أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد مضيه - عرض كتاب -الإنسان المهدور- الحلقة الثانية















المزيد.....


عرض كتاب -الإنسان المهدور- الحلقة الثانية


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 2590 - 2009 / 3 / 19 - 10:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



في الحلقة السابقة وشملت عرضا موجزا للفصول 1،2، 5 تمت مقاربة الهدر في تجلياته مع الاستبداد ومع الأصوليات والعصبيات ، ثم هدر الفكر والوعي والطاقات ، حيث تصب تلاوين الهدر. يحذر الباحث من التعتيم على هدر الفكر والوعي والتركيز على مطلب الديمقراطية او ظواهر الفساد. يتعين تسليط الضوء على الهدر الثلاثي. ذلك أن تعطيل التفكير يسفر عن الاغتراب وعدم التحكم في المصير الوطني. إن تعطيل التفكير وكذلك تهميش الأفراد من شأنهما إضعاف نشاط الجزء المختص بالتفكير من الدماغ والحد من الضبط العقلي وفتح السبل للانفعالات والنزق. السلطة المستبدة تحظر بكل الوسائل الفكر المغير للواقع وهو ما يطلق عليه الباحث " تعقيم الفكر من قدرته التخصيبية التغييرية". وعلى وجه العموم فالاستبداد يعطل شروط نشوء الثورات العلمية داخل المجتمع ويدفعه نحو الموت. فلا حياة للأفراد، كما الجماعات والمجتمعات إلا بالتفكير وإطلاق العنان له. التفكير هو الحياة المليئة المتجددة المستوعبة والظافرة والصانعة لمكانتها ومصيرها. وموت التفكير هو النكوص والتقهقر إلى مستوى الحياة النباتي، والدخول في فئة الشعوب المستغنى عنها .
وفي الحلقة الثانية نعرض بشكل موجز الفصول الثالث والرابع والسابع.
في الفصل الثالث الذي يتناول الاستبداد والطغيان وهدر الإنسان يستعرض الباحث عملية إدارة الإدراك لدى المجتمع وتكييفه لحكم الطاغية. والمجتمعات العربية مبرمجة منذ العصر الوسيط. قرون الاستبداد السايقة تركت آثارها المخربة للوعي، ما يؤكد استنتاج فرويد من أن "اللاوعي الثقافي هو ذلك المخزون الثقافي المتوارث الذي يوجه الميول والرؤى ويحدد السلوكات بشكل عفوي. ليس عجبا انتظار الجماهير الفرج على يد بطل يملك السلطة والقوة، بطل منفرد ومتعال يرد لها حقوقها السليبة(111). وقد نقل الموروث الديني منذ العصر الأموي عن حكم الأكاسرة الفرس نظام المستبد العادل، لكن الأمويين ومن تلاهم من السلاطين نقلوا هذه القيمة الكسروية مشوهة إلى ديار الإسلام وتشريعاته؛ ونشرت على الناس محرفة من المقاصد. وذهب الفقهاء المدافعون عن الخليفة العباسي إلى توأمة الدين والملك في الآداب السلطانية (112). وانتقل هذا الموروث في خلايا أنظمة الحكم العربية. فبينما يتهيب الحاكم في البلاد المتقدمة الشعب والمجتمع، ويعبئ طاقاته كي يرتفع إلى مستوى ما يطرحونه عليه من مسئوليات....نجد النقيض تماما هو الذي يحصل في بلاد الهدر. ورغم ذلك استمرت صورة المستبد العادل تلهم الخيال الشعبي، "وكل إنسان شعبي حين تتاح له فرصة ممارسة السلطة على الآخرين لا يجد مرجعية أخرى لهذه الممارسة سوى الاستبداد. يتجلى هذا في سلوكات الفصائل تجاه الناس، رغم أنهم ينتمون لنفس الشريحة التي يمارسون ضدها القهر والهدر.
لا يكتفي المستبد بأدوات القهر والهدر ، بل يفرض ممارسة طقوس من شانها تطويع الجمهور. إنها آليات تسخر بهدف فرض الطاعة وترويض الجماهير." يمدنا علم نفس التحكم بالسلوك بالعديد من المبادئ التي تلقي الضوء على ذلك كله. بدءا من ضبط السلوك الخارجي ووصولا إلى ضبط الذات والأفكار وحتى النوايا من الداخل (87)... همّ الطغيان الأول ليس ردع خصومه؛ بل تدميرهم وإفناؤهم. لا يكتفي بالسيطرة على الناس من الخارج، بل ومن الداخل أيضا، من داخل ذواتهم على مستوى السلوك والفكر والإرادة وحتى الوعي والكيان(79). لدى الإنسان لا تعرف غريزة السيطرة حدودا. والواقع أن الحاجة إلى السيطرة(عن طريق المعرفة) هي نزعة فطرية للفعل ولتعلم كيفية الفعل. وهي تتضمن لذة تنفيذ وظيفة ما بنجاح. والإنسان هو الكائن الوحيد الذي تتجاوز نزوة السيطرة لديه الحاجة إلى التحكم وتتحول إلى نزوة سطوة ، تهدف إلى الاستحواذ على الموضوع والسيطرة عليه بالقوة(83).
في العصر الوسيط برر فقهاء الاستبداد حكم الشوكة بضرورات المحافظة على الثغور وتوطيد الأمن . وظل الفقهاء يبررون للحكام استبداد الحكم "درءأ للمفاسد"، وتجسيدها الفتن. لدرء الفتن يستوجب على " العوام" احتمال بطش السلطان والتنازل عن الحق في الحكم الرشيد. وآخر ما تطور إلية فقه الاستبداد في العصر الوسيط لدى ابن تيمية. يعتبر فقه ابن تيمية المرجع للفكر السلفي المعاصر. دخل ابن تيمية ( أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الحراني( 661- 728 هجرية / 1162-1227م) ميدان الفقه الإسلامي في عصر التشظيات والغزو الأجنبي(الفرنجة والمغول)، فتكرست بذلك مفاهيم المُلك العضوض الطاغوتية. بلغ الأمر بعدد من "الفقهاء" السابقين لابن تيمية أن أفتوا بأنه " إذا ما خلا الوقت من إمام عادل مستحق للإمامة فتصدى لها من هو ليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته ولزمت طاعته لينتظم شمل المسلمين وتجمع كلمتهم . ولا يقدح في ذلك كونه جاهلا أو فاسقا في الأصح ". في ذلك العصر صاغ الفقه مقولة " من يحكم يطاع". ولعل من السهولة أن نلاحظ في كلام ابن تيمية اختلاط الممكن بالواجب؛ إذ يقول في (منهاج السنة):"فبيّن رسول الله ، أن الإمام الذي يطاع هو من كان له سلطان، سواء كان عادلا أو ظالما" ؛ وفي موضع أخر يفتي بأن :"الإمام هو من يقتدى به ، وصاحب يد وسيف يطاع طوعا وكرها .." . الملك العضوض حافظ في العصر الوسيط على الثغور ورد التطاولات الأجنبية؛ إذ كان التخاذل يعني فقدان العرش والأغلب التصفية الجسدية مع الأسرة المالكة كافة، كما حدث مع الأمويين ثم العباسيين. بينما الاستبداد المعاصر يتفيأ في كنف الهيمنة الأجنبية مهدرا الثروة الوطنية والموقع الاستراتيجي وكذلك الكرامة الوطنية وكرامات الناس على أعتاب سيطرته المطلقة.
صناعة الطاغيةـ إدارة الإدراك

الطاغية يقبل الممالأة والانقطاع له في السعي والإرضاء. ومع الزمن يبادر الأتباع لرصد رغباته بدون إشارات ويسرعون في تنفيذها . فلا قيمة لكفاءة بل للولاء ؛ وحالما يغدو الولاء موضع شك يفقد التابع حتى إنسانيته. يترك الطاغية للأتباع مقدارا كبيرا من المبادرة كي يحملوا الوزر، وكي يبدو الأمر وكأنه لا دخل له فيه. يتركون أذواقهم لذوقه ويستلبون ذواتهم ويعلمونه أنه القادر (85). يسكرونه بنشوة العظمة والتفرد.... لا أمان لأحد ولا غفران لخطأ....أما السند الخارجي فيتمثل بتوسل عقيدة أو مبدأ أو قضية كبرى سامية ذات طابع تاريخي او كياني وحمل لوائها. ... إننا بصدد نوع من التماهي او الحلول : الأمة أو القضية ممثلة بشخصه، وهو رمزها وبطلها وضمانتها(86).
ترويض الإنسان يتجاوز السلوك الظاهري الحركي وصولا إلى تشكيل الإدراك والأفكار والقناعات والعواطف ، بحيث يمثل امتلاك الإنسان من الداخل ، وعلى مستوى الوعي الذاتي والخبرة المعيوشة أعلى مراحل التحكم. .. ومن الأساليب المستخدمة في هذا الصدد " التعلم بالاقتران الشرطي" تبعا لأعمال بافلوف الشهيرة(88). المثبرات التنفيرية في التجارب المختبرية ، بما تولده من آلام تصيب موضوع التجربة تولد الخوف الشديد عند الحيوانات او القلق عند الإنسان.. إن تعلم الخوف أسرع وأكثر ثباتا بما لا يقاس من تعلم أي أمر آخر...هكذا يتم الترويض وتتم قمقمة السلوكات وإيقاف النوايا والأفكار من خلال سلوك هروبي داخلي محض يقوم فيه الشخص باستبعاد النية في التفكير أو السؤال او النقد(92). يغدو مجرد التفكير بالسؤال والاستفسار تطاول وخيانة. ولفرط التعميم يصبح الإنسان رقيبا على نواياه، وعندها يكون الترويض قد بلغ منتهاه من النجاح.(90) استمرار التحكم يمر دوما بمبدأ أن لا ضمانة لأحد من الأتباع ، ولا دوام للحال، وهو ما يضعهم دوما في حالة امتحان الولاء، وإثبات جدارة التبعية للمستبد وجدواها في خدمة سطوته.... وهناك التعزيز السلبي، الذي يلعب على الحاجة لتجنب المنغصات والمنفرات. ... بذلك يشل التفكير وصولا إلى شل النية في النقد أو التساؤل؛ ويتعمم الأمر حتى يصل إلى إبطال الوعي ذاته بما هو استيعاب فكري ناقد ومتسائل. وهنا يتحول المرء على ذاته رقيبا، ويتم تمثل المخابرات ذاتيا إيثارا للسلامة(91). يطلق بعض العلماء مفهوم " استراتيجية الصيد السلوكي" على تصيد تلك السلوكات التي تخدم تعزيز هيمنة سلطة المستبد والشغل عليها بشكل انتقائي.... على أن بعض حالات الطغيان تتجاوز كل ما سبق من ضبط وتجنب ونعلم اجتماعي وتعميم في ترويض الناس وصولا إلى غرس حالة استسلام متبلد للقدر فيما يعرف باستجابة العجز المتعلم؛ وهي تشكل السلوك الأساسي المستهدف في عمليات التعذيب السياسي(93).

يحل المستبد، بعد ان يتحول إلى زعيم مطلق القدرة والسمو في نفوس تابعيه المفتونين بعظمته والسعداء بتمثلهم له, محل كيانهم الشخصي، بل يصبح هذا الكيان الذاتي قبس من كيانه هو(100). أقصى مستويات السيطرة وأكثرها فاعلية تتمثل في أن تكون مرهوبا ومحبوبا في الآن عينه، فبذلك تتحصن المكانة المتعالية التي ترنو إلى احتلال دلالة الرمز. آليات التفخيم والتبجيل. . ... انطلاقا من المبادئ النفسية ـ الاجتماعية تتم عملية مبرمجة جيدا ومشغولة بمهارة، من الاقتران الشرطي بين شخص المستبد والأعياد والمناسبات الوطنية وحتى مباريات كرة القدم، لحمة الانتماء والتعلق والاعتزاز.... يصبح المستبد هو الوطن، والوطن هو المستبد(101).
إضافة إلى مصادرة الهوية والذاكرة والتماهي بهما هناك السيطرة على المجال الإدراكي للناس... حضور مكثف يشكل حالة غمر إدراكي ـ إغراق الإنسان بالمثيرات البصرية والسمعية، والهدف تشكيل قناعات الناس والتلاعب بالعقول ، وصولا إلى دفعها إلى عواطف معينة وسلوكات محددة. ... يندرج ذلك ضمن ما بات يدعى إدارة الإدراك ـ التحكم بأفكار ومواقف وميول الآخرين ، أو بالأحرى تشكيل ميولهم وقناعاتهم بما يخدم الأهداف المرسومة. وتكون الخطوة التالية هي التحكم بالسلوكات والمواقف. الغمر من خلال التكرار والبلورة و التركيز على الموضوع وإبرازه بشكل لافت هي بعض آليات فرض الموافقة(103).
ثم هناك الاستناد إلى الرصيد الديني والموروث الثقافي. أيام الخلافة العباسية ساد القول " من تمنطق فقد تزندق" ، مما يعني إيقاف التفكير والامتثال للواقع والاقتناع به على أنه الحقيقة والفضيلة . وهذا ما فتح الباب أمام كل استبداد وجعله ممكنا ، ذلك أن الاستبداد يقوم على الدوغماتية التي تغلق باب التساؤل والوعي والفكر، وتخلو من أي ريبية تجعل الأمور نسبية ، وتسمح بمراجعة الذات والآخرين. يوجد تطابق يصل حد التناهي بين الانطلاق الفكري والتقدم الحضاري (108).

ليس من منافس لملوك الدنيا سوى ملوك الآخرة في السيطرة على الناس. ويقع الناس في القيد المزدوج أو الخطر المزدوج على العقول والنفوس من خلال ثنائية التجريم السلطوي والتحريم الديني115). التحكم بالرغبات واللذات الجسدية من خلال التحريم يلجم الطاقات الحية وحركيتها . من خلال التحكم باللذات عن طريق التحريم والتحكم بالأفئدة والإيمان من خلال سيف التكفير تقيد الطاقات الحية وتقيد النفوس ويصادر الوعي(116)
تعرف السلطة أن السيطرة على الأفراد تمر من خلال عملية الإفراط في التأثيم. وهم يبدون الرضى عما يرد من الخطباء من تأثيم الجماهير "بسبب انحرافهم عن الدين" ويبتلع الجمهور المتدين بفطرته والمحافظ على أداء الفروض والسنن والممتثل في السر والعلن لأحكام الدين،، يبتلع التأثيم وتتولاه حالة تبخيس الذات وينزف جرحه النرجسي. كما أن الجرح النرجسي الدفين الناتج عن العجز عن المجابهة أو الذي يطلق الغضب المرتد على الذات يصعد بدوره من حدة تشدد الأنا الأعلى وشططه.(118). و القلق الرضوخي يتجاوز الخضوع والتبعية المحضة وتحرك آلية التماهي بالمستبد. كل واحد يتخلص من بؤس كيانه ونقائصه ويداوي جرحه النرجسي بأن يأخذ قبسا من عظمة المستبد أو الطاغية. ، يتبدل بها بؤسه. .. تتغذى عملية التماهي هذه من كل رموز قوة المستبد أو الطاغية وسطوته من خلال آلية الرضوخ إلى القوة والافتتان بها(119)
على أن هذه الآلية في مختلف دينامياتها وعناصرها تظل معرضة للتحولات المفاجئة، ذلك أن العدوانية والغضب ومشاعر الخسارة والجرح النرجسي كلها تظل كامنة في اللاوعي ما دام هناك هدر للكيان الإنساني مصاحب بالضرورة لكل استبداد وطغيان . نزعة الثيموس التي قال بها الإغريق، والتي تمثل الأنفة والإباء ووقفة العز والشعور بالامتلاء الذاتي وليس تعويضا،دفاعيا، تظل كامنة ثاوية في اللاوعي تترقب لحظة ضعف في القمقم الوجودي الذي يسجن الطغيان الناس فيه(120). ولدرء هذا المصير / الكابوس يشغل الطاغية الجمهور بأخطار خارجية يصنعها أو يستغلها ويضخمها. وما من طاغية إلا واصطنع له آلية فاشية لتفريغ العدوانية و الغضب المكبوتين وإطلاق العنان له بعد تحويله إلى أعداء القضية المقدسة التي يقود هو الحرب ضدهم حفاظا عليها.(121)
وراء مظاهر الحرية والليبرالية لا زالت آلية الضبط والقمع البوليسية السياسية في فاعليتها. تعمل بصمت وتكتم فاعل مع القلة القليلة التي تشكل عقبة أمام سطوة الاستبداد. ... علوم الأمن والمخابرات وتجهيزاتها هي الأكثر تقدما في عالم القهر...أما علم الغيب ، ونقصد به استغلال الدين وسيطرة رجاله على التحكم بالغيب ، تفسيرا وتأويلا واحتكارهم لهذه السلطة المعرفية من اجل ترويض الناس من خلال كل آليات التحريم والتحليل المعروفة. ولقد بلغ الأمر بهم إلى تكفير كل فكير.... أننا أمام حالة خصاء فكري فعلي هو وحده الذي يطوب السلطة لرجال الدين، وهم بذلك أكثر حلفاء الاستبداد السياسي ، حتى وهم يدخلون في صراع معه، ذلك أنهم ينتجون نماذج من البشر مسلوبة المرجعية الذاتية وبالتالي جاهزة للانقياد للاستبداد السياسي والديني معا.التحريم والتجريم لا يبقيان للفكر من معرفة ممكنة إلا علم تدبير الحال، إما بالتحايل والإخفاء والتمويه والمداهنة ( مما أطلق عليه أحدهم اسم الدفاع بالحيلة) للسلطات تجنبا لغضبها ونقمتها ، او بالتوقف والتودد والمزايدة طلبا لرضاها (121)
يسارع البعض إلى لعب لعبة الانصياع متوهمين أنهم يخدعون السلطة من أجل اقتناص فرصة غنم يفرج كربة هدرهم الكياني. وفي الحقيقة يخدعون أنفسهم لأنهم يتناولون الطعم الموضوع في الشرك المنصوب. فالفرصة التي تشاطروا في اقتناصها ما هي إلا الفتات المنثور في شراك الاستيعاب والتطويع . ومن طعم لآخر يطوعون ذواتهم غير مدركين أن هذا التطويع هو الأكثر فاعلية والأقل كلفة. (122)...
التطويع الذاتي الذي يمر من خلال وهم خداع السلطة لالتقاط فرصة مغنم تشبه تماما ما يحدث للمعتقلين السياسيين الذين يطلب إليهم كتابة بعض الأشياء أو الإدلاء ببعض الأقوال لقاء وعد بغنم/فتات يتمثل في تسهيلات من نوع ما ضمن الاعتقال. يتوهم هؤلاء أنهم يخدعون المحققين والجلادين من خلال التجاوب مع الطعم. ومن خدعة إلى أخرى إذا بهم يقعون في الشرك الذي نصب لهم حيث يغسل دماغهم وتغير قناعاتهم بدون أن يدروا. وقد يصبحون متعاونين مع الجلادين(123).
وفي الفصل الرابع مقاربة لأساليب العنف المادي من خلال الاعتقال والتحقيق والتعذيب والسجن. وكلها هدر لإنسانية الضحية. " التعذيب ينطوي على إنكار إنسانية الإنسان المعتقل. حالة خارجة عن كل اعتبار إنساني، نحن هنا عند مستوى إلغاء إنسانية الإنسان"(128).... والجديد فعلا هو انتشار أساليب تعذيب خفي تتوسل تقنيات تنال من التوازن النفسي، وصولا إلى ضعضعته، أو حتى تدميره. وبدأت تشيع برامج التعذيب وغسل الدماغ التي تقوم على مبادئ التحكم في السلوك وتغييره. ، كما تقوم على معطيات الطب النفسي. ، وتأثير العقاقير النفسية، وأصبح هناك خبراء تعذيب وتدمير نفسي يعملون جنبا إلى جنب مع الجلادين الجسديين(129). والحالة المثلى للتعذيب هي حين ينتهي إلى تطويع الضحية وتحويلها إلى متعاون أو مخبر . وبالطبع فإن غسل الدماغ يذهب أبعد من ذلك، حيث يستهدف تغيير القناعات نهائيا وبشكل قسري(130). أما الدلالة الثقافية للتعذيب فتهدف إلى تحقير الضحية وإذلالها وتجريدها من دلالتها الإنسانية(131).
يحاول الجلاد أن يكون مهنيا ناجحا، وهو أمام التحدي العنيد الذي يقاوم بصلابة ولا يحب الضعفاء الذين ينهارون منذ اللحظة الأولى، بل هو يزدريهم ويعتبرهم غير جديرين بممارسة سطوته عليهم.... وأكثر ما يثير جنون الجلاد فشله في كسر مقاومة السجين. هو يتفنن في التعذيب كي يحس بالظفر والقوة والسطوة التي لا تقاوم(154)
وهنا تتجسد سادية الجلاد. تحقيق الذات يتحقق من خلال إنزال الألم بالضحية؛ تكريس للأنوية وهيمنتها المطلقة. ... يسعى للاطمئنان على سطوته المطلقة مع الإحساس الدفين بالتهديد والخواء الداخلي والعجز واللاقيمة حيال الضحية(155).
الجلاد المتخصص بالتعذيب نكرة أمام رؤسائه وزعيمه ، إنه مجرد أداة بالنسبة إليهم ، تفقد قيمتها عندما تصبح غير فعالة.... أما خبراء غسل الدماغ من أطباء وأطباء عقليين، ومحققين، فهم بدورهم مجرد أدوات تنخرط في اختبار الكفاءة والفاعلية كي تشعر بذاتها وتحققها، تحت تغطية العمل من اجل القضية السامية أو خدمة الزعيم. إننا هنا، أيضا بصدد حالات مَرَضية من تحقيق الذات وإثبات الجدارة، حيث يتعطل الحس الخلقي والرباط الإنساني. يدرب هؤلاء عموما على إماتة كل إحساس إنساني لديهم ، ويغسل دماغهم من مفهوم العدالة والرحمة (156).
على أن مقاومة الجلادين وتكوين الحصانة ضد التعذيب تقوم على أربعة أركان: توفر عقيدة تتسامى على الوجود المادي؛...مرجعية قيادية يتماهى بها السجين وينتمي إليها؛ الجماعة المرجعية المتمثلة في أخوة القضية أو العقيدة ، والتي توفر " نحن مرجعية". هنا تكتسب الذات قوة ال"نحن" ومناعتها وتستمد منها الحصانة من خلال الانتماء. الضحية لا تظل كيانا فرديا معزولا قابلا للتحكم فيه والنيل منه. ثم تأتي الأسرة ، وخصوصا الأم . ذلك أن لكل بطل أما مرجعية ، والبطولة لا تنفصم عن الأمومة الراعية(137).

في الفصل السابع "الهدر الوجودي في الحياة اليومية" يتطرق الباحث إلى الدمار النفسي والذهني الناجم عن آليات القهر والهدر، والمتمثل بالعقد والأعراض المَرَضية في السلوك اليومي للأغلبية الساحقة من المواطنين. .
مجتمعات القمع والاستبداد تنتج علاقات الاضطهاد العدواني في تفاعلات الحياة اليومية فيما بين الناس، مع ما يتمخض عنها من حالات الاضطراب الجنسي والجسدي النفسية (242). أبرز مخلفات الهدر في النفس يتمثل في فشل مشروع تحقيق الذات وصناعة كيان في الوجود: هدر الرغبة ، هدر نوعية الحياة ، الهدر الزوجي وهدر المكانة والدور، وهدر الغربة في أرض الوطن أو خارجه. يقف تحقيق الذات في قمة هرم الحاجات الإنسانية جميعا وقد يتخذ أشكالا جانحة إن لم تتوقر وسائله وأساليبه المعافاة(243). وإذا فقد الإنسان حصانته الإنسانية يتحول إلى الشيء العبء أو التهديد أو الشيء ، أداة الاستغلال. ونغدو بذلك "حيال انهيار قيمي وأخلاقي ينسف خدعة الفقير الشريف، عفيف النفس"(246). ومن استبيحت إنسانيته سوف يستبيح كل شيء حين تحين الفرص. وأحداث الاضطرابات خير شاهد، حيث التلذذ بالقدرة على الهدم والهدر. "نزوة الموت الوجودي التي فتكت بكيان الميليشيات تعود فترتد على أيديهم تدميرا للعمران"(247).
تحولت الغريزة لدى الحيوان إلى نزوة لدى الإنسان. والنزوة تخضع بدورها نفسيا للتحول فتتخذ طابع الرغبة على مستوى الدلالات النفسية والوجودية... كل إنسان ومنذ بداية حياته محكوم بالرغبة في أن يكون موضع رغبة. أي أن كيانه مشروط باعتراف الآخر به. إذا هدرت الرغبة وحيل بينها وبين إرضائها وتحقيقها من خلال استفحال القانون وعسفه نكون بصدد "اختلال الجدلية الكيانية الكبرى الحاكمة للوجود الإنساني"(258). تتعادل في النفس البشرية نزوتان: الحياة (الإيروس)،والموت ( تاتانوس) . وهدر الرغبة العاطفية الجنسية يفتح سجل النقص الإنساني ( نقص الكيان ونقص الاعتراف والقيمة) و"عندها تنطلق نزعة العدوان لتدمير هذه العقبة الوجودية التي حالت دون امتلاك الكيان والاعتراف به"(259). كيف يمكن عندها للمجتمع أن ينمو ويزدهر في العمران بعد أن تعطلت فيه نزوات الحياة والعطاء؟ وهل من عجب بعدها أو مبرر للشكوى من موجات برامج التلفزيون من أمثال سوبر ستار وستار؟ " إنها تبيع أحلام الرغبة المهدورة وتكسب منها ذهبا.".. (261). هدر الرغبة يتلاقى إذن مع هدر الفكر وهدر الطاقات والكفاءات والموارد، فهل من عجب بعدها أن تتعثر مشاريع التنمية ؟ ذلك هو شان الإنسان المقهور ، فهو قد يحارب ويموت ، إلا أنه يصعب أن ينتصر(263)...
ويتسلل الهدر إلى هدر متبادل في العلاقات الزوجية. ليس هناك علاقة زوجية تخلو من الهدر في مرحلة أو أخرى من مسارها. كل هدر على أي صعيد ومن قبل أي من الزوجين تجاه القرين سيقابل عاجلا أم آجلا وبشكل مباشر ومقابل أو بديل ومناور بهدر مضاد. وهو ما يدخل العلاقة في حالة من التهادر. تحدث المفاجأة المولدة للصراع والانخراط في التهادر المتبادل من انعدام واقعية النظرة إلى الحياة الزوجية في إرضائها وأعبائها ، وخصوصا في كلفة السعادة وهنائها التي يتوقع كل طرف أن تأتيه هينة وبدون ثمن.عندها سيحل الشعور بالغبن والإحساس بالهدر أمام كثافة الواقع ومتطلباته... وقد يكون عدم التكيف لجدليات مراحل الحياة الزوجية وتغير أولوياتها أحد أسباب تفجر الصراعات، وبالتالي الانخراط في عملية التهادر. فكما أن الحياة ذاتها مجموعة مراحل وأطوار ، ولكل منها أولوياتها ومهامها ومتطلباتها مما يجب الانخراط في عملياتها والقيام بمستلزماتها كذلك فإن للحياة الزوجية أطوارها المعروفة ، وبالتالي فأولويات كل طور ومستلزماته ومهامه تختلف عما عداه(266). فقد تتجاهل الزوجة ضرورات التلاؤم وتصر على استمرار شهر العسل ؛ وينسى الزوج الحياة العاطفية ويضعها خلف ظهره في انطلاقة نحو تحقيق ذاته في مجال المهنة أو العمل والكسب، أو يتجاهل حق زوجته في تحقيق الذات مهنيا بدورها .. حينئذ يعيش كل قرين عقبة بوجه قرينه ويعيش حالة من الهدر الوجودي... وإذا كان لكل امرئ نصيبه من الاضطراب النفسي وبالتالي قسطه من الصراع والتناقض مع الذات ، فإن الصراع والتناقضات لابد أن تتراكم حتى في أكثر العلاقات وثوقا. وهي إن لم تجد لها سبيلا إلى الحل بالمواجهة والفهم ، التوافق والتسويات فإنها ستنتهي حتما إلى الهدر المتبادل(267).

وهناك الهدر المتمثل في عصاب الفشل، الذي يطلق على تكرار حالات الفشل، ويرجعه علم النفس التحليلي إلى ما يطلق عليه عصاب المصير أو القدر. وهو حالة عصابية ترجع الفشل إلى قدر خارجي محتوم. هذه الحالات تجد تفسيرها في اللاوعي، وخصوصا في اضطرار التكرار للمأساة او الشقاء. إذ بالإضافة للهدر ذي الطابع المرضي هناك "حالات من الهدر الذاتي الخفي الذي يبدو عاديا للوهلة الأولى ، أو هو يدرج ضمن معايير الصرامة في الالتزام بالواجب أو فضيلة التواضع الجم"(273). ما يهدر هنا ( حالة التزمت في الالتزام) هو الحق بالمتعة والفرح والسعادة ، وأخذ النصيب من رفاه العيش المتاح ... وتنشأ عادة عن أساليب التعامل و التنشئة الخاطئة من قبل الوالدين من مثل التأثيم المفرط والانتقاد الدائم والتوبيخ الذي يتخذ طايع الحكم على قيمة الطفل ، وكذلك من مثل حالة ارتهان الطفل لرغبات الوالدين وتوقعاتهم ، من خلال القبول المشروط . أو هي تنتج عن نمط من الرعاية الوالدية يتصف بالبرود والتباعد والنبذ والمنع أو الحط من ثقة الطفل بنفسه وعدم تعزيز قدرته على الإنجاز المستقل أو القمع المفرط لمشاعر الطفل العفوية (274).
كل من الهدر الاجتماعي والهدر الذاتي يعزز بعضه بعضا ويكمل واحدهما الآخر. ذلك أن هناك تحالفا جهنميا ما بين الاستبداد والقمع الاجتماعي وبين الكبت النفسي. الاثنان وجهان يتبادلان التعزيز لعملية الهدر ولهذا فإن عملية التحرير من هدر الاستبداد لا تكفي وحدها للخلاص ، بل لا بد من عملية تحرر ذاتي تواكبها ؛ وإلا فإن ما يحدث سيكون عبارة عن استبدال استبداد بآخر ، وقمع بآخر.



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإنسان المهدور
- مين فرعنك يا فرعون
- محمود أمين العالم في الحياة الفكرية العربية 3- جدل الواقع في ...
- محمود أمين العالم في الحياة الفكرية العربية - 2 الجدلية جوهر ...
- محمود أمين العالم في الحياة الفكرية العربية الحلقة الأولى
- المجزرة .. كوارث ودروس
- الجدار واغتيال ياسر
- الهندسة الوراثية لدولة إسرائيل
- الأحزاب الصهيونية تتبارز بالدم الفلسطيني
- بوش والحذاء... سخرية في حفل ساخر
- فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
- تصعيد المقاومة الشعبية بوجه سعار الاستيطان
- زيوف أقحمت لتشويه الماركسية
- ماركسية بلا زيوف 1
- تحية للحوار المتمدن في عيده السابع
- وخرج القمر عن مداره
- أكتوبر و عثرات البناء الاشتراكي
- أكتوبر في حياة البشرية
- هل يخمد عطر الدين عفونة فساد الحكم الحلقة الأخيرة
- هل يخمد عطر الدين عفونة فساد الحكم-3 .... السيف والكتاب


المزيد.....




- الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج ...
- روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب ...
- للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي ...
- ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك ...
- السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
- موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
- هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب ...
- سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو ...
- إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد مضيه - عرض كتاب -الإنسان المهدور- الحلقة الثانية