتصاب هيَ ذي ، تستعاد في المشهد التالي ، الأخير ، من الفيلم . وبما أننا نوهّنا ، ومنذ البداية ، بسِمَة الأكشن المكتنفة مشاهدَ " حين ميسرة " ، فكان لا بدّ أن ينتهي الفيلم بأكثر لقطاته عنفاً ؛ حينما يتساقط المغتصبون تباعاً تحت ضربات الصبيّ ذاك ، اللقيط ، فيما عربة القطار ( أهيَ مصرُ ، نفسها ؟ ) ، تشقّ طريقها دونما مبالاة .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منزل المنفى
-
دمشق ، قامشلي .. وربيعٌ آخر
-
قلبُ لبنان
-
الصراع على الجزيرة : مداخلة تاريخية في جدل مستحيل
-
حوار حشاشين
-
نفديكَ يا أردوغان !
-
فضائيات مقاومة
-
عمارة يعقوبيان : موضوع الجنس المحرّم في السينما
-
ربحنا حماس وخسرنا فلسطين
-
جائزة نوبل للإرهاب
-
عامان على إعدام الطاغية
-
بشارة !
-
طفل طهران وأطفال فلسطين
-
سماحة السيّد وسيّده
-
النصّ والدراما : إنحدارُ المسلسلات السوريّة
-
ثمرَة الشرّ : القِبلة ، القلب
-
السّهلة ، المُمتنع 4
-
السّهلة ، المُمتنع 3
-
السّهلة ، المُمتنع 2
-
ثمرَة الشرّ : السَّهلة ، المُمتنع
المزيد.....
-
من دون زي مدرسي ولا كتب.. طلاب غزة يعودون لمدارسهم المدمرة
-
فنان مصري يتصدر الترند ببرنامج مميز في رمضان
-
مجلس أمناء المتحف الوطني العماني يناقش إنشاء فرع لمتحف الإرم
...
-
هوليوود تجتاح سباقات فورمولا1.. وهاميلتون يكشف عن مشاهد -غير
...
-
ميغان ماركل تثير اشمئزاز المشاهدين بخطأ فادح في المطبخ: -هذا
...
-
بالألوان الزاهية وعلى أنغام الموسيقى.. الآلاف يحتفلون في كات
...
-
تنوع ثقافي وإبداعي في مكان واحد.. افتتاح الأسبوع الرابع لموض
...
-
“معاوية” يكشف عن الهشاشة الفكرية والسياسية للطائفيين في العر
...
-
ترجمة جديدة لـ-الردع الاستباقي-: العدو يضرب في دمشق
-
أبل تخطط لإضافة الترجمة الفورية للمحادثات عبر سماعات إيربودز
...
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|