فاطمة محمد صبية عراقية أكملت الدراسة المتوسطة تسكن في مدينة صغيرة جنوب العراق، ملفاتها تؤكد انها متفوقة في جميع الدروس، والنتائج التي حققتها في المراحل الدراسية السابقة تشي هي الاخرى انها الاولى دائماً. ولكنها مع ذلك تركت الدراسة لا لبعد المدرسة عن مسكنها، ولا لمرض تعرضت له، بل لأن عائلتها المعوزة لم تستطع ان توفر لها ثمن "العباءة" حيث تلزم الاعراف السائدة هناك البنت في مثل هذا العمل بلبس العباءة التي تضاعف سعرها بسبب الحصار 500 مرة. والمبلغ الذي ينبغي ان تدفعه عائلة فاطمة ثمناً للعباءة يكفي افراد العائلة لشهرين أو أكثر. فتنازلت تلك الفتاة عن حقها الطبيعي في التعلم لتوفر لأبويها وأشقائها بعضاً من لقمة الخبز. ومثل فاطمة الفتيات العراقيات اللاتي أجبرن على ترك مقاعد الدراسة بسبب الحصار...
المعلمة سلمى... تبيع الخضار
وليس التعليم وحده هو الحق الذي أجبرت اعداد كبيرة من النساء على التنازل عنه. بل ان التضخم الذي جلبه الحصار وما نجم عنه من ارتفاع فاحش في الاسعار مقارنة بالرواتب والمداخيل، قد دفع المرأة العراقية الى دخول ميادين لم تألفها من قبل. المعلمة الست سلمى التي استشهد زوجها في حرب الخليج الاولى فأصبحت مسؤولة عن ابنائها الاربعة، وهي الطموحة لأن يكمل اولادها الدراسة، وأصبح ابنها البكر علي طالباً في السنة الاولى في كلية الحقوق، ماذا بوسعها ان تفعل وقد كبر الاولاد وازدادت مطالبهم وارتفعت الاسعار أكثر من ستة آلاف مرة؟ ماذا تفعل سوى ان تسعى للبحث عن منفذ اخر للرزق الى جانب الراتب الذي لم يتجاوز اربعة آلاف دينار اي ما يعادل نحو ثلاثة دولارات؟! وما عسى هذا المنفذ ان يكون سوى ان تتحول تلك المعلمة بائعة للخضار؟!
ومثل الست سلمى الكثيرات من اللاتي تحولن الى جانب وظيفتهن في دوائر الدولة صباحاً الى العمل بعد انتهاء الدوام في مهن اخرى مثل الخياطة او صناعة الخبز، وتلك اقل المهن قسوة قياساً بمهن أخرى تنوء المرأة تحت وطأتها، لكن الظروف القاسية فرضت عليهن الولوج اليها...
الضحية المسؤولة عن الضحايا الاضعف
ان في العراق الملايين من النساء حسب اخر تعداد للسكان اجري عام .1997 وبعبارة أكثر تحديداً فأن الاناث يشكلن 53،3 في المئة من سكان العراق، وأقل من نصف هذا العدد مطلوب منه رعاية 29.19 في المئة من سكان العراق الذين تراوح أعمارهم بين دون السنة والتسع. وهذه الفئة العمرية من الاطفال تشكل 50.3 في المئة من مجموع اطفال العراق، وهي لا يمكن ان تستمر في الحياة بعيداً عن رعاية المرأة أماً كانت أم أختاً ام مربية. وذلك يعني ان نسبة كبيرة من وقت المرأة وجهدها ينصرف لتنشئة الاطفال حتى يبلغوا الحلقة الرابعة من الدراسة الابتدائية. وسيكون هذا حتماً على حساب مسؤوليات المرأة ومشاغلها الاخرى، ومنها مسؤولياتها في التدبير المنزلي الذي لا يمكن اي عائلة عراقية ان تعيش بدونه في ظروف تضاعفت فيها اسعار المواد الاساسية للحياة اليومية في ابسط أشكالها بين 925 مرة وستة آلاف مرة.
لقد وصف بعض التقارير الدولية المرأة العراقية في ظل ظروف الحصار بأنها "الضحية المسؤولة عن ادارة الضحايا الاكثر تضرراً وهم الاطفال". وقد تأثر بعضهما بالاخر، حيث كلما ساءت الحالة الغذائية للمرأة الحامل انعكس ذلك على الجنين ونموه. وارتفعت في شكل لافت الولادات بأقل من الاوزان الطبيعية. وتجاوزت نسبة الذين يولدون وأوزانهم اقل من 2.5 كيلوغرامين أكثر من 25 في المئة من مجموع الولادات بحسب الاحصائيات.
ويبدو هنا بوضوح تأثر الام العراقية مع طفلها بنقص الغذاء. وانتشرت في جميع مدن العراق الولادات المشوهة بسبب نقص الغداء. والام التي أنهكها العمل والتدبير المنزلي، وادارة الاسرة في ظروف اقتصادية غاية في الصعوبة والتعقيد، وفي ظروف نفسية بالغة الاضطراب والقسوة لا تستطيع ان تواصل الحمل والولادة بنجاح. وقد شاعت في العراق وفيات الامهات أثناء الولادة لأسباب كثيرة يقف في مقدمها الهزال وسوء التغذية وعدم قدرة الجسم على تحمل المخاض. وقد أشارت الاحصائيات التي وثقتها المستشفيات الى ان بين مئة الف حالة ولادة تموت 117 امرأة عراقية اثناء المخاض.
الوظيفة المركبة
لو كانت امام المرأة العراقية مهمة واحدة تنهض بها لهان الامر كثيراً، ولكن متطلبات المعيشة في ظل الحصار فرضت على المرأة العراقية وظيفة مزدوجة او مركبة أحياناً، وهي الجمع بين ادارة الاسرة، وتربية الاطفال والعمل، او ما يطلق عليه الخيار الثالث. ان المرأة العاملة تضطر أحياناً ان تصطحب طفلها معها لأنها لا تقوى على دفع أجور الحضانة، ولا يمكن ان تستغني عن الراتب المتواضع الذي تتقاضاه جراء عملها. وليس لديها من يعنى بتربية طفلها في المنزل... بل ان بعض النساء يفترشن الارض ببضاعة لا تكفي بأي حال لمعيشة العائلة لمدة اسبوع واحد، والى جانبها واحد او اثنان من اطفالها. وما عسى ان تكون هذه البضاعة التي تتاجر بها تلك المرأة البائسة؟ ربما كومة من الحناء، او الهيل او حبة حلوة، والى جانبها مجلات تآكلت أوراقها بسبب قدمها. انه التمسك بأهداب الرزق مهما كانت فرصه ضعيفة، ومحاولة لقهر المستحيل من اجل انتزاع لقمة الخبز، والذود عن عزة النفس بكل الوسائل.
لكن المسألة بالنسبة الى المرأة العراقية لم تعد مرتبطة بالظرف الاقتصادي فهي ابعد من ذلك بكثير. السيدة نظيرة هاشم تقول "ان ذهاب زوجي للعمل في الخارج قد خفف كثيراً من وطأة العامل الاقتصادي وتحسنت كثيراً ظروفنا الاقتصادية، ولكن غياب الاب عن الاسرة خلّف مشكلات من نوع آخر، سيما ان اولادي بعضهم كبر واصبح في مرحلة المراهقة وانا وحدي لا استطيع السيطرة على تصرفاتهم وتوجيه سلوكهم".
الطلاق الكهربائي والعنوسة
اما السيدة انعام احمد من محافظة واسط جنوب بغداد فتقول: "لقد طلبت التفريق من زوجي بسبب مزاجه الحاد وعصبيته التي تزيد الى حد لا يطاق عند انطفاء التيار الكهربائي خصوصاً في الصيف حينما تصل درجة الحرارة الى نحو 50 درجة مئوية، الامر الذي يجعله يهيج ويضرب الاولاد وحتى يضربني لأتفه الاسباب"...
في حين تقول الآنسة علياء جبار التي شارفت على الاربعين سنة "ان بنات جيلي كثرت بينهن ظاهرة العنوسة بسبب الحصار وما يخلفه من مشكلات اضطرت الشباب للهجرة او العمل من اجل تحصيل قوتهم اليومي دون تمكينهم من توفير ابسط امكانات الزواج واقامة عائلة...
هذه بعض الصورة لواقع المرأة العراقية في ظل الحصار لكن الالمام بتفاصيلها قد لا يقوى قلم على كتابتها بكل تشعباتها وتفاصيلها.
(بغداد)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب وصحافي عراقي |