أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هويدا صالح - الكاتب العربي ما بين السيرة الذاتية والسرد السيرذاتي ... خلوة الغلبان نموذجا















المزيد.....


الكاتب العربي ما بين السيرة الذاتية والسرد السيرذاتي ... خلوة الغلبان نموذجا


هويدا صالح
روائية ومترجمة وأكاديمية مصرية

(Howaida Saleh)


الحوار المتمدن-العدد: 2602 - 2009 / 3 / 31 - 05:28
المحور: الادب والفن
    



كثير من الكتاب حاولوا التجريب وإزاحة الحدود بين الأنواع الأدبية، وإنتاج نص لا يمكن تصنيفه ، لكن تبقى السيرة الذاتية هي من أكثر الأنواع الأدبية إثارة للنقاشات، لأنها لا تريد أن تستقر، فهي ، جنس أدبي مراوغ وغير محدد الملامح ، وذلك لأنها تشتبك مع أجناس أدبية أخرى كاليوميات والمذكرات والرسائل وقصائد السيرة ، والشهادات ، والحوارات الشخصية ، كما أنها تشتبك مع هذه الأنواع حين تستعير آليات عملها ومنطقها الفني . ورغم أن الكثير من النقاد الفرنسيين قد حالوا التنظير لها وضبط مجال المصطلح واشتغاله إلا أنه يظل مصطلحا ملتبسا وغامضا ، و ذلك لقربها من أجناس وأنواع .
كذلك مما يقلل من وجودها أو تجليها بكثرة في الأدب العربي تلك القيود التي تتحكم في كتابتها، وتجعلها تسرب مضامينها وأشكالها إلى تلك الأنواع ، تحاشياً وتجنبا لإرجاع السيرة الذاتية إلى كاتبها الواقعي ،أو المؤلف الواقعي ( شخص الكاتب ) ، وليس المؤلف الضمني ، وما ينتج عن ذلك من أحكام وتقييم سالب للكاتب ، فيفر إلى ما يعرف مثلاً برواية السيرة الذاتية، أو السرد السيرذاتي ،أو يتخفف من بعض اشتراطات كتابتها ، كالسرد بضمير الغائب ، او اللجوء إلى التعديل والحذف.
وقبل أن نتطرق إلى شكل السيرة الذاتية ، ومدى تحققها في أدبنا العربي ، ومدى قدرة الكاتب العربي على كتابة السيرة الذاتية وفق شروطها التي نظر لها النقاد الفرنسيون ، علينا أن نستعرض جهودج هؤلاء النقاد في تعريفهم للسيرة الذاتية ، وما قدموه من أطروحات نظرية ، تحاول أن تحدد ذلك المفهوم الملتبس .
وقد قام الكثير من الكتاب بكتابة السيرة الذاتية أمثال جان جاك روسو في كتابه " الاعترافات " وستندال وديكارت وفلوبير وفيرجينيا وولف وجورج صاند وتولستوي وغيرهم.
إن التعريفات المتداولة للسيرة الذاتية لا تخرج عن تحديدها بأنها قصة حياة الشخص التي يسردها بنفسه.
فيليب لوجون Philipe Lejeune ذلك الناقد الفرنسي هو أول من حاول وضع تعريف لما يطلق عليه السيرة الذاتية ، ومؤلفاته في ذلك المجال كثيرة منها : " "الأوتوبيوغرافيا في فرنسا"و"العقد الأوتوبيوغرافي" و"من أجل الأوتوبيوغرافيا"، و"علامات حياة: العقد الأوتوبيوغرافي 2"
وراهن لوجون كثيرا على فن السيرة الذاتية فهو يرى أن من حق الجميع أن يكتبوا : " لم يُخْلَق الأدبُ فقط للكتاب الذين تنشر أعمالهم في سلسلة "لابلياد" (الشهيرة)، إنه للآلاف من الناس الذين يودون تبادل تأملاتهم وقراءة بعضهم البعض. إنها ممارسة جماهيرية".
لقد وضع لوجون تعريفه الشهير للسيرة الذاتية بوصفها: " المحكي الاسترجاعي النثري الذي يقوم به شخص واقعي لوجوده الخاص،عندما يركّز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة. "
ثم أعاد النظر فيه في كتابه الآخر : " الميثاق السير ذاتي " ،فقد انشغل بهذا النوع من الكتابة رغم ما يعانيه من تهميش يصل حد عدم الاعتراف به ضمن الكتابة الأدبية، لكن لوجون كشف جمالياته ونظر له بشكل عميق غير مسبوق.
فالسيرة الذاتية في مفهومها العام ـ وحسب فليب لوجون مستندة في ذلك إلى مجموعة مرتكزات حدّدها " بـشكل الكلام، والموضوع المطروق، ووضعية المؤلّف، ووضعية السارد . ‏ثم جاء بعد جورج غوسدورف George Gusdorf الذي قدّم كتابا يفند فيه كلام لوجون وأسماه " شروط السيرة الذاتية وحدودها " .
والأوتوبيجرافي قد أنتج لنا الكثير من أشكال الكتابات مثل المذكّرات والوقائع واليوميات وما يمكن تسميته بالتخييل الذاتي، أي "إصباغ التخييل على الحياة الشخصية"، وهو مصطلح قد وضعه سيرج دوبروفسكي في كتابه " ابن " ، وهو يرى أن هذا التخييل الذاتي قدّم إضافات: "لقد أصبح مقبولا منذ بروست أن الأنا التي تكتب ليست هي الأنا التي تقدّم نفسَها للوجود، فيحاول كاتب التخييل الذاتي و يجهد نفسه وطاقته الإقناعية كي لا يظل أيُّ اختلاف بين الذي يكتب والذات التي تتمظهر في الكتابة .
وقد حاول توماس كليرك أن يبين للقراء ذلك المفهوم الإشكالي للمصطلح ، ويعمل على تقديم مفهوم أكثر دقة مما قدمه فيليب لوجون ، فهو يعتبر أن السيرة الذاتية مفهوم ملتبس أن السيرة الذاتية حكي " تمنح لذة شبيهة بلذة الرواية الكلاسيكية حيث يتناوب السرد والوصف ، والمشاهد والتحليلات ، البورتريه والتحقيقات" بالتالي لكلمة حكي معنى يضعها كمقابل ل"الرواية" مع اختلاف الحس التخييلي الغائب في الأولى . وإضافة للحكي فهي فعل استرجاعي والطابع " الاسترجاعي للسرد يشكل إحدى مفاتن الحكي السير ذاتي" .
فالسرد متقاطع بطريقة ما مع مفهوم السيرة الذاتية ، ويعتبر توماس كليرك السيرة الذاتية " أكثر من جنس أدبي إنها نمط من الخطاب" ، لكن لو إننا اعتبرناها نوعا من الخطاب الرؤيوي للعالم فهذا يدفعنا للتساؤل عن تجنيس السرد الروائي وتقاطعه مع مفهوم السيرة الذاتية واعتبارها "جنس أدبي " فإن اختلافها الجوهري عن التخييل يمر " عبر الإحالة على ضمير متكلم ملموس وليس على شخصية متخيلة" ، مما يفرض اعتبارات حاسمة في عملية تلقي الأدب.
إن معرفة الذات هي أحد الأهداف الرئيسية التي يراهن عليها كاتب السيرة الذاتية . وتمثل وظيفة التواصل بعدا آخرا يفيد في إيصال التجربة الخاصة إلى الآخر.
أما في أدبنا العربي فقليل هي الكتابات التي يمكن وصفها بالسيرة الذاتية ، وذلك لأنها تعتمد على مواجهة الذات والقارئ عند استحضار الأحداث ، وتحمل المسؤولية الأخلاقية أمام القارئ عما يكتبه من أحداث من المتفق عليه وفق منطق السيرة الذاتية أنها أحداث حقيقية ، لا تقبل التحايل عليها أو تزييفها أو انتخاب بعض الأحداث منها دون البعض الآخر ، وذلك لأن الكاتب العربي والقارئ العربي أيضا لا يعيشان أفقا فكريا حرا يقبل من الكاتب أن يواجه ذاته وقراءه مثلما فعل جان جاك روسو في أواخر أيامه ، حين تعرض لأزمات نفسية ضخمة بعد هجر أسرته وتعرضه لمشكلات اجتماعية ، فكتب ما سمي بالاعترافات ، وفيها واجه القارئ بكل مسالبه ، حتى أنه اعترف بهجر أبنائه ، وعلاقته السيئة بالنساء ، وحاول أن يوق من الأحداث ما يبرر تلك التصرفات في أعين القراء كنوع من الاستعطاف ، ونيل الغفران .
لكن هذا يعد مقبولا في الثقافة الغربية التي تعترف بفكرة الاعتراف والغفران التي ينالها الشخص فقط حينما يجلس على كرسي الاعتراف أمام القس أو الكاهن ويعترف بذنوبه ، ساعتها ، يخرج ناصع الضمير ، وقد غفرت أخطاؤه فقط لأنه اعترف بها، أما في ثقافتنا العربية التي لا تغفر للشخص مهما اجتهد ما فعل ، وتترك الغفران لله ، وتظل تحاسبه على أفعاله ، حتى يصل إلى الحساب أمام الله ، فالكاتب في ثقافة مثل تلك لا يقدر على كتابة السيرة الذاتية وفق الشروط الت وضعها لها المنظرون كما أسلفنا ، لأننا نعيش حالة من القهر ، والتأثيم المستمر ، والعنف الفكري المتبادل ، من أجل هذا يتحايل الكاتب العربي على فن السيرة الذاتية بكتابة ما يسمى بالسيرذاتية أو التخييل السردي السيرذاتي .
إن الزمن في السيرة الذاتية ثلاثي الأبعاد : ماض مستعاد هو زمن الأحداث ، وحاضر، وهو زمن الكتابة ، وزمن غير متعين يدركه القارئ وحده عبر وعيه أثناء عملية القراءة . ، أما الراوي في السيرة الذاتية فغالبا يكون بضمير الأنا الذي يعيد السرد على المؤلف الواقعي ، فيدخلنا في مأزق سردي، حيث سيكون ( التبئير على بطل السيرة شيئاً مفروضاً في الشكل السير ذاتي وفق جيرار جينيت الذي يضيف في الموضوع ذاته بأن السارد السير – ذاتي غير ملزم بأي تحفظ بإزاء ذاته ، والتحدث باسمه الخاص ، بسبب تطابق السارد مع البطل ، لكن جيرار جينيت يثير نقطة التبئير ، ويؤكد على أنها تأتي من وجهة نظر السارد – البطل ،وأنها تتحدد بالعلاقة مع معلومات السارد الحالية ، وليس بالعلاقة مع معلوماته الماضية كبطل. إذن اتجاه السرد لا يبدأ بشكل خطي ، كما هو في الحياة التي عاشها في الماضي ، بل الحياة التي يرويها في لحظة انطلاق السرد ، واعتباره كجزء من ماضيه .
و أنواع الأنا المتكلم في السرد السير- ذاتي هي:
ـ أنا المؤلف الحقيقي او الكاتب المعلن صراحة وفق الميثاق أو التعاقد السير- ذاتي بأنه صاحب الأنا الساردة في النص .
ـ أنا السارد لمتن السيرة الذاتية ، بكونها سرداً ذاتياً، واحتكاماً إلى التبئير الذي سينفرد به .
ـ أنا الكائن السيري الذي سوف يتعين بأبعاد محددة نسبة إلى الأفعال والوصف والمحددات السردية داخل العمل نفسه.
إن السيرة الذاتية في عالمان العربي كانت جنسا أدبيا منزاحا دائما في أدبنا العربي إلى الهامش ، من هامش الكتاب والقراء معا .
ولكي يهرب بعض كتاب السرذاتية من تطابق المؤلف والسارد والكائن السيري (الشخصية) يستخدمون ضمير الغائب، مثلما فعل طه حسين أيامه ، وهذا يسبب خللاً سردياً يبتعد فيه السارد عن الشخصية ، والمؤلف عنهما معاً بالضرورة ، وقد يلجأ الكاتب إلى هذا التخفي حتى لا يصبح مسؤولا أمام قرائه عن أفعاله بشكل واضح ، ولكي يغالب الكتاب العرب ذلك الخوف من قوة الموانع السياسية والاجتماعية التي تدفع الكاتب إلى كتابة "سيرته الذاتية" تحت مسميات إجناسية أخرى، فقليل هي الأعمال التي كتب فيها الكاتب العربي سيرته الذاتية بشكل واضح ومحدد،بل يلجأون إلى حيل سردية ،فيهربون سيرتهم أو بعضا منها داخل الفضاء الحكائي .
وتلك القصدية من المؤلف تدفع القارئ إلى اعتبار النص السيرذاتي نصا روائيا ، حتى في حال اعتقاده بوجود التطابق بين شخصية الكاتب والسارد والبطل ، ولن يدخل على العمل بقصدية أخرى هي البحث عن ذات المؤلف داخل المتن السيري ، وأعتقد أن تعامله مع النص سوف يحدده التجنيس المقصود من قبل الكاتب وهل نصه سرد سيرذاتي أم سيرة ذاتية واضحة وصريحة .
وفي هذا المجال يفرق فيليب لوجون بين خاصتين : التطابق في ميثاق السيرة الذاتية بين السارد والشخصية ، و التشابه الافتراضي في العمل الروائي وهو من صنع القارئ . إن السيرة الذاتية كميثاق أو عقد قراءة تحتم التطابق بين المؤلف والسارد والكائن السيري ، وهو بذاته أمر مقلق لا يمكن التيقن من مفرداته تماماً ، وهو موضوع شك دائم ، فالصدق المطلوب غير مؤكد في كتابة السيرة الذاتية لأسباب صارت معروفة ، فكيف يمكن الوثوق من بعد ، بعمل تخييلي كالسرد الروائي ليكون ضمن جنس السيرة الذاتية؟
وهل لو أراد الباحثون التوثيق لحياة مؤلف ما يمكنهم الاعتماد على السرد السيرذاتي وقبوله كأحد إضاءات حياة الكاتب ؟ بمعنى آخر هل يمكن إجازة السرد السيرذاتي كأحد روافد السيرة الذاتية في حياة المؤلف ؟
أم أنه يقرأ كعمل إبداعي له خصائصه وجمالياته ، خاصة إذا عرفنا ما تتعرض له السيرة الذاتية من إمكان الخطأ أو النسيان ، أو تعمد الخطأ كتبييض لوجه المؤلف واستعطاف للقارئ كما فعل جان جاك روسو في اعترافاته .
فكتاب السيرة الذاتية كما يلاحظ والاس مارتن ( يتعرضون للخطأ بقدر ما يتعرض له الناس الآخرون ... ويسلطون على أنفسهم أحسن ضوء ممكن طامسين بعض الحقائق ، مخفقين في التعرف على أهمية حقائق أخرى ، وناسين وقائع" ويسرد مارتن ما يراه متغيرات تمنع تقديم صورة ثابتة لحياة الكتاب منها ما يتعلق بالنفس التي تصف الأحداث حيث تتبدل منذ تجربة الأحداث ومنها ما يتعلق بالأحداث وقيمتها في زمن استرجاعها وكتابتها.
إن الصدق المحض ، أو ما يشبه الاعتراف السيرة الذاتية كحد أخلاقي يتعذر حدوثه ، وذلك لأسباب منها القهر المجتمعي والخوف من المسؤولية الخلاقية عن بعض الأحداث ، ومنها كذلك فكرة زمن الكتابة التي تغاير زمن الحدث ، ففعل الاسترجاع والاستعادة بواسطة الذاكرة يتمان في الحاضر ، ذهاباً إلى الماضي بطريقة الانتقاء أو الاختيار التي تسميها يمنى العيد (الاستنساب) وعجز الكتابة عن استعادة كل أبعاد المحكي بل اجتزاء الوقائع ، أو تأخيرها وتقديم بعضها عن بعض كما تقتضيه لحظة السرد الراهنة .
تلك المحاذير والشكوك لا تنفي الحاجة إلى كتابة مزيد من السير الذاتية، والاحتيال على مشكلاتها سواء لحظة الاستدعاء ، أو فكرة اختلاط ضمائر السرد أو المسؤولية الأخلاقية .
وهذا يحيلنا إلى نقطة أخرى لا تقل أهمية عن سابقاتها وهي دور وموقع القارئ المنتج للنص ، فبحسب نظريات القراءة النص الذي لم يقرأ ، لم يكتب ، فما موقع القارئ من النص السيري والنص السيرذاتي ؟
أعتقد أن القارئ في النص السيرذاتي سيمكنه أن يتماهى أكثر مع الأنا الساردة ، ويحاول إنجاز فعل المشابهة ، بينه وبين السارد او الكائن السيري، بفعل المشاركة والتجارب المتماثلة ، كما يحاول أن يملأ فراغات النص أو اللامقول و المسكوت عنه، بفعل إعادة ترتيب الأبحاث وفق متنها لا مبناها الذي ظهرت عليه في السيرة ، ولعل ذلك جزء من مكافأة القراءة ، ومتعتها ،في حين أنه لا يستطيع ذلك في النص السيري الصريح ، لأنه يضع في خلفية القراءة أن هذه أحداث واقعية ، قد حدثت للكاتب المتعين وراء النص ، ولا يمكن التماهي معها أو ملأ فراغاتها ، لأنها تبتعد قليلا عن فكرة التخييل والإيهام ، وتقترب أكثر من فكرة الصدق والمواجهة مع الذات ، واعتلاء كرسي الاعتراف أمام قارئ افتراضي يمكن أن يمنح الصفح عن الأحداث الحقيقة التي حدثت لكاتبه .
إن السيرة الذاتية كعمل مرجعي تستلزم في قراءتها تلك المحددات التي لا تقل ثقلاً عن كتابتها ، كالصدق ومطابقة الوقائع، والتيقن من الذاكرة ، وإسقاطات الحاضر على زمن الأحداث .
إذا كان هذا حال السيرة الذاتية كجنس أدبي لدى الكاتب العربي الذي له تاريخ طويل في الكتابة الإبداعية ، فما بالنا بالكاتبة العربية مبدعة وناقدة والتي تواجه برهانيين شديدي الصعوبة ، الرهان الأول هو تلك الحرية الممنوحة للكاتب الرجل في مقابل الكاتبة المرأة التي لم تنل حريتها كمبدعة إلا في وقت قصير نسبيا ، الأمر الثاني هو التاريخ الإبداعي للمرأة قصير مقارنة بالرجل فقد آن لها أن تبوح ، فكتبت عالمها ولكن ترى كيف كتبته ؟ هل وقعت في ذات الفخ الذي وقع فيه الرجل ، وخضعت لذلك القهر الاجتماعي فلجأت إلى التخييل والإيهام عن طريق السرد السيرذاتي ؟
أرى أن المرأة سيكون لها حضور لافت داخل الجنس السيري ، ينعكس في خصوصية تجربتها ذاتها ، المتشكلة تحت وطأة ظروف لا تماثل ظروف تجارب الرجل كاتب السيرة .. فهو يكتب في مجتمع ذكوري ، ساهم باعتباره رجلاً في صياغة لغته وخطابه وأعرافه ، فيما تكتب المرأة في المجتمع الذكوري ذاته ، كصوت هامشي مضغوط أو مقموع ، مما يلون سيرتها الذاتية بالمزيد من المحذورات والمحظورات والإكراهات التي تعاني منها السيرة الذاتية عامة ، فيكون لجؤها إلى السرد السيرذاتي أعلى كثافة من الرجل على حساب السيرة الذاتية الصريحة . .
ولكن هذا الضغط والقمع المضاعف للمرأة ، سيهبها فرصة تشكيل خصوصية أسلوبية وموضوعية في كتابة السيرذاتية ، فنجدها تلجأ إلى نوع من السرد يعتمد التشظي، وعدم تراتبية الأحداث وسيلة في السرد ، فالرجل مثلا حين يكتب سيرته الذاتية ، قد يميل إلى التراتب الزمني المنطقي في سرد الأحداث ، حتى وإن استخدم فكرة الانتقائية التي تحدثنا عليها سابقا إلا أن المرأة الكاتبة تميل إلى التشظي في السرد .
إن القهر الذي تعانيه المرأة يبدأ من اللغة التي هي جزء من خطاب يلبي دوافع صانعه الرجل ، فصارت اللغة بذكوريتها أحد معوقات الوعي في كتابة المرأة ، وترتب على ذلك ما هو أخطر ثقافياً إذ تحولت المرأة إلى موضوع ثقافي ( وأعجب من الذين يستشهدون بكتابات إحسان عبد القدوس باعتبارها دليلا على عدم التفريق بين الكاتبة ذكورية ونسوية ، فالمرأة كانت في كل كتاباته موضوعا يكتب عنه وليست ذاتا فاعلة ) ، إذن المرأة بسبب ذكورية اللغة ، ولم تعد ذاتا ثقافية أو لغوية .
فاللغة هي أولى المفردات الخاصة في السيرة الذاتية النسوية ، حيث تحاول المرأة أن تؤكد وجودها كائناً سيرياً بتحويل ذاتها إلى موضوع ، وتستخدم السرد بضمير للتأكيد على الوظيفة التعبيرية لعناصر الرسالة الأدبية ، فهي مرسلة الرسالة هذه المرة ، وليست موضوعا للرسالة .
ثم يأتي القهر الاجتماعي الذي مورس على المرأة طوال عمرها شكل تقييدا لعدم نمو الوعي بالذات لدى المرأة ، وحوّل إبداعها إلى صراخ أيدلوجي مطالب ومدافع عن حقوق أهدرت .
إلا أنه رغم كل هذه المعوقات لا يمنع أن نشير إلى أن المرأة العربية قد حققت طفرة في الإنتاج الأدبي و النقدي السير ـ ذاتي ، طفرة نوعية واضحة على مستوى كتابتها للسير الذاتية، وأيضا على مستوى إنتاجها لخطاب نقدي وتحليلي سيرـ ذاتي مواز، سواء اشتغل هذا الخطاب على السير الذاتية العربية التي كتبتها المرأة أو التي كتبها الرجل.
ونذكر في هذا المجال باحثات وكاتبات عربيات حققن طفرات حقيقية إبداعا ونقدا منهن : نوال السعداوي ويمنى العيد و رشيدة مهران و ليانة بدر وجليلة الطريطر و ريم العيساوي و ماري تريز عبد المسيح أحلام دياب، هدى الصدة، سعاد عبد الوهاب، زهرة جلاصي، شيرين أبو النجا.. وهو ما يظهر أنهن يشكلن اليوم تراكما مهما في الأسماء والكتابات.
وحين نأتي إلى نموذج صارخ يقع في تلك المنطقة البينية ، بين السيرة الذاتية والسردالسيرذاتي لن نجد مثالا أوضح من " خلوة الغلبان " لإبراهيم أصلان ، فهي ليست سيرة ذاتية خالصة يوثق فيها الكاتب لحياته وفق الشروط التي وضعها فيليب لوجون وسبقت الإشارة إليها ، كما أنها ليست رواية بالمعني المتعارف عليه لسبب بسيط ، وهو أن أصلان حاضر بشخصه كراو للعمل ومشارك في الأحداث التي يتم انتخابها ، بل يغالي في مراوغة الكاتب فيذكر أسماء شخصيات حقيقية ، لكنه يضعها في آفاق سردية صانعها هو ، وهو الحكم والفيصل في صدقها من عدمه ، فنجده يذكر نجيب محفوظ ويحيي حقي ويوسف إدريس والغيطاني وغيرهم من الكاتب والأعلام الحقيقيين ، لكن المنطلق السردي يصنعه هو وفق مخيلته التي تستعيد أحداثا بعينها ، يقوم بانتخابها بعناية ، ويتورط فيها كبطل وسارد في آن ، بطل لزمن مستعاد ، وسارد لزمن حاضر ، كما سبق وأشرنا في تقسيمات الزمن في السيرة الذاتية .
حافظ على مسافات السرد المشدود إلى ذاكرة متدفقة تحفز وجودها في الأمكنة العديدة، مستفيدة من حضور الكاتب، الراوي الذي يفيض شاعرية وشفافية، ويستطيع تقديم مشاهد معبّرة عن إيقاعات متنوعة في الحياة
إن الماضي هنا ليس مجرد مساحة زمنية لحركة الأحداث والوقائع، بل هو ملجأ سري نصعد منه عبر مستويات الزمن كلها إلى أحلامنا وتشوّفاتنا دون أن نبتعد عن طفولتنا. هكذا تصبح مقاربة الماضي فعلاً نوستالجياً أكثر قسوة وإشراقاً من مجرد التذكّر البارد
إن منطق الكشف السيري الذي اعتمده أساساً لعمله هو منطق مثقف يستعين ويقارب كل ما هو متاح من رؤى وأفكار ومعارف، من أجل تعميق صلة الكتابة بالحدث والارتفاع بذلك إلى مستوى الفن.
القاهرة
هويدا صالح
ديسمبر 2008



#هويدا_صالح (هاشتاغ)       Howaida_Saleh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- باليه فتاة متحررة / جان دوبيرفال
- الست كوم وفنون ما بعد الحداثة
- ليل الثعالب
- صورة المرأة في السرديات العربية / سيدة الأسرار نموذجا
- حوار هويدا صالح في مجلة الفسيفساء الثقافية التونسية / محمد ا ...
- برهان العسل بين كسر التابو ولغة الجسد غير الموظفة فنيا
- شبابيك هدية حسين المفتوحة
- الرماد في عيون من ؟!
- النوستالجيا في ثنائية السفر
- عطر البنفسج الذي شاغب روحها
- جدلية الزمان والمكان في رائحة الغائب
- أسئلة القصة القصيرة
- سينما السبعينيات وحقوق الإنسان
- النساء يبحثن عن كوي للضوء ما بين قاسم أمين والطاهر حداد
- قراءة في قصص ذاكرة الجسد
- المرأة الحزينة والمرأة الحالمة دوما
- الشيخ أحمد
- كوي صغيرة نبص من خلالها علي أعماق الأنثي المنسية
- أفضية الذات / عندما يصبح النقد موازياً
- رجل وحيد وشجرة عارية


المزيد.....




- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هويدا صالح - الكاتب العربي ما بين السيرة الذاتية والسرد السيرذاتي ... خلوة الغلبان نموذجا