|
ليلى والذئب ثانية
ظاهر شوكت
الحوار المتمدن-العدد: 2595 - 2009 / 3 / 24 - 04:49
المحور:
الادب والفن
يحلم الطير بالفجر ليبدأ يوماً جديداً ’ يستقبله بفرحٍ ،ولا يعلم أن يوماً قد نقص من عمره ، ما أسعده ! يترقب الكثيرون خيوط الفجر ليطردوا الظلام ، هذا المارد الملغوم بشتى الهواجس ، وليرى كل واحد منهم الاخر بأمان ،ويستعجل بعض العشاق مجيء الفجر ليتخلص من الأرق الذي نكأ الجراح ، وبلغت حرارة أنفاسهم حد التوقد ، وقد يرى بعض الأثرياء من أصحاب الكروش المكتنزة في الفجر بداية لنوم آمن بعد ليلة ثقيلة في فرحها أو مخاوفها ... ويرى المعذبون في الأرض الفجر رمزا لأشياء كثيرة ، يحلمون بها بإستمرار ، ولكن ماذا يعني الفجر بالنسبة الى سعيد !؟ ركله بقسوة ، وبصوت أجش صرخ : - إنهض أيها الكلب الأجرب ، ( ثم إبتسم بسخرية واضحة ) كيف تفوتك صلاة الفجر ؟، إنتفض سعيد مرعوبا وصرخ : - ( اويلي يابه !) * مد يده الى قدمه ، أمسك بها ، ضغط عليها وكأنه يحاول إخراج الألم ، كما يفعل الملدوغ محاولا إخراج السم ، أكثر من دمعة قبلت خديه ،لكنه تحامل على نفسه حين وجد الفيل قبالته ينظر اليه كذئب يتفحص فريسته التي خدرت بعد العضة الأولى ،حاول النهوض ،ضربه الفيل على اليته بقوة ،حاول أن يمسك بها ، إلا أن الضربة التالية كانت أسرع ، فقفز الى الأمام على نحو لا إرادي ( مشيرا بقبضته الغليظة المشعرة ، صرخ الفيل ) تعال ...... هنا .. هنا ، يا كلب ، يا سافل . إقترب سعيد كجرذي مذعور يحاول الافلات من هر شرس ، وقد امسك بيده اليسرى إليته ، بينما رفع اليمنى ليتقي ضربة متوقعة ، انه ملاكم خائب ، إكتشف بعد لحظات من الجولة الاولى أن خصمه يتقن الضربات القاضية ، بدا كل شيء فيه متخاذلا على نحو مشين ، سخر في داخله من نفسه حين تذكر كلمته الساحرة (متوهمون ) ، كيف يتقي هذا الغول الذي يتلذذ في افتراس كل ما هو آدمي فيه ؟ادرك توا : إن الاجابة عن هذا السؤال هو الاهم . تله الفيل من رأسه ، أوقفه حذاءه ، كان صوته موسى يوغل في جرح عميق ، ومن غير تخدير . اسمع يا كلب : اسمع أيها الصرصر الذي لا يستطيع أن يعيش إلا في الاماكن القذرة ، اليوم ستقابل الاستاذ ، وإياك إياك أن تقول له إننا ....... (سرت رعشة فرح في قلب سعيد ، وردد : ألم أقل لك إنهم متوهمون ؟ فالاستاذ هو الذي يبت في الامر ، والاستاذ لا يرتضي هذا السلوك المشين من هؤلاء الصغار ، الحمد لله الذي .....) وكزه الفيل بقوة مستنكرا هذه الاغماضة من سعيد ، انه يقرأ تماما ما يجول في خاطره : - ما لك يا حقير ؟ الا تسمعني ؟ مد سعيد اصبعه في اذنه ، انه يحاول ان يوسع فتحتها ليسمع جيدا ، وردد بهزيمة واضحة : نعم سيدي ، انني أسمع ..... ها انني استمع اليك يا سيدي . عاد الفيل الى تماسكه نوعما : يا سعيد ستقول ان الجماعة اكرموني ، احسنوا معاملتي . ( وضع سعيد يده على رأسه وهو يردد نعم .... نعم سيدي ) واصل الفيل بلهجة اقل قسوة : الاستاذ لا يحب الكلام الكثير ، ولا يحب الصوت عاليا ، ولا يريد احدا ان يحدق في وجهه وهو يتحدث اليه ، عليك ان تنظر الى الارض ، ان تحني رأسك كان سعيد يهز رأسه بصورة عمودية ، وعلى نحو آلي مثل دمية خصصت لهذه الحركة ، فمه كان مفتوحا وبدا لسانه غير مستقر ، ربما استعار هذه الحركة من حيوان اعجب به من غير ان يشعر به احد ، ربما ! وبلهجة اكثر توددا واكثر وضوحا ، واصل الفيل : انه يقصد كل كلمة ، بل كل حرف ينطق به ، افهم يا سعيد ( ثم اقترب منه وربت على كتفه وكأن الجولة الاولى قد انتهت ) - اخ سعيد ، ستتناول الفطور ، تغسل وجهك جيدا ، ترتب ملابسك وتستعد للمقابلة ( كاد سعيد ان يضحك ، فرك عينيه على نحو طفولي ، مد اصبعه في اذنه ، وهو يتفحص الفيل ، }أخ{ رائعة هذه الكلمة ) جفل سعيد على صوت الفيل فتطلع بدهشة : 7 ، 17 ،30 ، 63 بعد لحظات ، تجمعت الارقام بهياكل بشرية خشبية الوجوه ، وقفت تؤدي التحية ، وتقول بصوت واحد : نعم سيدي - الفيل ( بلهجة امرة ، واقتدار واضح ) : اجروا اللازم قبل المقابلة . القطيع ( بصوت واحد وهم يؤدون التحية ) : نعم سيدي ( ما بال هؤلاء ؟ يؤدون هذه التحية الفجة كلما دخلوا او خرجوا ، ما بال سعيد يجفل كل مرة ؟ اي قدر احمق قاده الى هذا ؟! ) بعد أقل من نصف ساعة ، صار سعيد منشغلا برفع سرواله ، والتأكد من عدم نزوله من محزمه ، كرر النظر مرات ومرات الى قميصه ، انه يخاف أن يفيض على سرواله ، وعلى نحو قد يكون غير مسموح به في محراب المسخ هذا ، إن سعيد يتوجس من كل شيء ، يفكر قبل كل شيء بالسؤال : أمسموح بهذا أم لا ؟ مد يده الى رأسه يصفف شعره ، آه لو كانت لديه مرآة ! للتأكد من كل شيء في رأسه ، خارجه وربما داخله ، سيقابل الاستاذ ، والاستاذ بالتأكيد يمتلك القدرة على أن يرى رأسه من الداخل ، هؤلاء جن الارض في هذا العصر ، جفل سعيد مرة أخرى ، وقطع افكاره ، وهو يسمع الفيل يؤدي التحية المزعجة ، ويقول للاستاذ بذلة : - سيدي ، صباح الخير ، انه جاهز . الاستاذ ( بتعال واضح ) : دعه يدخل . صرخ الفيل بحرارة : أخ سعيد ، تفضل . كان سعيد متأهبا للدخول كما يتأهب المتسابقون في الجري ، وهم ينتظرون بقلق اطلاقة البدء ، لكنه تراخى وأبتسم عندما سمع ( أخ سعيد ) ، تذكر أنه يجب عليه أن يخاف ، فلملم نفسه ، وأسرع وهو يردد : نعم سيدي . رفع يده مؤديا التحية من غير أن يستعمل قدميه كما يفعل الاخرون وخطى الى امام . حين دخل الغرفة ، صعق سعيد تماماً ، تسمر في مكانه ، هاجمته هواجس تطلب منه أن يعود من حيث أتى ، ربما أخطأ في المكان ، ولكن صوت الفيل رن بقوة في اذنه فرفع يده مؤدياً التحية ، دقات قلبه أصبحت واضحة من إضطراب صدره ،جفاف فمه وإضطراب لسانه واضحان من بعيد ، وهو يستعين بلسانه الذي يخرجه بين الفينة والفينة ليمسح شفتيه ، لا يشك من نظر اليه تلك اللحظة في أنه مصاب بالتدرن ومنذ زمن ، بشرته الشاحبة لحد الموت تكشف عن ذلك ، ساقاه ترتعشان بشكل مفضوح ، ما أتفه الحياة عندما تتجسد في سعيد ! غرفة واسعة تستوعب كثيرا من هموم وعذابات الناس ، نظيفة أكثر من وجوه الالوف ، مرتبة على نحو لا يخطر في بال سعيد ولا في الاحلام ، طاولة كبيرة الى حد التشوه ، فوقها اجهزة هاتف مختلفة الالوان ، سأل سعيد نفسه هامسا : هل يتحدث عبرها جميعا في لحظة واحدة ؟ كيف ؟! جهاز تلفزيون ، اجهزة اخرى لم يكن سعيد يعرف اسماءها او اعمالها ، ولكن وضع في باله ان يكون من بينها جهاز تسجيل ، مسكين سعيد ، لا يعرف ان هؤلاء لا يستخدمون اجهزة كبيرة ، فمصانع الموت هنا ، ومنذ اكثر من ثلاثين عاما تستورد اجهزة دقيقة ومذهلة في قدراتها . على الجدران لوحات كبيرة ، ملونة ، هلامية او انعكاسية ، تعرض اكثر من صورة بالتناوب وحسب زاوية النظر ومساقط الضوء . لدى دخول سعيد ، واجهته لوحة كبيرة جدا ، توزعت فيها افكار متنوعة ، في الزاوية اليمنى سماء زرقاء ، فيها قطع من الغيوم البيض ، بينها ملائكة باجنحة ، تنتقل بفرح واضح ، في الوسط قطيع من الذئاب تجري لاهثة وكأنها تريد افتراس الداخل الى الغرفة . ( جفل سعيد ، حاول ان يرفع يده ليخفي وجهه ، هم بأن يستغيث ، لكنه استفاق على ضحكة الاستاذ والفيل ، وهما يتفحصان وجهه ) ، الى اليسار مجموعة ترتدي ملابس سود ، وضعت اقنعة على وجوهها ، انهم يشوون طفلا ، احدهم بدا يحاول انتزاع قطعة لحم ، لكنه لم يفلح لان اللحم لما ينضج بعد ، كما ظهر القائم على الشواء محاولا ضربه على يده وكأنه يقول له : لا تستعجل يا غبي . اختفت هذه الصورة ، وظهرت اخرى . في الجانب الايمن اعصار شديد بصوت مرعب ، يدفع امامه سحبا من الدخان الاسود كالقار او اجنحة الغراب ، وبعد مسافة يتسلط الاعصار على تلك السحب فيدفعها نحو الارض الخضراء ، في هذه اللحظة ، تظهر صورة هبل وهو يبتسم ، تتسع ابتسامته كلما اقتربت سحب الدخان من الارض ، تتحول الابتسامة الى قهقه مجلجلة عندما ينجح الدخان في تغطية الارض كلها فتختفي الخضرة ، ولا يبقى الا السواد . (انها الخيبة تماما يا سعيد ، اما زلت تقول انهم متوهمون ؟! ) مد يده ليحك رأسه ، وكأنما يحاول استخراج شيء منه ، مسح شفتيه الجافتين ، ثم سالت يده لتتأكد من وجود رقبته ، بينما راحت يده اليسرى لتتأكد من محزمه ، ما زال سرواله في مكانه ، الدنيا ما زالت بخير . يجلس الى الطاولة ، رجل نحيف ، يبدو طويلا ، تتخلل شعر رأسه خصلات من الشعر الابيض الكرستالي فتضيف اليه هيبة ووقارا ، بشرته المشربة بحمرة واضحة تنم عن الاثراء في كل شيء من الدنيا الا ....... بدلته السوداء كانت تناسب قامته الطويلة وبشرته البضة ، أطلت من وسطها ربطة عنق حمراء تستفز الخائفين ، أمامه انواع كثيرة من السيكار الطويل ، المنتفخ . ردد سعيد في داخله : عجيب كل شيء هنا متعدد ، متنوع الا هذا الرجل المتأنق ، الهاديء ، الوديع ، يبدو إنه طيب وذكي ، إنه المنقذ يا سعيد. ( رفع الاستاذ رأسه مبتسما ، مندهشا وكأنه اكتشف وجود سعيد ): اهلا ، اهلا ، زارتنا البركة ، من ؟ سعيد ، أهلا ، مرحبتين ، ثم قام من وراء مكتبه متوجها صوب سعيد الذي تكور من الداخل وتشتت ، وقف مرتجفا ، يهز رأسه على نحو مضحك ، انه يبتسم ... بل يكشر فيظهر لسانه غير مستقر , ردد في داخله : ( ألم اقل لك يا سعيد إنهم متوهمون ، والله العظيم متوهمون ، لماذا يرحب بي الاستاذ على هذا النحو ؟). جلس الاستاذ قبالة سعيد ، تناول سيكارا غليظا أوقدها بإحتراف ، أخذ منه نفسا عميقا ثم أطلق دوائر من الدخان ، وهو يشير الى سعيد بالجلوس ، وسعيد كجرو أخرجوه من مستنقع ، مرعوبا يهز نفسه بحذر ليسقط عنه قطرات الـــــ ...... الاستاذ ( بتودد واضح ) تفضل سعيد ، اجلس ، زارتنا البركة . تعلقت عينا سعيد بالاستاذ ، وكأنما يكتشف كنزا كبيرا من الامان الذي يبحث عنه ، تذكر نصيحة الفيل فبدأ ينظر الى الارض ، تلك اللحظة لو امتدت يد الاستاذ الى سعيد لتجلسه لتهدم سعيد تماما . جلس على كرسيه جلسة متكورة تفضح أنه لم يتعود على مثل هذه الجلسات ولا الجلوس على مثل هذا الكرسي الوثير ، وتحول سعيد كله الى آذان تستمع وهو يطرق ، مد يده الى محزمه فشعر بشيء من الامان حينما وجد سرواله في مكانه . قدم الاستاذ سيكارا الى سعيد الذي كاد ان يغمى عليه وهو يعتذر ، إنه يكره الدخان والسياسة والتحية التي يؤديها الفيل كلما تحدث الى الاستاذ او تحدث الاستاذ اليه ، ولكن أمسموح بمثل هذه اللاءات الثلاث هنا ؟ ( يبدو الاستاذ متفهما ) .. هكذا هدهد سعيد رأسه الذي يغلي ، وقلبه الذي يحاول اختراق صدره للخروج وهو يتمنى ( آه لو أعرف ما يدور في رأس الاستاذ ! لماذا يتبآطأ الأستاذ في حديثه ؟لماذا لا يدخل في الموضوع مباشرة ؟). داهمه خوف جعله يتلفت يمنة ويسرة مما جعل الأستاذ يضحك ( أصرت تعلم الأستاذ ؟ تعترض عليه ؟ أتحولت الى بطل يا سعيد ؟) لملم نفسه مرعوبا . وبدا مهتما بحرارة بما سيقوله الأستاذ ، ضغط الاستاذ على زر الجرس ، وبعد ثوان ، دخل الفيل ، وكعادته أدى التحية التي تغتصب سعيد دائما ، وكعادته وقف سعيد واضعا يده على جانب رأسه ثم على صدره ، وهو يبتسم بتكلف واضح مرددا : أهلا سيدي .. نعم . صرخ الأستاذ : لا يا سعيد ، تفضل اجلس ، مثل هذا ( مشيرا ًالى الفيل ) لا يستحق كل هذا الاهتمام ، ومنك انت بالذات ، ثم التفت الاستاذ الى الفيل ، وبلهجة آمرة : هات شايا ً ، عصيرا ً، بعض الفواكه ، ..... هات كل الاشياء عندكم فضيفنا رائع وعزيز ، ثم اخذ نفسا ً عميقاً من سيكاره وراح يطلق حلقات من الدخان العبق ، والذي صار سعيد مشدودا اليه يحاول أن يعب رئتيه منه... أمسموح بهذا هنا ؟ الله أعلم . جفل سعيد على صوت تحية المغادرة التي اداها الفيل وهو متسمر في مكانه (هل قدَ وجهه من صخر ؟!) همس سعيد في داخله ( رائع وعزيز ، ما أروع الاستاذ ! الم اقل لك إنهم متوهمون ) أبحرت عيناه متلذذا بأفكار طرية عن الاستاذ والمستقبل ( ما أروعه لو إستغنى عن الفيل ! ) الأستاذ ( مبتسما ) : هذه امور روتينية ، لا تشغل بالك بها ، عود نفسك عليها ، أنت إنسان رقيق وكل الادباء والمثقفين تستفزهم الاصوات الجافة ، يكرهون الضبط كما يكرهون اشياء كثيرة اخرى .. ( عجيب ، كيف يستطيع الاستاذ قراءة ما يختلج في قلبي وعقلي ! الا يحتمل أن يكون ساحرا ً ؟! اسكت يا غبي ، هؤلاء يعرفون كل شيء ، لعلهم يمتلكون أجهزة تكشف لهم كل ذلك حين يتحدثون مع الناس ) . الأستاذ ( قطع على سعيد رحلته اللذيذة قائلاً ): سعيد أنت عزيز حقا ، تدارسنا وضعك ( حاول سعيد أن يتقدم من الاستاذ مبتسما وكل جزء فيه يرتجف ، أنفاسه كانت حارة أكثر من انفاس العشاق في زاوية خفية ) توصلنا الى حقيقة مفادها : ( توقف الأستاذ ، شعر سعيد بالخيبة تبتلعه ثانية .. لماذا توقفت يا أستاذ ؟ أكمل فديتك بأبي وأمي أكمل يا أستاذ ، أهي لعبة مفضلة لديك ؟! لا أعتقد ) عينا سعيد مشدودتان بتضرع يثير البكاء الى فم الاستاذ ولكن الأستاذ نهض وعاد الى الجلوس وراء مكتبه ، شعر سعيد بالاختناق عندما استأنف الاستاذ : ( رفع الاستاذ رأسه ميتسما وهو يتفحص وجه سعيد ) لقد كنت يا سعيد ذكيا حقا في سيرك بأمان بين اكوام الاشواك التي تقبع تحتها أفاع وعقارب ، أنت يا سعيد ، ( توقف الأستاذ ، عندما دخل الفيل ووراءه اثنان يحملان صحونا وأكوابا ، وقف سعيد كعادته واضعا يده على الجانب الأيمن من رأسه وهو يردد : اهلا ... نعم سيدي ، طلب الأستاذ من سعيد أن يعود الى الجلوس ) وبعد إبتسامة سريعة قال الاستاذ : هؤلاء ( مشيرا الى الفيل واللذين انشغلا بوضع الصحون والاكواب على طاولة صغيرة جاء بها أحدهم ووضعها امام سعيد ) . هؤلاء أغبياء قد لا يفرقون بين الدفلى والزنبق ، فهل أحسنوا معاملتك ؟ سعيد ( متلعثما ، أخرج لسانه أكثر من مرة ليرطب شفتيه الجافتين على نحو صحراوي ، وجد صعوبة في إخراج الكلمات فبدأ يتنحنح ، إح ...إح ...إح ) انهم طيبون بارك الله فيهم . الأستاذ ( متظاهرا بالحزم وهو يبتسم ) : والله لو فعلوا غير ذلك لقصمت ظهورهم ، وأمامك أيها العزيز .. ( ابتسم سعيد وأغمض عينيه متلذذا ، ألم أقل لك يا سعيد ، فالكبار لا يقبلون الاساءة الى احد ، إنما الصغار يشوهون الصورة الرائعة ، مر امام ناظريه انه يجلس بين مجموعة من اولئك الذين يكتبون عن الاحجار والنذور ولعب الاطفال ، ويصرون على حمل كتب ضخمة في مظهرها حتى في الليل ، إنه يبشرهم بالامان ، بالخير ، فالكبار لا يرتضون الاساءة الى احد فكيف بالمثقفين ؟! لا داعي للخوف ما دام الامر يؤول في النهاية الى الكبار ، وجد سعيد نفسه بطلا بأنه تعرض لمثل هذه التجربه الدسمة ، وقد يلفق قصصا مثيرة تخلق منه بطلا ، ومن يستطيع أن يكذبه ، لقد كان سعيد لوحده ) ، انتفض سعيد عندما شعر بيد الأستاذ تلامس يديه يريده أن يستفيق من هذا الحلم اللذيذ . الأستاذ ( بإقتدار وبصوت فيه ود واضح ) نعم ، نحن لا نقبل الاساءة الى الطيبين مثلك . ( ما أروعك يا أستاذ : أنا اذن من الطيبين ..إنهم يظلمونكم عندما يتحدثون عنكم ، سأعود اذن الى بيتي ، فالامر قد لا يتجاوز الاستضافة للتعارف ، أغمض سعيد عينيه وكأنه يطبق على حلم لذيذ يحاول الافلات منه ، وستكتب يا سعيد عن حجارة جديدة تم اكتشافها في وادي الموت هنا ، ستصبح أكثر شهرة بعد هذه التجربة الدسمة ) جفل مرة أخرى على صوت التحية التي اداها الفيل ، مد سعيد يده الى محزمه فشعر بالامان ، هم بالوقوف لكن الاستاذ شعر بشء من الانزعاج فصرخ به : ما بك يا سعيد ؟ ألا تثق بنفسك ؟ أنت استاذ في نظر الجميع ، وأنت استاذ الأساتذة بالنسبة الينا ، الا تدرك لماذا نتسابق في خدمتك ؟ لم تعد هناك بوصلة يستعين بها سعيد لمعرفة اتجاهاته ، أحس بأن الدنيا تدور ، يحاول أن ينظر الى الاستاذ فيتذكر نصيحة الفيل ، فيتجه بنظره الى الارض وهذا يزيد من دواره ، كل جزء منه يحاول الاسراع الى رأس الاستاذ ليكتشف ماذا يريد ، ولكنه لم ينس شيئا يشغله دوما ، أن يمد يده الى محزمه ليتأكد ان سرواله ما زال في مكانه ، وما عليه الا ان يبدو مبتسما ، وأن يظهر لسانه قلقا في فمه وهو يكرر ادخال اصبعه في اذنه .. انه ليس بأطرش ولكن ..... الاستاذ ( بلهجة وضح فيها حزم ، وربما تهديد خفي ) بعد دراسة دقيقة لوضعك الثقافي ( توقف الاستاذ ثانية ، تناول سيكارا جديدا ، وهو يختلس النظر الى سعيد الذي شعر بأن الدنيا قد توقفت تماما ، وأن الساعة على وشك القيام ، اهكذا تصبح الدنيا ضيقة ؟! صغيرة ؟! لماذا يتوقف الاستاذ ؟ قد لا يتحسس التهشم المستمر في رأسي وفيضان الخوف والتشتت في قلبي ، سيأتي الفيل بالتأكيد ). الاستاذ : قررنا ان تتولى يا سعيد ادارة المسرح الحديث ( ابتسم الاستاذ واخذ نفسا عميقا من سيكاره وأطلق دوائر من الدخان العبق ، الا ان سعيد هذه المرة لم تستهويه اللعبة ، فلم يحاول ان يعب منه ، ثم إتكأ على كرسيه الدوار وبدأ يدور وكأنه تخلص من سر اثقل صدره .. انه يبتسم ، يدور ، يدخن وقد بدت عليه رغبة جدية في انهاء هذا اللقاء ، اية قنبلة فجرها الاستاذ بهدوء ، يا للهول !!.( ترك الكرسي مندفعا نحو الاستاذ مأخوذا وكأن مسا اصابه ، وبصوت عال ) صرخ مستنكرا : أنـــــــا مدير! للمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ........ قاطعه الاستاذ : ولماذا تعجب يا سعيد ؟ ليسوا بأحسن منك ( حاول سعيد ان يقبل يد الاستاذ قائلا ) : ولكني لا افهم شيئا في المسرح . دفع الاستاذ سعيد وبلهجة المستنكر : - الا تعرف القراءة والكتابة ؟ - سعيد ( بلهفة ، يكاد الشرر ان يتطاير من حرارة انفاسه ) نعم سيدي ... نعم ولكن ...... الأستاذ مقاطعا : هذا يكفي .. هذا يكفي ( وقد رفع يديه الى اذنه معلنا انه لا يسمع ثم ضغط على زر الجرس ) ، دخل الفيل مؤديا تحيته الفجة ، التفت سعيد فوجد الفيل ، اعتدلت قامته ، لملم نفسه ووضع يده على الجانب الايمن من رأسه .. اهلا سيدي . الأستاذ بلغة آمرة : هل اتصل الرقم 1963؟ الفيل ( مسمرا في مكانه ) لا سيدي . الاستاذ : ( وهو يختلس النظر الى سعيد ) أخبروه بتفاصيل الصفحة 31. الفيل : نعم سيدي ( ادى التحية وغادر ) . عاد سعيد الى مكانه خائرا ، أصيب بخرس واضح ، لكنه سمع صوتا ساخرا في داخلــــه ( انه رجل طيب ، ذكي ... ) الكبار لا يقبلون الاساءة الى الطيبين مثلك ايها الطيب المثقف ...اما زلت لا تفرق بين السراب والماء ايها الغبي لحد العظم ؟! قطع الاستاذ عليه هذه الافكار وبلهجة حازمة مستنكرة : - عجيب ، الناس يتقاتلون على عمل مثل هذا ، وانت ترفض هذه النعمة العظيمة ! إنك – اسمح لي ان اقول لك – انت بطران بل وغبي ... وانت لا تحسن الا ان تهتز وترفع يدك الى الجانب الايمن لرأسك أو ان تضعها على صدرك وتكشر على نحو مقزز .. كل ذلك اذا رأيت عنصرا تافها من عناصرنا مثل الذي جلبك الى هنا .. يبدو انك تعتقد اننا مغفلون . سعيد ( بحشرجة واضحة أسرع قائلا ) معاذ الله ، حاشاكم سيدي ، أنتم ..... قاطعه الاستاذ : انك لا تريد التعاون معنا ، هذا هو السبب الحقيقي ، لست مغفلا كما تتصور . سعيد : معاذ الله ... حاشاك يا سيدي ، ثم اندفع ليقبل قدم الاستاذ الذي شعر بالملل ، فضغط على زر الجرس ودخل الفيل الذي امتص هياج سعيد . الاستاذ ( متحدثا الى الفيل الذي وقف كقطعة رخام ) : بعد غد ، الساعة الرابعة عصرا عندما يصل سعيد ، سهلوا امر دخوله علي ، سأعطيه هذه الفرصة ليراجع نفسه ، والامر متروك له ...... لانه حر ( لم يعد سعيد يقوى على الكلام تماما ) الفيل : نعم سيدي الاستاذ ( بشماتة واضحة ) الان خذه واعده الى بيته ، ضعه حذاءك في السيارة ، خذ طريق السوق ، دعهم يرونه ، الناس مشغولون عليه الفيل : نعم سيدي . سعيد نهض كقطة استسلمت عندما باغتها كلب ، وصار يخطو وراء الفيل الذي كان يردد بطرب : استاذ سعيد : انت شمعتنا ، اي حظ رائع جعلني اتعرف عليك يا استاذ ؟ انت اسم على مسمى . سعيد ( وقد اطلق حسرة كادت تحرقه تماما ) انها الخيبة مرة اخرى يا سعيد ، انها تلازمك أنى مشيت ! ................................................. *(اويلي يابه ) بمعنى الويل لي ، يقولها العراقيون في المواقف التي تقترن بالالم والخيبة
#ظاهر_شوكت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صحوة ابن زريق البغدادي في شباط 2004
-
صوت وصدى
-
رسالة من غرفة الافراح عام 1963
-
رسالة من ( نقرة السلمان )
-
ذكريات من زمن الكوليرا
-
اعترافات مهاجر
-
بحثا عن عصا سحرية
-
فلسفة التسميات
-
من الذاكرة الذهبية
-
هوامش على حرب المياه
-
الفرح ممنوع بأمر ..........
-
لوحة زيتية في زمن الرداءة
-
نزيف في محراب ال...........
-
مهاجر يسجل انطباعات عن قصائد الشاعر صفاء المهاجر
-
قراءة في رواية (ورد الحب .. وداعا) للكاتب محمد الاحمد
-
روما (تحترق ثانية)ويضحكون ...!!
-
الاساطير والنفس البشرية
-
صناعة الاساطير في عصرنا الحديث
-
ضرورة الاسطورة قديما وحديثا
-
وظائف الاسطورة قديما وحديثا
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|