|
من هو-الانسان الاخير-؟
صلاح الداودي
الحوار المتمدن-العدد: 2590 - 2009 / 3 / 19 - 09:37
المحور:
الادب والفن
رمز دخول : "إن الإنسان الأخير هو إنسان "الجموع" الإمبراطورية التي عوّضت" الفهم " ب"الثقافة". ذلك الحيوان العدمي الذي لم يعد يحركه أي "هدف" اعلي. ولم يعد يلقي بشوقه إلي" ما هو ابعد من الإنسان"، من افرغ نفسه من أي "فوضي"، قد تنبت فيه "نجمة راقصة"، انه من تعوّد من دهره أن " يصغّر" كل شيء، حتى الأرض"، و إذا سأل "ما هو كذا؟" فهو لا يسأل إلا بقدر ما" يغمز" بعين كانت "هزُوا". و علي ذلك "هو إنسان أخير" بمعني ليس في عجلة من أمره، انه نبت بشري سوف "يعمّر طويلا" ونوعه ليس مرشحا "للانقراض". و ذلك انه يدّعي انه "اخترع السعادة"، "الاستسهال" و "الاحتساب" و "الترفيه" و "التسلية"، في حالة لا هي" فقر" و لا هي "غني"، لا هي "قيادة" و لا هي "طاعة"، من اجل أن كليهما صعب و يتطلّب مؤونة أخلاقية خاصة" ( فتحي المسكيني، الفيلسوف و الإمبراطورية. الفكر العربي المعاصر عدد 130- 131 هذا علامة قوية و مميزة علي أن مقام الفلسفة الرفيع هو الايطيقا. وهي لذلك لا تأسف لموت الإنسان لأنها، علي الحقيقة، لا تحيى من اجل أن تسيطر عليه. إن انهمامها لا يتحول إلي انهمام سياسي إلا متى تحمل هذا الإنسان إنسانيته من بعد تفريط لم يكن عليه بعزيز. فهي إذن تتدبر له الشروط الواقعية والايطيقية و الروحية للموت الكريم حتى لا يستشهد لا لشيء في قهقهة عهر. وإنها، إن استشهد في ابتسامة لا تنتهي- من فرط احتقار نفسه- لتشهد له بميلاد حب جديد هو إبداعه الحي من بعد رميم. كلمة عبور: إننا نسعى لتخطي الجسد الأخير. وانه بقدر ما يوجد إنسان مقاوم بقدر ما نمضي ابعد من الإنسان الأخير. يخرج علينا اليوم "إنسان أخير"، يسبّق جسدا أخيرا، يمرق في ألوان لو مسّت تربا لألهبت خيالا مرعبا كثيفا يتقدّم في حشد هائل، في هالة عظمي تصفّر في جماجمها العظام. ولكنه عدمية حقيقية، لا مجاز. عدمية دون رأس و لا قدم، فلا هي قابلة للقلب و لا هي قابلة للاستقرار علي حالها. هي حقيقية غير أنها خائرة الحق و الحقيقة، قوة لا قوة لها. الإنسان الأخير هذا، هو "أحقر البشر لا يمكنه حتى أن يحتقر نفسه" (نيتشه، هكذا تكلّم زرادشت)، ولكن من أين له كل هذا "الاستسهال" ؟ وهل أن لكل شيء هوية؟ انه بالحقيقة يفتقد إلي مبدأ الصراع. ومع ذلك ينبس، فكلما تكلم عن الحب انفجر لسانه دما، كلما تكلم عن الإبداع إهترأ حلقه و تهاوي عنقه...كلما تكلّم عن النجوم فقات عينه وغابت في الزحام، حمم من ثلج بارد جدا و غير ناصع بالمرة. انه كلام "الفيلسوف الأخير مع نفسه" (نيتشه، كتاب الفيلسوف). والحق انه بلا فلسفة أصلا، فهو في زمن ضرب عنق الرياضيات وإخراج الجغرافيا من عقر دارها و اختلاط الأساطير. انه خدعة العصر، لا قيمة تجعله يقول ما يري، لا قيمة تجعله يري ما يريد، وكان كل شيء يضيع. كأنما لا شيء ينتهي في الأغوار. حتى الأغوار.... انه بطلان العصر الذي يجعل الإنسان يتغلب أبدا علي قتل نفسه إذا اقترب منه. يتغلب أبدا علي حظه السعيد من الحياة، بل هو السعادة عينها : لعب ولهو. انه هو نفسه اوديب الحيوان الهامل ما بعد المحدث. يموت من فرط الضحك السافل، لا ينفك يرقص رقصا عجيبا خفّافا و كأنه يكتوي بأغرب وأعذب جمر، ذبيح لامع يأخذ البصر، دمعة عظيمة جامدة ولا لون لها، مرتع جماعي في سكر كوني: هذه هي الجنة/هذا هو الجحيم، قمة التحليل/قمة التكفير، هو الذي يستعبد الجسد البرتقالي (غوانتانمو)، الجسد الأسود (أبو غريب)،الجسد الستار/السكريتيري، جسد المقابر الجماعية و المشاهد الجماعية، والعشرة آلاف طفل سيدا في بلد إفريقي واحد ونفس العدد افتراضي للكبار و الصغار في بلدان "شمال إفريقيا"، أجساد قتلي الحزن و المهانة. انه الإنسان و قد "خسر كرامته أمام نفسه إلى حدّ لا يصدّق" (نيتشه). جسد قشرة البعوض، نفسه متألمة، باردة البويضات، دون كبد، الم كالألم الذي يحدثه تفتّق الغلاف السفلي لساق النملة وتكبد الدم جرّاء ضيق خاتم رمادي هدية في إصبع ذبابة، جسد عديم الإشارة لا ينجح في أن يقول هو ذا (القطار يمر مثلا). لا أمارة متفرّدة فيه، لا اشتراك أصيل و لا هجنة مسؤولة. حتى الضفدعة تعرف نرجسها في الغدير وهو لا يعرف رائحته في وبر فارسه التكنولوجي.جسد متهالك الجسدية، إخشيدي النفسية، سجنيّ المعمار، هزيل الذاتية إلي حد لا يطاق. يصيبني بالرحيل بلا رجعة في ظل الوجه. يخرجني من عقلي و من ملة الأولين، جسد لم يعد له وجه، وجهه فى إليتيه. شاسع البكارة الكبرى من كثرة المعارك الحاسمة...بيداء، ساحة وغي، فارغ البكارة الوسطي من قلة التدبير باليدين و القدمين، خاوي البكارة الصغرى فلا هو إنسان صنع ومهارة و لا هو إنسان حكمة. انه السائح الأخير، السائح الذاتي، يستنزف داخله حتى يتسربل النزيف بالنزيف، انه ينشر عدوّه في داخله و في خارجه. خارج الصداقة و العداوة. انه اعلي قوة في التاريخ و هو في اعلي مراحل التجلّي... جسد سقط متاع السقوط، والهبوط، والانحطاط و الضغط و الانهيار و الإعياء و القلق و الوهن. جسد بلا فلكية خاصة، جسد منسلخ مزّق أحشاء رامبرانت و فرانسيس بيكون و بيكاسّو، مزق نعل فلاّحة فان غوغ و كتلة شحم موباسّون و عيني سارتر من كثرة الرداءة و رفعة التفاهة ووفرة الحقارة و وضاعة الوضاعة ورواج صناعة و فن الملل و التقزز و ازدياد الطلب على الدناءة و حسب ونسب التعاسة و أخواتها من "القيم الاقتصادية". لحم عجيب روّع شاردان "عليّ أن انسي كلّما شاهدته" و ديدرُو " لطالما عمّرنا مُنحنيي الظهر". صنم " لا يعرف ( بالمرّة) لا ألوانا صديقة و لا ألوانا عدوّة". إنسان "فقاعة الصابون"، "ما يريد كل فن و لا يستطيع"( نيتشه، إنساني مفرط في إنسانيته). لا هو قابيل و لا هو هابيل. نسخة مناقضة للأصل، نسخة تطابق كل النسخ. جسد المسلم الأمريكي صاحب الاسم العربي، يضيع عمره في التهريج و الشعوذة. وهو و إن يعمّر فهو كالوهج المكيف، لا يلدغ الأجساد التي تعوّدت علي اللفح و الكي و السلخ و الندب. جسد الإسلامي- الانغلو-أمريكي لا يعترف بالتفاصيل، لا يتعاطف لا مع جسد تسونامي و لا مع جسد كاترينا. انه نتيجة الاشتراك الفاسد مع شريكه السابق و الهجنة الخاسرة مع غريمه الوطني و الطبقي المحلّي السابق كذلك. أية آية هذه التي أصابها فيروس "آي لاف يُو" فخرجت عن الفقهاء و العلماء و الفلاسفة. جسد المسلم الإسلامي الانغلو-أمريكي لا يعلم شيئا عن السم الإفريقي و الوباء الآسيوي و الطاعون اللاتيني. انه جسد غير مسؤول فهو لا يسأل إلا مذلّة و لا يجيب إلا مذلة . و هو أوّل الأمر و آخره رهط يُواري سوءة رهط. خطوة نحو ما بعد الإنسان الأخير: قال : في شارع من شوارع السماء، طفل و طفلة و قاعة سينما ، قيامة دون جمهور ووحي يحدّث نفسه حتى الجنون...انه يوم لا يعرف الإنسان نفسه و لا يفرق بين عقله و قلبه و لا بين الأزرق و الأبيض و لا بين الماء و الهواء. يوم بلا دماء، كيوم ما بعد الأزلية بيوم (ثيو اونج لوبولوس، المخرج اليوناني)، كالساعة الخامسة و العشرون (الروائي الروماني فيرجيل جورجيُو)، يوم بلا ساعة واضحة، بلا حروف كاملة، نقطة بيضاء على نقطة بيضاء. لا هي محسوسة و لا هي مرئيّة. طفل و طفلة يتنزّهان بين النجوم، يبرقان فتبرق، و النجوم تطمئن على بعضها البعض. السماء تدور حول اللّيل دهرا بأسره خوفا من السواد العظيم. هو هلع التكوين ضد التكوين. طفل و طفلة: هذي النجوم ليست نجوم. الطفلة تروي سيرتها للسماء: في آخر ليلة حرب، كان عيدا عظيما، عيد وطني كبير، ذبحوا دولة بكامل شعبها وذبح إبراهيم أباه لأنه لم يحلم مكانه و شقّت الطفلة فستانها الأبيض الصغير. و الطفل يروي: في أول ليلة سلام، كان عرسا فاخرا، مبهجا جميلا، هو الوطني الأول و الأخير، فاجئوا الحضور و الغياب، تزوج هبل نجمة أمريكية نفطية العيون رمادية الرئة رصاصية الجفون. تتكلم العربية الفصحى، يتكلم الانجليزية الخالصة. كان اللقاء فضيحة كبري في أثقل يوم على الإنسان. و قطّع الطفل ضفيرة الطفلة من الوريد إلى الوريد. في الأسر، عشش نحل الشرق كله في صحراء الشام، ومن الغرب طارت الأبدية بنصف الدهر و حطّت على جرح القتيل. ونحن صرنا نحب كالقتلى، نعشش في مغارات القتلى، نطير الدهر كاملا فلا نحط و لا نطير.و اللغة صارت صيغة تقتيل. هل قالت الطفلة شيئا يقتل؟ هل عثر الطفل على قبر مطرّز بالحرير؟ هل خدش كرامة المولي و افتك حق الخلافة من بيت مال المؤمنين؟ و واري النار في مستنقع القحط اليعرُبي. في العيد/العرس، الطفلة للطفل: كانت فضائل الاّحبّ شتّي، و فضائل الاّابداع شتي و فضائل انطفاء النجوم شتي... قال أموت ولا يعيشنّ احد، قالت أعيش و لو يموت الجميع. كلّ لا يسمع إلا نفسه، لا يسمع حتى نفسه. الطفلة للطفل: اسمّي شاعرا مستحيلا من يعرف جراح الناس واحدا واحدا. الطفل: سلام علي شعرائنا "الجاهليين" و طوبي لخطّتهم في الدّهر ليوم يري الناس الناس في منتهي التفصيل. قال الإنسان ما بعد الأخير: سنحبهم واحدا واحدا، فان كرهنا هجونا ارتجالا وان قسونا هجرنا ارتحالا وان قُتلنا قَتلنا "وجهلنا فوق جهل الجاهلين". وان سألنا من "نحن؟"، نحن نهدي النجوم إلي السماء إذا انخفضت و نلاطف أناملها الناعمة كلما اشتعلت و نغسل راحتيها بماء الأصيل. نفتحها كلما حُوصرت، نستعيد ودّ نجومنا متى شئنا و نلقي سلامنا حرّا علي الحالمين و المقتولين. سلام علي الشظايا تطير من عظمي، سلام علي الراحلين في الأبدية في اللحظة المناسبة. الطفل و الطفلة يقولان الدهر تلقاء إن سقطوا، سقطوا نجما نجما و إن ماتوا ماتوا سالمين. نحن نرعى النجوم كلما غاصت بنا مدن النور. تلك مهنتنا فلكيّون، و نحن من نحن نخرج في أي وقت منهزمين في "حرب النجوم"، منتصرين في خلق النجوم، نجهّز الأكوان للناس من ورد و من طين ومن لهب ومن زجاج ومن زقوم. نرسم الكواكب كلها من مادة و من عدم و من إكليل. الطفل و الطفلة يهدّدان بالبقاء دون عمر قار حتى النبوة أو الشعر أو الجنون، حتى الفصل ما بين أساطير الأولين و أمثولة الإنسان الأخير.
#صلاح_الداودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
متى نعود ل-بيوتنا- من جهة الشعر؟
-
الجدار
-
الابيض الاسود
-
من اجل اساس مادي للغيرية :المشترك
-
بلا اعضاء
-
الغصن الذهبيّ,غزة 2009
-
حملُ الاطفال
-
وطني....
-
غزّا غراد
-
ضحايا وقتلى ام ابطال وشهداء
-
هجرة الحواس
-
سينمائيو تونس، مزيدا من الجهد لو سمحتم
-
كوريغرافيا المذبوحين 2
-
كوريغرافيا المذبوحين
-
نحو -جمهورية الجماهير- أو الجمهور كواقعة ما بعد ديموقراطية
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|