فادي دخان
الحوار المتمدن-العدد: 2565 - 2009 / 2 / 22 - 04:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نقف اليوم على أعتاب الألفية الثالثة بكل إجلال واحترام أمام رجل دين يأخذ بكل إيجابي في أيديولوجيات العالم الحديث, بدءاً من الاشتراكية إلى الرأسمالية ووصولاً إلى العلمانية. فكان بحق مفتياً عصرياً واستثنائياً لسورية . إنه سماحة المفتى العام للجمهورية العربية السورية الشيخ أحمد بدر الدين حسُّون.
إذا تتبَّعنا مسيرة الشيخ وجهوده منذ تسلمه منصب الإفتاء, تأكدت لنا نظرته العصرية, ومرونته الفكرية في نهج منهج الوسطية والانفتاح الفكري والديني, والمشفوع دائماً بابتسامة الرضا وقبول الآخر, فمن حضور الندوات الدينية ورعاية الجمعيات الخيرية إلى لقاءات واجتماعات برجال الدين المسيحي, نلمس الطابع الحضاري وأصالة الفكر الإسلامي لديه دون تزمُّت أو انغلاق.
إننا نتطلع دون أدنى شك إلى الخروج على العالم المعاصر بأخلاقنا وسلوكنا الذي سنه لنا الإسلام - وهو دين السلام والمحبة - وما زيارة سماحة المفتي حسُّون إلى ألمانيا مؤخراً إلا دليل دامغ على نفض غبار التقوقع, وقبول ما لدى العالم من أفكار ومقترحات تعمل على تعريف الشعوب ببعضها البعض. على المستوى السياسي والديني والاجتماعي.
إن وقوف الشيخ حسّون في البرلمان الألماني وإلقاءه عدة محاضرات في مدينة آخن الألمانية, يشكل مصدر فخر واعتزاز للأمة الإسلامية, من خلال اعتلاء أحد علمائها منبر التعريف والتثقيف الإسلامي لتوضيح الصورة وكشف الغمامة الموضوعة أمام هذا الدين الحنيف لكل ساسة ومواطني العالم في الغرب قبل نظرائهم في الشرق.
وبالعودة إلى زيارة ألمانيا والتصريحات التي أدلى بها سماحة المفتي في مدينة آخن, وتلك التي أضافها في لقاء خاص مع " العربية .نت " تستوقفنا أمور عدة, كانت وما زالت مثاراً للجدل بين علماء المسلمين ومفكريهم, منها تعريفه الشمولي بنفسه من خلال قوله: أنا مسلم في عقيدتي, عربي في لغتي, إنساني في عالميَّتي, سني في اقتدائي, شيعي في ولائي, سلفي في جذوري, صوفي في حبي ونقائي.
نقرأ في هذا التعريف شمولية الفكر الإسلامي والتطلع إلى دمج مذاهبه وصبّها في بوتقة واحدة هي وعي المسلم للمرحلة التاريخية التي يعيشها. فليس هناك تناقض مع الذات, أو خلطة سحرية تأخذ من كل مذهب بطرف. كما يتبدَّى للرائي من الوهلة الأولى, إنما تفهم العبارة من باب إسقاط الصفة على الموصوف, دون التزامه (الموصوف) بكل متعلقات الصفة سلوكاً واعتقاداً, ففي إشارته " أنا سني في اقتدائي - شيعي في ولائي - سلفي في جذوري - صوفي في حبي ونقائي" إنما أخذ من أهل السنة والجماعة صفة الاقتداء بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام, وأخذ من أهل الشيعة صفة الولاء ومحبتهم للرسول الكريم وآل بيته رضوان الله عليهم, وأخذ من السلفيين عمق تجذرهم وارتباطهم بأصول هذا الدين, ومن الصوفية صفة المحبة والصفاء. من هنا كان التطلع جامعاً لكل صفات الاعتدال والوسطية, ومن هنا لا نرى ضيراً في تصريح سماحة المفتي سابقاً بأن العلمانية كفكر لا تتعارض مع الإسلام كدين.
أما فيما يتعلق بالمحاضرة التي حملت عنوان " ليس هناك حروب مقدَّسة إنما هناك حروب عادلة " فلنا عليها بعض الوقفات:
نعم، لم تكن الحرب في يوم من الأيام حرباً مقدسة, ولن يحمل قتل الناس والتدمير يوماً معنى السمو والرفعة. فالحرب كخيار استراتيجي تمثل الورقة الأخيرة لدى الطرفين. هذا بالمعنى العام، أما إذا تناولنا هذا الجانب من حيث نتيجته وما يؤول إليه فإننا سنقف أمام نتيجتين: الأولى هي استمرار الصراع المحلي, وبداية عهد الثورات الوطنية والمقاومة, وتنظيم الأحزاب السرية, من جانب المعتدى عليه, والتنكيل بأهل البلاد وضرب البنى التحتية من جانب المعتدي, ولا يختلف اثنان على تسمية هذا الفعل بالغزو والاحتلال.
والنتيجة الثانية: هي استعمار الأرض الجديدة, والتلاؤم مع سكانها, وفق المعطيات والشروط التي تفرضها طبيعة المجتمع في مرحلته التاريخية تلك, وإنشاء حضارة قائمة على مبادئ التعايش السلمي, والتعامل الأخلاقي, والتكاتف للدفاع عن الأرض والشعب, عدا عن الانصهار الاجتماعي والثقافي بين الفريقين, وهذا بالضبط ما حصل بعد دخول المسلمين أراضي شبه الجزيرة الإيبيرية, هذا الحكم الذي دام قرابة الثمانية قرون, لابدَّ وأن يترك وراءه حضارة ما زالت تقوم عليها معظم الواردات السياحية في إسبانيا حتى يومنا هذا، ونحن هنا نقف على خلاف مع طرح سماحة المفتي دون اختلاف, والذي أقرَّ فيه أن دخول العرب المسلمين إلى بلاد الأندلس إنما هو غزو لا فتح, بدليل خروجهم منها أو بالأحرى طردهم منها, فالأراضي- بحسب فضيلة الشيخ- التي فتحها المسلمون واستوطنوا فيها كبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا إنما كان دخولهم إليها فتحاً مبيناً, أما تلك البقاع التي أخرجوا منها - ومنها الأندلس - فيرى سماحته بأن المسلمين كانوا غزاة لهذه الأرض, مؤتمرين بأوامر حكامهم وأطماع قادتهم, وهذا الاستناد التاريخي - باعتقادنا - غير دقيق بالمعنى الحضاري الإسلامي, ومربوط بالمرحلة التاريخية, كما لا يمكن تعميمه بالمطلق, ولنا على ذلك أدلة عدة.
فكرة فتح الأندلس كانت مطروحة منذ أيام الخليفة الراشدي عثمان بن عفّان ( رضي الله عنه ), فقد كان المسلمون حينها يفكرون في فتح القسطنطينية من جهة أوروبا, فأجابهم الخليفة آنذاك " إن القسطنطينية إنما تفتح من جهة البحر, أنتم إذا فتحتم الأندلس, فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر آخر الزمان". ثم إن انقسام حكّام الأندلس والتخلص من الملك "لذريق" في طليطلة. عملا على تهيئة الفتح والتمهيد له.
يذكر صاحب "الكامل في التاريخ" ما نصه: " كتب موسى إلى الوليد بما فتح الله عليه, وما دعاه إليه يوليان, فكتب إليه الوليد: خضها بالسرايا ولا تغرّر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال, فكتب إليه موسى: إنه ليس ببحر متسع, وإنما هو خليج يبين ما وراءه, فكتب إليه الوليد: أن اختبرها بالسرايا إن كان الأمر على ما حكيت".
وهنا يظهر جلياً للعيان حرص الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك على المسلمين وعلى عدم الزج بهم في المعارك لتحقيق الأهواء والغنائم, كما يخبرنا الرواة بأن عقبة بن نافع عندما فتح شمال أفريقيا ووصل بجيشه إلى المحيط الأطلنطي دخل بفرسه إلى عرض البحر, حتى طال الماء تلابيبه, وبعدها ردَّد مناجياً ربه وقال: " لولا أن البحر منعني لمضيت في البلاد إلى مسلك ذي القرنين, مدافعاً عن دينك, مقاتلاً من كفر", فهل كان عقبة غازياً لأفريقيا وطامعاً بالمكاسب والسلطة ؟. إذا كان الأمر كذلك, فسينسحب على شمال أفريقيا ما كان سينسحب على ما وقف المحيط أمام تقدم عقبة بن نافع.
إن هزيمة الإسبان في الأندلس مردُّها بحسب المؤرخين إلى حالة العداء بين لذريق الملك وشعبه الذي عانى الويلات من جراء الفقر والاستبداد باسم الدين, وهو الذي استقبل جيوش المسلمين دون أدنى مقاومة, إذ رأى فيهم الفرج والخلاص.
وعند وصولنا لمشارف القرن الثالث عشر الميلادي, نجد أن الحضارة الإسلامية في أوروبا قد بلغت أوجها وامتدَّت خارج حدودها الإقليمية من خلال علماء الأندلس ومفكريهم, ولتفتتح جامعات أوكسفورد وموندلييه وسلمنكا تباعاً في تلك الفترة, والتي دأبت على تدريس علوم العرب ومنجزاتهم في الطب والفلك والعلوم, ثم يأتي المؤرخون ليثبتوا بشكل قاطع دور تلك الجامعات في بزوغ فجر النهضة في أوروبا, والخروج من عصور الظلام الوسطى, فهل كان دور العرب آنذاك سلبياً في الأندلس, وهل كانت أعمالهم تميل من قريب أو بعيد لأعمال الغزاة والمستبدين.
دعونا ننظر لأمر الإسلام في الأندلس من زاوية ما حققه على تلك الأرض وأنجزه, إذ لم يرتفع شأن أمة استقبلت دخيلاً على أراضيها وانصهرت معه اجتماعياً وثقافياً كما ارتفع شأن سكان الأندلس بعد دخول المسلمين ...
بعيداً عن هذا وذاك, وباستقراء مسيرة توطن الأمم والشعوب عبر التاريخ البشري نعلم يقيناً خلوَّ هذا التاريخ من أمة ولدت على أرضها وعاشت في ربوعها ولم تنزح أو يأتي عليها غبار الترحال والتنقل بسبب الحروب أو البحث عن حياة أفضل خارج حدودها... والسؤال هنا: هل كان سكان شبه الجزيرة الأيبيرية القوطيون قبل دخول المسلمين أصيلين على هذه الأرض ومستوطنين فيها منذ القدم؟ . وما بال منطقة الدلتا ونهر النيل القبطية قبل دخول المسلمين, وهل يحق للطوارق والأمازيغيين أن يطالبوا بأرضهم اليوم بعد دخول العرب المسلمين؟ لقد انصهرت الشعوب مع بعضها كما انصهر أهل الأندلس آنذاك مع المسلمين وبنوا حضارة فعلت فعلها في ذلك الوقت وكانت اللبنة الأساسية التي قام عليها عصر النهضة في أوروبا علمياً وثقافياً.
الخطاب الإسلامي اليوم مطالب بالمعرفة المسؤولة أمام العالم وأمام تاريخه ومستقبله الحضاري، وليس تبياناً للحقيقة وتوخياً للصواب أن نضرب- أمام الغرب- بحضارة امتدَّت ثمانية قرون عرضَ الحائط. وليس من العدل أن يتغنى الناشئة بطارق بن زياد وبصقر قريش في كتبهم الدراسية، ثم نأتي ونخبرهم بأن فتح الأندلس كان كذبة كبرى، جلُّ غايتها هو إرضاء الأمراء والحصول على المكاسب.
#فادي_دخان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟