أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الحاجبي - ألبلغمة – رسالة من وراء الحدود















المزيد.....

ألبلغمة – رسالة من وراء الحدود


حسين الحاجبي

الحوار المتمدن-العدد: 790 - 2004 / 3 / 31 - 08:04
المحور: الادب والفن
    


غرفتي نصف المظلمة ليست حقيرة جداً، بل يتطلب الإنصاف مني أن أشعر تجاهها و تجاه صاحبها بالإمتنان، فهنا أشعر بالإطمئنان والأمان بعيداً عن أيدي القتلة. جدرانها الثلاثة بدون أية شبابيك عدا عن ذلك الذي يفصلها عن الممر الطويل الممتد من باب الغرفة حتى ينتهي بالحاجز المشبك المطل على الشارع. فالضوء الطبيعي الوحيد الذي يدخل الغرفة هو الذي يتسلل من الشارع ماراً خلال الممر ثم الباب و شباك صغير آخر بجوار الباب. و لأني بدون مورد و لدي مبلغ صغير أحرص على ألا أفرط به، فأني أقضي معظم وقتي فيها في القراءة و حساب الأيام في انتظار الفرج الذي تأخر كثيراً.

إنتهيت من قراءة "لاعب الشطرنج" رائعة سطيفان تسفايج، ثم تناولت قصة "الأبله" لديستويفسكي و كلاهما بلغة البلد الذي أقيم فيه، مما حرمني من المتعة الإضافية التي كنت سأحصل عليها فيما لو كانت بالعربية.
و عندما انتهيت من قراءة الجزء الخاص بوصف مشاعر المحكوم عليه و هو جالس في العربة التي تمضي به إلى ساحة الإعدام و هو ينشغل بتفاصيل زر سترة الشرطي الصدئة، ثم و هو يشد إلى العمود في انتظار الرصاص الذي سيخترق جسده وهو يراجع شريط حياته و كيف لم يستفد من كل دقيقة منها و ماذا سيفعل إذا ما عاد إلى الحياة، ثم وصول مراسل في اللحظة الأخيرة حاملاً أمر العفو عن المحكومين .... أغلقت الكتاب
و أنا في غاية الإنفعال و مسلوب العقل لهذه القابلية الفذة في النفوذ إلى أعماق النفس البشرية لتصف بماذا يفكر الإنسان في مثل هذه اللحظات المفعمة بالمشاعر المختلطة. و رجعت بذاكرتي إلى ما قبل بضعة أشهر، إلى تلك اللحظة التي تعلق فيها نظري في الجزء الكامن خلف الركبة تحت حافة تنورة فتاة رشيقة القوام كانت تمشي أمامي، فانحصر تفكيري في تفاصيل الأوردة و العضلة و اللحم البض...في الوقت الذي كان الآلاف من الرجال و النساء و حتى الأطفال يساقون إلى دور السينما و الملاعب و القصور القديمة التي حولوها إلى معسكرات للإعتقال بعد أن أتخمت السجون بأكداس البشر، ليقتل منهم الكثير و يعذب منهم الأكثر و لتغتصب النساء، و كنت أنتظر بقلق دوري في الإعتقال.

غفوت قليلاً ثم صحوت على كوابيس اختفت فيها كل الألوان ما عدا اللون الرمادي. كنت لا أزال مشدوهاً بكوامن ذلك المحكوم بالإعدام، و ربما زاد هذا في كآبتي، ما أحوجني إلى بعض التسرية. فمشيت متثاقلاً و أنا أقطع الممر لأصل إلى الشرفة و أتهالك على كرسي من البلاستيك على الرغم من الجو القائظ. و صرت أحدق في غابات النخيل الممتدة أمامي خلف البيوت ذات الطابق الواحد محاولاً أن أرى ما وراء النخيل من نخيل و ما بعد تلك من أخواتها حتى أتسلل خلسة إلى بيتي و أهلي و أصدقائي. و تذكرت كيف كاد أن ينخلع قلبي من مكانه و كيف انتابتني مشاعر غريبة لم أعهدها من قبل و العالم يغط في سكون ساعات الفجر الأولى قبل شهرين، و أنا أقطع سباحة النهر الفاصل بين وطني و هذا البلد الذي أنا فيه، فتشتعل روحي اشتياقاً. آه لو استطعت الوصول إلى ذلك الشارع في مدينتي لاحتضنت أعمدته الخرسانية حتى تتكسر أضلاعي، و للحست سطوحها الخشنة حتى يتجرّح لساني، و لتوجهت إلى تلك الأزقة الفقيرة الوسخة ذات الرائحة النتنة لأتقلب على أسفلتها و لأستنشق رائحتها... و تأخذني أحلام اليقظة هذه إلى حد ما يشبه الغيبوبة، و هل أحلى من الغيبوبة في مثل هذه الأيام السوداء!

و كما يقال فإن لكل شيء نهاية، حتى لأحلامي. إلا أن هناك نهايات سعيدة و أخرى حزينة كما أن بعضها هادئ و البعض الآخر عنيف مدوّ. و يشاء حظي أن تنتهي غيبوبتي بصورة قاسية إذ يصدر زعيق من شخص
بالجوار ينادي على رفيق له و كأنه على بعد أميال. فأستفيق مذعوراً، و أرفع رأسي إلى السماء و إذا بنور الشمس المتوهجة في قيظ آب تسدل على عيني ستارة من الغشاوة و تسبب فيهما حرقة، فأدير رأسي بحركة لا إرادية بمقدار 120 درجة، فأفتح عيني ثانية و إذا ببصري يقع من خلال الغشاوة على شيء يلتمع على الأرض. فركت عيني و تمهلت قليلاً ثم نظرت مرة أخرى لأستكشف ذلك الشيئ الملتمع و إذا به بلغمة لابد أن بصقها أحد رواد هذا المكان بالرغم من لافتات "ممنوع البصاق على الأرض بأمر من وزارة الصحة" التي تراها معلقة في أكثر من مكان في هذا الفندق من الدرجة الرابعة.

السأم و الإرهاق من القراءة و الرغبة في إيجاد أية وسيلة تسلية جعلتني أطيل النظر إلى هذه البلغمة و كأنها سر من الأسرار اجهد في كشفه و الغور في أعماقه.

هي ليست دائرية بالضبط، بل أقرب إلى الشكل البيضاوي، ربما بسبب عدم تجانس كثافة جميع أجزائها. حافاتها متعرجة، أي أنها ليست بنعومة و استمرارية الخطوط المقوسة التي نرسمها على الورق. مركزها مرتفع قليلاً ثم ينساب سطحها نحو الحافات التي بالكاد تملك أية سماكة. أما قوامها فلزج رقراق و لكنه متماسك. فلو هبت ريح قوية لرأيت سطحها يتموج قليلاً كموج البحر و لكن هيهات أن تنقلع من مكانها فقد التصقت بالأرض بقوة. و لونها؟ ... قوس قزح إذا ما نظرت إليها من زاوية تجعل ضوء الشمس على امتداد خط بصرك نحو البلغمة مع مراعاة زاوية الإنعكاس بالنسبة إلى اتجاه جاذبية الأرض. أما أذا نظرت إليها من أية زاوية أخرى فإنها رمادية تضرب إلى الصفرة مع بعض من الخيوط الحمراء الدقيقة في وسطها. يبدو أن صاحبنا قد ضغط كثيراً على بلعومه لكي يخرجها.

و لكن العوامل المذكورة أعلاه تدفعني ألا أنظر إليها إلا من تلك الزاوية القوس قزحية. فهذه تستثير أحلامي أكثر. فتراني أحدق فيها بقوة كمن يحملق في بلّورة الساحر الذي يلجأ إليه لحل مشكلة عويصة. و تزداد حملقتي حتى تتملكني النشوة. لم لا و ألوان قوس قزح تتراقص أمامي و كل واحدة منها تمثل لي حدثاً أو رمزاً؟

فاللون الأخضر هو الربيع، هو الخضرة، هو أوراق الشجر التي غسلتها مطرة آذار أو نيسان، و أخيراً هو الحياة، هو الطفولة.

أما اللون الأزرق فيخيل لي قطعة موسيقية تنعش الروح في أول الصباح. ما رأيكم في الدانوب الأزرق؟

و اللون الأحمر يشبّه لي غرفة نوم أنيقة ستائرها حمراء سدت كل المنافذ على وهج شمس آب.

و الأصفر يمثل فتاة بعمر الربيع تلبس بدلة صفراء ترقص على قمة جبل تحت ضوء القمر الفضي على رؤوس أصابعها و كأنها تحاول الإنفصال عن الأرض لتلتحم بكل ما هو نقي في الفضاء البعيد.

و أنساق كالمسحور وراء أحلامي، فأتذكر أياماً ما أحلى ذكراها بالرغم من مرارة أغلبها في حينها. و تذكرني كل هذه الألوان مجتمعة بمائدة عامرة بجميع أنواع أبنة التمر و ابنة العنب و حفيدة الشعير تنتصب بين صحون المزة تحت أنوار الأضواء الخافتة في إحدى تلك الحدائق التي ضمتنا من حين لآخر. فأتخيلك يا فؤاد و أنت تهمس في أذني بضعة أبيات من شعر نظمته بعد آخر جلسة لنا، فأهز رأسي استحساناً و أطلق بحكم العادة ملاحظة أسمع بعدها قهقهتك الحلوة. و هذا فاروق يحكي لنا نكتة فاروقية متميزة فنغص بالضحك من غير أن تكون النكتة قوية بالضرورة. و أتمثل وجه صلاح و هو يطلق ضحكاته مثل طفل بريء، و كم أحب الأطفال! ثم هذا رؤوف، ما له ينظر إلينا باستغراب و نحن نطلق النكات؟ ليتنا كنا وقورين مثله!!

و تمر عليّ وجوه كثيرة أحببت كثيراً منها و لم أحبب بعضاً منها، و لكني أحبها الآن جميعها بلا استثناء، فأنا في غربتي عاشق! و كلما مر شريط الوجوه و الأحداث أكثر كلما ازددت غوصاً في سكرتي أو غيبوبتي، سمّها ما شئت.

و كما قلت في البداية فإن لكل شيء نهاية، حيث و أنا في تلك الحالة يمر ضيف فندقيّ ثقيل الدم و يدوس على البلغمة فيمسحها مع الأرض مسحاً و تختلط الألوان متحدة في اللالون، فيفيقني من تلك الأحلام الحلوة و يعيدني إلى واقعي و مراراتي....!

تباً لك أيها النزيل عديم الذوق، عدو البلغمة و كل ما فيها من جميل!

حسين الحاجبي
آب 1963



#حسين_الحاجبي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ألحرب الإقتصادية: من الأرجنتين إلى العراق


المزيد.....




- بمشاركة أكثر من 660 ناشرا.. الشارقة تطلق الدورة الرابعة لمؤت ...
- الشارقة -ضيف شرف- المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط في دور ...
- الجزائر.. ترميم 17 ألف وثيقة وإدراج مخطوطين في -سجل ذاكرة ال ...
- الغموض الاقتصادي يطفئ بريق مبيعات الأعمال الفنية عالميا
- مهرجان كان السينمائي يكرّم روبرت دي نيرو بالسعفة الذهبية الف ...
- صلاح الدين الأيوبي يلغي زيارة يوسف زيدان إلى أربيل
- من الطوب الفيكتوري إلى لهيب الحرب.. جامعة الخرطوم التي واجهت ...
- -النبي- الروسي يشارك في مهرجان -بكين- السينمائي الدولي
- رحيل الفنان والأكاديمي حميد صابر بعد مسيرة حافلة بالعلم والع ...
- اتحاد الأدباء يحتفي بالتجربة الأدبية للقاص والروائي يوسف أبو ...


المزيد.....

- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الحاجبي - ألبلغمة – رسالة من وراء الحدود