|
ملكوتية
هدى حسين النجار
الحوار المتمدن-العدد: 2618 - 2009 / 4 / 16 - 04:25
المحور:
الادب والفن
رفعت جذعها المنحني ببطء كي لا تفسد طقس التضرع، انتصبت أمام المبجلة ونطقت بخشوع: -أمنا، لأذرعك الثمانين ثمانون حمدا، يا مقتدرة على النار، ويا مالكة سر الظلمة، حمدا لعنايتك التي أحاطتني طوال الرحلة، للسر المودع فيك أيتها الطهر المبجلة أجدد ولائي، قولي لي أمنا الآن: والقرص أين سأجده؟ رشت المبجلة على النار بمسحوق كان في يدها، ازداد تأجج النار وارتفع هسيسها. تمتمت بكلمات لم تصل أذني الفتاة، ثم خاطبتها قائلة: رحلة الجبال السبعة أثبتت أنك أهل أن تجديه، ستمضين الآن. رشت ثانية على النار كي تبقيها مشتعلة فتضيء مغاور الجبل: - تذكري أن قداسته لا توصف، ولكي تجديه لابد أن تكوني كما يُشاء، وما عليك سوى أن تريدي العثور عليه بصدق. - أمنا، أيتها المبجلة، وكيف سأعرفه؟ - اذهبي. قبل أن تبلغ الفتاة الباب، أردفت المبجل بصوت هامس: ستعرفيه حين تريه. خرجت من الكهف، سارت في الممرات داخل الجبل العظيم، هناك حيث مدن وغابات ومحيطات داخل أغوار الجبل، لا يعرف احد ماذا يوجد في الخارج، فالقليلون الذين روى عنهم التاريخ وخلدت ذكرهم المخطوطات ممن فكروا بالرحيل لم يعد منهم احد. كان للفتاة عقل اكبر من عمرها، عرفت به وجود القرص من دون أن تعرفه، لكن المبجلة لا تنطق دون أن تمتحن البشر، والفتاة قد اجتازت كل الامتحانات وأكملت الرحلة وعادت للكهف المقدس، فماذا سمعت من المبجلة؟ كيف ستعرف القرص والمبجلة لم تنطق بما يعينها في رحلتها القادمة؟ وهي لا تعرف أصلا من أين تبدأ، وأين تذهب للبحث عن موجود لا تعرف ماهيته. شعرت بالإعياء قبل أن تصل الكهف الذي تسكنه، اتكأت على صخرة تعرفها، كانت أضلاعها بحاجة ماسة للراحة، فجأة لمحت أريكة وثيرة تغريها بالنوم عليها، ترى من تركها في الطريق؟ ترددت، لا تحب الاقتراب من أشياء لم تألفها، لكن التعب حسم الموقف ممنيا إياها بالراحة، اضطجعت عليها، لكن حركة الأريكة أفزعتها، جفلت للحظات قبل أن تدرك أنها على ظهر أسد، راح يركض بسرعة أفقدتها تركيزها، هل تنشب أظافرها في جلده كي لا تقع؟ أم إن ذلك يفزعه فيلقي بها أرضا؟ ليته يبطئ قليلا من سرعته، فتتمكن من القفز. الاسد يركض في دهاليز بعيدة، بعيدة جدا لم يسبق لها أن وصلتها، ربما غادر الجبل العظيم إلى جبل مجاور، فكل الجبال هنا ذات كهوف وممرات منحوتة، لكن هذه الممرات تبدو غير مأهولة، من نحت مغاراتها إذن؟ أدركت حينها أنها كانت قد تحولت إلى قطة، هناك حل، لكنها لا تريد أن تجازف، لو تحولت إلى صخرة فلن يؤذيها السقوط، لكنها تعلم أن التحول إلى صخرة سيجمدها في قالبها لفترة من الزمن، ويمتص شيئا من عقلها. زاد الاسد سرعته، شعرت بجسدها يطير وينفصل عن جسده، أدخلت إطرافها داخل جسدها، لم يعد من خيار أخر، تصخرت في الهواء، سمعت صوت ارتطامها، وهي تهوي في بئر سحيق، غابت عن الوعي قبل أن تدرك عمقه. حين أفاقت لم تستطع أن تحرك يدها، وعيناها لا ترمشان، بل ليس لها عينان، تذكرت أنها الآن صخرة، أزعجها هذا الهاجس، راودتها فكرة كانت قد طرأتها حين كانت تعمل في ترميم منحوتة تاريخ إنسان الجبل، تلك المنحوتة التي تمتد مئات الكيلومترات داخل الجبل، نحتتها أيدي الأجداد عبر العصور بإبداع فريد، لتمثل ملحمة كفاحهم داخل الجبل وصراعهم من اجل البقاء، وهي أقدس ارث حضاري يعتز به إنسان الجبل، وحين امتدت إليها عوامل الزمن جمعوا لها ابرع الفنانين ليعيدوا ترميمها، قيل في تأويل رموزها الكثير، لكن تأملاتها قادتها إلى سر لم تبح به لأحد.. إن التحول ليس ميزة أنه خطر، الأجداد بثوا رسالة مشفرة في كل رمز من المنحوتة تحذر من التحولات، فكل تحول يفقدك شيئا من إنسانيتك حتى تستقر كينونتك في تحول ما، تخضعين له ولا تملكين فكاكا من هيمنته، الموت لا وجود له، وكل هذه النباتات والحيوانات والجمادات تمظهرات لوجودات بشرية مجمدة. حاولت تحريك جسدها لكن عبثا لا يزال متصلبا، أقلقها ذلك، صحيح أنها لم تمارس التحول كثيرا، لكن فكرة فقدان حريتها، وخضوعها لهيمنة ما، وتعطيل وعيها، وفقدان إحساسها بالزمن والوجود كانت كافية لإثارة مشاعر الضيق، وهي لا يعرف حتى أين هي، والى متى ستبقى متصخرة. جوف البئر ينفتح على مغارات وساحات أخر، فردت جناحيها الخفاشيين وطارت بمحاذاة نهر، لم تقترب من النهر كثيرا فقد يكون ثعبانا أو صحراء جبلية متنكرة، فالصحراء في جوف الجبل لا تكشف عن نفسها، هي تملك سرين سر الشكل وسر اللون، ولا اخطر من انكشاف الأسرار المقدسة لمخلوق ماكر كالصحراء ما إن تلمسه حتى تتجلى لك رمال بلا نهاية. لم تجرؤ أن تنهي تمظهرها الخفاشي فلو سارت لا بد أن تلمس الأرض وهي تحاذر إذ أن الأشياء ليست دائما كما تبدو. كانت واعية لجوعها وعطشها، وكانت ترجئهما في كل لحظة، فلو غفلت عنهما سيقتلاها: أيها العطش الإلهي أقدم ولائي لحضرتك لكني أرجئ التوحد إلى وقت آخر، أيها الجوع اقر بسلطانك على المخلوقات فارتحل إلى أجل ألقاك فيه خليلا. إلى أين سيوصلها النهر؟ شعرت أنها في متاهة تمتد في كل الاتجاهات حولها: أمام، خلف، يمين، يسار، أعلى، أسفل، وكل جهة قد لا تكون صادقة، قد توصلك إلى مكان أخر، وقد لا تكون جهة، قد تكون زمانا يرتحل بك إلى حيث الأشجار لا تنتمي إلى فاكهتك، أو إلى حيث لا حيث. كانت تتخبط في طيرانها لم تجرؤ على الصعود إلى الأعلى، فأي منفذ قد يؤدي بك إلى احد العوالم مما لا تعرفين. لكنها تتذكر أنها في زمن ما هوت من أعلى، والدوار المرافق لسرعة السقوط لا يزال يثقل رأسها لكن المنافذ للأعلى كثيرة، وهي لا تدرك أيها سيعيدها إلى عالمها. هل تريد حقا الرجوع إلى عالمها؟ ما الذي جاء بها إذن؟ وجدت نفسها في غابة كثيفة، لا تزال تحاذر لمس الأشياء، تتوحش الأشجار مصدرة صليلا مرعبا، والحيوانات تثير فوضى وتركض في كل الاتجاهات، وهي بخفاشيتها لا تفهم صراخها، ازداد خوفها بازدياد صخب الحيوانات وضجيجها، هل تحتفل بمناسبة ما؟ هل تحاول التحذير من حريق هائل قد يكون متجها إليها؟ هل من وحوش لا قبل لها بها تطارد القطعان الأليفة؟ فيم المجازفة إذن إن كان الخطر مجهولا؟ وهل خفاشيتها تضمن لها أمانا؟ حطت على قمة شجرة متقردة في ثوان، وقبل أن تهم بالسؤال كانت الكلمة تزلزل الغابة: العطش، العطش، بكل لغات الحيوانات وصليل الأشجار، أثارت الكلمة مكامن الألم المؤجل إلى حين غير مسمى، ومسامها المتيبسة تحتج على جَلْد تعويذة ترددها من أزمان لم تعد تذكر بدايتها، ريقها الذي تبتلعه بصعوبة ينهش في الإرادة، وصوت المعدة يخور ليخدر الرأس، انسابت من قمة الشجرة، شربتها الغابة، وشربت هي من نفسها، عصفت الأشجار، وازداد الاضطراب وازداد، ثم خف وخف وحف، وسكنت الغابة يتوسطها نهر يتذكر أنه لم يكن دوما نهرا، لكنه لم يعد يذكر ما كان، ولا أين كان، استمر منسابا عصورا لم يعد يحصيها، يعرف أنه نهر ولا يعرف منبعه ولا مصبه. مرة في زمن ما، أومض تساؤل: مادمت اجري فإلى أين اذهب؟ ما الذهاب؟ وما الأين؟ وما الحركة؟ لمعت في مياهه ذكرى وخيالات ضبابية لصور شتى وأشياء في يومٍ قد كانت، استجمع تركيزه وفجأة وثب بحرقة وافقة على ساقيها متإنسنة ثانية، لم تستطع أن تفتح عينيها، أغشاها ضياء قوي، وهي التي منذ الولادة لم تعرف غير ظلام الجبل، تذكرت المنحوتة بوضوح، أدركت أنها صارت خارج الجبل، وأن هذا هو ما يسمى النور، فركت عينيها بيديها وفتحتهما ببطء وبالتدريج.. تمتد أمام ناظريها حتى الأفق سهول خضراء تحتضن ألوانا ما كان لها أن تخطر في خيالها، وفوقها سقف سماوي رائق. أيعقل أن يوجد مثل هذا اللون؟ وعرفت أنها وجدته، وجدت قرص الشمس.
#هدى_حسين_النجار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|