|
مصرُ الكثيرةُ، وأمُّ كلثوم
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 2574 - 2009 / 3 / 3 - 09:35
المحور:
المجتمع المدني
إذا قالَ لك أحدُهم رأيًا في مصرَ، فعليكَ أن تسألَه: أيُّ مصرَ تقصدُ؟ وهنا لديكَ مستويان من السؤال: رأسيٌّ وأفقيّ. الرأسيُّ هو الزمن. أيْ العصور والحِقَب التي مرّتْ بها مصرُ؛ فعن أيِّ مصرَ يتحدثُ محاوِرُك؟ أمصرُ الفرعونيةُ العظيمةُ؟ أمْ الفارسيةُ بعدما سقطت في يد قمبيز؟ أمْ اليونانيةُ بعد أن دخلها الإسكندرُ المقدونيّ ثم حكمها البطالمة؟ أم الرومانية؟ أم البيزنطية؟ أم مصر المسيحية؟ أم الإسلامية بعدما استولى عليها العربُ؟ أم تُرى مصرُ المملوكية؟ أمْ العثمانية؟ مصرُ المستعمرَة البريطانيةُ، أمْ مصرُ بعد استقلال 1922 الجزئي؟ أمْ مصر بعد جلاء 56؟ أم تراه يقصدُ مصرَ الحديثة؟ وإذا كان فأيُّ حداثةٍ يقصدُ؟ هل مصرُ محمد علي ومَن تلاه من آلِه ونسْلِه؟ مصرُ الليبرالية الراقية أيام كان بها مفهوم رفيعٌ عن المواطَنة كحقٍّ للجميع؟ وأيام كان بها أحزابٌ "حقيقة"؟ أم مصر الدينية التي تتناحرٌ أطيافها العقائديةُ لصالح وئد وحدتها؟ أمملكةُ مصرَ حتى منتصف القرن الماضي؟ أم مصرُ الجمهوريةُ بعد ثورة يوليو؛ تحت حُكْم العسكر، وما تلا ذلك من أمصار (أقصد: جمع مصر، وليس بمعنى أصقاع وبلدان)؟ وصولا إلى مصرَ الراهنةِ؛ تلك التي تنظرُ خلفَها، وأمامَها، في غضب؟ فلو أجابكَ سائلُك بأنه إنما يقصدُ مصرَ الراهنةَ، فيأتي هنا المستوى الأفقيُّ للسؤال. فبادرْ بسؤاله: أيُّ مصرَ تقصدُ؟ مصرُ الحكومةُ؟ أم مصرُ المصريينَ؟ أم مصرُ الوطن؟ فالحكوماتُ زائلةٌ ومَنْسيةٌ، وإن تأبّدتْ. الطيبةُ منها والشريرة؛ تسقطُ من ذاكرة الناس، وتتحوّل إلى بضعةِ أسطرٍ في هامشِ كراسات التاريخ، التي كثيرا ما تكذبُ وقليلا ما تصدق. على أنها تظلُّ مرجعَنا الأوحدَ لكي نتعرّفَ على تلك الحكومات بشرِّها وخيرها، إن وُجِد، فنصدّقُ ما نصدّق، ونمحو ما نمحو. كلُّ النُظُم تُنسى، كما يُنسى زعماؤها. وحدَها النُظُمُ مُسْرفةُ الشرَّ، أو مُسْرِفةُ الجمال، تبقى في ذاكرةِ الناس. مثلما هتلر، وجنكيز خان، أو غاندي وعمر المختار ونابليون. (الحكم على زعيم يكون طبعا من وجهة نظر وطنه، فلا يجوز أن نحكم على المختار من وجهة نظر إيطاليا مثلا، ولا على غاندي من وجهة نظر بريطانيا، وإلا انقلبتِ الموازينُ؛ فهتلر الذي نُخوّفُ به أطفالَنا، مُحِبٌّ مخلصٌ لبلاده) أو تلك الشخصيات الملتبسَة التي لا تعرفُ هل تحبُّها أم تحنقُ عليها؟ مثل: ماو تسي تونج، وصدام حسين؛ (مازلتُ عاجزةً عن تكوين رأي محدد في صدام حسين، نصفُ قلبي يحبُّه، والنصفُ الآخر حانقٌ عليه!). هذه إذن مصرُ الحكومة، متغيّرةٌ متعاقبةٌ متأرجحةٌ غيرُ ثابتةٍ، ومن ثم لا يجوزُ اعتبارُها، الحكومات، جزءًا أصيلا من مصر. فلا يُحسب لمصر، ولا يُحسَب عليها، ما ترتكبه حكوماتُها من جمال أو من طيش. وأما مصرُ "المصريين"، فأيضا متحوّلةٌ وغير ثابتة. فمواطنو مصر، في عهد الفراعين، غيرهم في عهد المملوكيين، غير المصريين "العرب"(!). كما أن المصريين في عشرينيات القرن الماضي وحتى الستينيات الماضية، لا يشبهون "مطلقا" مواطني مصر الآن! للأسف. أما مصرُ "الوطن"، وعشرةُ خطوطٍ تحت كلمة "وطن"، فشيء عابرٌ التاريخَ عابرٌ الجغرافيا عابرٌ المِحَنَ وعابر النُظمَ، كما هو عابرٌ الاقتصادَ والمصالحَ والعقائدَ والآراءَ والأحزابَ. هو في الحقيقة عابرٌ كلَّ شيء عدا فكرة "المواطَنة". وهنا، أنا لا أكتب كلاما شِعاريًّا مما قتله الشعراءُ والمناضلون قولا وهتافًا! لا والله أبدا. بل أتكلّمُ عن لسعةِ البرد الفاتنة التي تنزلُ على القلب الساخن فتبهجُه، وقتَ نسمعُ كلمة "مصر". عن ذلك الشعور بالراحة حينما تحطُّ طائرتُك على مهبطِ مطار مصر، حتى وإن لم تغادرها سوى يومين. عن تلك الغبطة الطفولية التي تغمرُنا، نحن المصريين، وقتَ تفاجئُنا كلمة Egypt في روايةٍ إنجليزية أو على لسان غير عربيّ. عن تلك الخُيلاء التي نعتمرها ونحن نخبرُ أطفالَنا أن مصرَ هي البلد الوحيد في العالم الذي اِشْتُقَ منه اسم عِلْم هوEgyptology ! تبًّا لتداعي الأفكار! تصوروا أنني بدأتُ المقالَ بنيّةِ الكتابة عن أم كلثوم، بمناسبة ذكرى رحيلها قبل ثلث قرن وعام، فإذا بي أتجاوزُ عددَ الكلماتِ المخصصة لي، دون حتى أن أبدأ موضوعي! حقًّا إن مصرَ تأخذُنا، بعيدًا وعميقًا، شِئنا أم أبينا! لكنني لن أمحو ما سطرتُ، فتلقائيةُ القلمِ لا تُمحى! كلُّ ما هنالك أنني أستمعُ الآن إلى قصيدة "وقف الخلقُ ينظرونَ جميعًا، كيفَ أبني قواعدَ المجدِ وحدي/ وبناةُ الأهرامِ في سالفِ الدَّهرِ، كَفَوْني الكلامَ عندَ التَّحدي/ أنا تاجُ العَلاءِ فى مَفْرَقِ الشَّرقِ/ ودُرّاتُه فرائدُ عِقْدىِ/ إن مجدي في الأوْلياتِ عريقٌ/ مَنْ لهُ مثلُ أوْلياتي ومجدي؟/ أنا إنْ قَدّرَ الإلهُ مَمَاتي، لا ترى الشرقَ يرفعُ الرأسَ بعدي/ ما رماني رامٍ وراحَ سليمًا، مِنْ قديمٍ عنايةُ الله جُندي"، للثلاثي العبقريّ: حافظ إبراهيم- رياض السنباطي- أمّ كلثوم، فتأملتُ كم هي مصرُ "الوطن" محظوظةٌ! فأيُّ وطنٍ، في كلِّ العالم، حظا بصوتٍ مثل صوت أم كلثوم، ليغني فيه ويتغنّى به، مثلما غنّت وتغنّت أم كلثوم في مصرَ. وبمصرَ؟ من فضلكم افخروا بمصرَ مثلي، وبمَن أنجبتْ مصرُ. "اليوم السابع" 24/2/09
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أيها العُنُقُ النبيل، شكرا لك!
-
مصرُ التى لا يحبُّها أحد!
-
قديسٌ طيبٌ، وطفلٌ عابرٌ الزمن
-
رُدّ لى ابتسامتى!
-
ومَنْ الذى قتلَ الجميلة؟
-
كانت: سيفٌ فى يدِها، غدتْ: شيئًا يُمتَلَكُ!
-
بالرقص... يقشّرون أوجاعَهم!
-
الجميلةُ التي تبكي جمالَها
-
صخرةُ العالِم
-
يُعلّمُ سجّانَه الأبجدية في المساء، ويستسلم لسوطه بالنهار
-
حين ترقصُ الأغنيةُ مثل صلاة
-
من أين يأتيهم النومُ بليلٍ!
-
هنا فَلسطين!
-
لا يتكلمُ عن الأدبِ مَنْ عَدِمَه!
-
سارة
-
المرأةُ، كبشُ الفداءِ اليسِرُ
-
لِمِثْلِ هذا يذوبُ القلبُ من كَمَدٍ
-
أغنيةٌ إلى فينسينت
-
هذه ليستْ تفاحة!
-
هذه هي الكواليس، سيدي الرئيس
المزيد.....
-
مسئول بحماس: إسرائيل تريد اتفاقا بدون توقيع.. ولم توافق على
...
-
دراسة: إعادة اللاجئين السوريين قد يؤثر سلبا على اقتصاد ألمان
...
-
إيران تُسرع تخصيب اليورانيوم والأمم المتحدة تدعو لإحياء الات
...
-
اعتقال أوزبكستاني يشتبه بتورطه في -اغتيال جنرال روسي بتعليما
...
-
مسئول أمريكي سابق: 100 ألف شخص تعرضوا للإخفاء والتعذيب حتى ا
...
-
تواصل عمليات الإغاثة في مايوت التي دمرها الإعصار -شيدو- وماك
...
-
تسنيم: اعتقال ايرانيين اثنين في اميركا وايطاليا بتهمة نقل تق
...
-
زاخاروفا: رد فعل الأمم المتحدة على مقتل كيريلوف دليل على الف
...
-
بالأرقام.. حجم خسارة ألمانيا حال إعادة اللاجئين السوريين لبل
...
-
الدفاع الأمريكية تعلن إطلاق سراح سجين كيني من معتقل غوانتانا
...
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|