|
أفاق الأصوليات (الدينية) السياسية في العراق
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 2616 - 2009 / 4 / 14 - 08:59
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إننا نعرف جيدا بأن الأحداث الدموية لا تنشأ عن فراغ. بل يمكننا القول، بأنها التعبير النموذجي عن خلل هائل في بنية الدولة أو العلاقات الاجتماعية أو الأخلاق أو الفكر أو في جميعهم. وإذا كانت الطبيعة لا تحب الفراغ، فان الفراغ الذي صنعه التسنن السلفي على امتداد قرون عديدة يشير إلى طبيعة الخلل الهائل في بنية الفكرة الإسلامية السنية وتقاليدها ككل. وهي تقاليد برزت بكامل قوتها التخريبية في العقود الأخيرة، بعد أن تمازجت مختلف تياراتها الراديكالية في سبيكة يصعب تحديدها بشكل دقيق، إلا أنها تتميز بصعود متنام لنفسية الإرهاب والعداء الشامل لكل ما لا يستجيب لتصوراتها وأحكامها، أي لعقائدها الخاصة. فالعناصر الجزئية للعقلانية والليبرالية التي تراكمت في مجرى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في الحركات الإسلامية السنية قد أخذت بالاندثار شبه الشامل والتام مع صعود الأصوليات السياسية المتشددة. ولعل من أهم مفارقات هذه «الأصولية» هو فقدانها للأصول بالمعنى الفلسفي والفقهي والسياسي. الأمر الذي جعل من تصوراتها في الأغلب نسيجا خشنا من العقائد والأحكام الفقهية المرتبطة بعقائد الإيمان الرتيب وقواعد السلوك الميتة. لقد كانت هذه الأصوليات المتشددة ردا مباشرا على هزيمة الأصوليات الدنيوية (التوتاليتارية) واستكمالا لها. وفي هذا الواقع نستطيع العثور على استعادة حية للفكرة التي بلورها ابن خلدون قبل ألف عام عن خصوصية الانتقال من البداوة إلى التمدن. إلا أن هذه الخصوصية تكشف لنا في الوقت نفسه عن بعد آخر لم يتطرق إليه، ألا وهو طبيعة الارتباط العضوي بين البداوة والتسنن السلفي الذي عادة ما يؤدي إلى إعادة إنتاج نفسية الاستبداد وفكرته السياسية في «الدولة». وهي حقيقة يمكن تأملها على أمثلة التاريخ الإسلامي ككل. فقد كانت جميع مراحل انحطاطه الثقافي مرتبطة بصعود التيار السني السلفي. وليس اعتباطا ألا ينتج التسنن السلفي أية منظومات فكرية فلسفية. كما انه ليس اعتباطا أن يناهض الفلسفة العقلانية والتصوف والتشيع ومختلف المدارس الإنسانية الإسلامية الكبرى من خوارج ومعتزلة وغيرهم. بمعنى سلوكه التاريخي المتأصل في العداء لإبداع العقل الرفيع والروح المتسامي والوجدان الخالص. وليس اعتباطا ألا تتعدى التصورات والأحكام العقائدية المميزة للأصوليات السلفية المتشددة القديمة والمعاصرة أكثر من اجترار جزئي لمجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث الموضوعة (الكاذبة). إضافة إلى أن اغلبها لا علاقة له بالحياة ومتطلباتها. إذ لا يتعدى أقصى اهتمامها متطلبات الجسد والماورائيات الغارقة بزبد التمنيات والعجائب. وهي صفات يمكن فهمها على أنها النتاج الملازم لنفسية البداوة والاستبداد. ويشكل تاريخ السلطة في العراق الحديث نموذجا ناصعا لهذه النفسية كما نراه في تمثلها وتمثيلها لاندماج تاريخ البداوة وبنيتها التقليدية بالسلطة. وليس اعتباطا أن تعارض هذه النفسية وترفض رفضا قاطعا فكرة ومبدأ الانتخاب والاختيار تحت حجج وذرائع شتى. أما في الواقع فإنها الصيغة الماكرة لنفسية البداوة والاستبداد، التي تعتقد بأن الشيخ يولد ليسود. وفي ظل هذا التاريخ الخاص لنفسية البداوة والاستبداد، أصبح التسنن في العراق المعاصر أحد المصادر الكبرى للاستبداد وتبرير الإرهاب. وإذا كان هذا الانطباع العام والجلي في الوقت نفسه في كل مناطق العالم الإسلامي والعالم ككل، فان خصوصيته في العراق تقوم في انه اخذ يشعر للمرة الأولى بفقدان زمام «المبادرة» وانحساره التاريخي إلى حدوده الطبيعية. بمعنى إرجاعه إلى تخوم ما قبل الدولة والمجتمع المدني، أي بادية الثقافة التقليدية. إذ لم يصنع التسنن المتشدد والسلفي في العراق سوى صحراء قاحلة. ومن ثم لا يمكنه مع كل هبة ريح أن يجلب غير الرمال والرماد وبقايا عالم لا حياة فيه. والأحداث الدموية المتكررة في مختلف مدن العراق ليست إلا الصيغة الفعلية لهذه الرياح الرملية. إنها يمكن أن تصنع كثبانا من القتلى والجرحى، لكنها لا تستطيع حبس جريان الأنهار. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا التيار الجديد في الحركة السياسية العراقية والإسلامية وتقاليد المقاومة يكشف عن افتقاده لأبسط مقومات العيش والنجاح. وهو تيار لا يمكنه الاكتمال والظهور سياسيا وفكريا بسبب ضعفه مقارنة حتى بأكثر الأشكال تخلفا كما هو الحال في الوهابية المعاصرة وحركة طالبان. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية الحكم بزواله السريع مقارنة بأمثاله لأنه يجمع بين قوى متناقضة لا يوحدها سوى العداء العلني والمستتر لفكرة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني، أي ضد التيار الكاسح للتقدم والحرية. والقضية هنا ليست فقط في أن الالتفاف برداء «المقدس» لا يقدس المرء، مع ما فيه من ضرورة الارتقاء إلى مصاف البدائل الأجمل، بل ولأنه لا توجد في كل حيثيات الأصوليات المتشددة للغلاة الجدد ما يوحي باقترابها من ابسط مقومات ومبادئ الاعتدال المميزة لتقاليد الإسلام العقلانية وتاريخ الحركات السياسية المعتدلة والإنسانية القديمة والحديثة. إننا نعثر في هذه الحالة على ما يمكن دعوته بانتهاء "المرحلة الدينية" المتشددة في الوعي السياسي، بما في ذلك في الحركات الإسلامية السياسية. لكنه انتهاء يحتوي على احتمالين متكافئين من حيث النتيجة، بمعنى إنهما يصبان في نفس المجرى العام المشار إليه أعلاه، أي في مجرى انتهاء المرحلة الدينية المتشددة في الوعي السياسي. وهي حالة تتسم بقدر كثير من التوتر الداخلي. وذلك لأنها تشكل مضمون عملية تاريخية أكثر مما هي عملية فكرية. فالحديث هنا لا يجري عن انقلاب أو تحول تاريخي أو فكري في التشدد الديني، وذلك لأنه كان على الدوام جزء جوهريا من تقاليد الوعي الديني بشكل عام المذهبي بشكل خاص، بل عن انتهاء مرحلة التشدد الديني في الوعي السياسي. لقد كان هذا المخاض الصعب نتاج الحالة البنيوية الخربة للنظام الاجتماعي والسياسي العربي في مجرى النصف الثاني للقرن العشرين، وبالأخص منذ ستينيات القرن العشرين. بحيث أصبح الصعود الراديكالي للتشدد الإسلامي الوجه الآخر لهبوط الراديكالية الدنيوية (العلمانية) وتدميرها لمشروع النهضة والحداثة. الأمر الذي جعل ويجعل من اندثارهما في ظل العولمة المعاصرة وصراع الوجود الثقافي والقومي للأمم أمرا حتميا. وإذا كان موت الراديكالية الدنيوية واقعا جليا بعد مرور نصف قرن من الزمن الضائع، فان الراديكالية الدينية المتشددة (الأصوليات) ولدت ميتة منذ البدء. وذلك لأنها ليست قادرة على مواجهة العولمة بمعاييرها، كما أنها عاجزة عن تمثل المصالح القومية بمعايير الحداثة الفعلية. كل ذلك يعطي لنا إمكانية القول، بان التشدد العنيف المتماهي مع همجية "القنابل البشرية" و"الأحزمة الناسفة" وتدمير "الكفار" و"المارقين" من أبناء القوم سوى الصيغة الفعلية لتدمير النفس أولا وقبل كل شيء، أي الصيغة الواقعية والرمزية للانتحار الذاتي. وشأن كل انتحار قد لا يخلو من فروسية، لكنه لا قيمة لامتطاء حصان منهك للدخول في سباق في عالم يشعر بالضيق والتبرم من تباطؤ ثوان لحركة المعلومات أمام شاشة الحاسوب (الكومبيوتر) والشبكة العنكبوتية (الانترنيت). إضافة لذلك، التجربة التاريخية للأمم الحديثة تبرهن على استحالة توسيع المدى العقلاني للمسار الفعلي في ارتقاء الأمم دون مخاض التجارب الخشنة والمريرة. فهو الأسلوب الوحيد لإرساء أسس العقلانية والرؤية الواقعية والنزعة الإنسانية، أي المكونات الضرورية لبناء منظومة الدولة والأمة الحديثة. فالتاريخ لا يعرف معجزة إحياء الموتى. أنها مقبولة ضمن سياق ومذاق الأوهام والأساطير الدينية والدنيوية، أي ضمن سياق ومذاق الأوهام فقط. بينما التاريخ الفعلي للأمم هو تاريخ المستقبل، أي تاريخ الأمم القادرة على حل إشكاليات وجودها المعاصر بمعايير المعاصرة، والمستقبل بمعايير المستقبلية. ذلك يعني أنها حلول لا مكان فيها للأصوليات أيا كان شكلها ومحتواها. وذلك لأن الأصوليات منظومات مغلقة من حيث المبدأ والغاية. وبالتالي عاجزة عن إدراك قيمة ومعنى واثر فكرة الاحتمال والبدائل الحرة. أما "اجتهادها" فيبقى في أفضل الأحوال مجرد تأويل متحزب ومحكوم بأفكار جاهزة منذ البدء. الأمر الذي يجعل من الأصوليات كيانات ميتة منذ الولادة!
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المثقف وروح القلق واليقين
-
الراديكالية السياسية للغلاة الجدد!
-
المثقف – الحلقة الرابطة لديمومة الروح التاريخي للأمم
-
الراديكالية الشيوعية والبعثية العراقية وانقلاب القيم!
-
المثقف وإبداع الأبد
-
الموجة الأخيرة للزمن الراديكالي
-
طوفان الزمن الراديكالي وبداية التاريخ العقلاني
-
المثقف ومرجعيات الروح المبدع
-
المصالحة الحقيقية وأشباح الموتى!
-
الزمن الطائفي والتاريخ العربي
-
الحركة الصدرية – (تيار الداخل) وصعود الباطن العراقي(4)
-
مقدمات المعترك السياسي والأيديولوجي للحركة الصدرية(3)
-
الحركة الصدرية-غنيمة الزمن العابر وتضحية الانتقام التاريخي (
...
-
مقتدى الصدر - ميتافيزيقيا الثورة الصدرية( 1)
-
المركز السياسي والمركزية الثقافية
-
كتاب (العراق والمستقبل – زمن الانحطاط وتاريخ البدائل).
-
الدكتور علي ثويني – الفكرة المعمارية وهندسة الروح العراقي
-
حدود الصراع الروسي الجورجي وتجارب -الثورات الملونة- (1-2)
-
نهاية الزمن العرقي (الكردي) في العراق (2-2)
-
نهاية الزمن العرقي (الكردي) في العراق (1-2)
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين
...
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|