|
بصدد بعض أصول هشاشتنا النفسية ضد الوطنية القبلية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2561 - 2009 / 2 / 18 - 09:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ليس الانفعال الإنساني السوي هو ما ميز تفاعلات قطاع واسع من الكتاب والصحفيين والمعلقين العرب حيال العدوان الإسرائيلي على غزة، بل الشكل السطحي والاستعراضي والهائج لهذا الانفعال. كانت نبرات الكتابة عالية جدا، ولعلها كانت أعلى بعد في برامج الفضائيات التي لا أتابعها. كأن الجهاز العصبي لبني قومنا هؤلاء على سطوح أجسامهم، وكأنهم لا يحملون ولاءاتهم واعتقاداتهم في قلوبهم وضمائرهم، بل يرتدونها فوق ثيابهم أو يحملونها هراوات في أيديهم. غير أن العقائد التي ترتدى تتعرض للاتساخ والاهتراء والبهدلة. والهروات لا بد أن تتكسر ذات يوم، وإن بعد صنع كفايتها من الجروح والضغائن والأحقاد. وما من أحد يمكن أن يتفوق في استعراض الانفعال أكثر من مهستر أو مهووس. والقوم يستعرضون انفعالاتهم الحادة كأنها مفخرة، وكأن الانضباط النفسي عار يتعين محوه في كل حال. وهم لا يكتفون بغضبهم "الساطع"، بل ويدعون الناس جميعا إلى الغضب في استعراضات جماعية، كما لو أنه فضيلة سامية بحد ذاته. ومن لا يفعل فعلهم "مشبوه"، أو ربما "خائن". ويبدو أن العربي الجيد في عرفهم هو العربي الغاضب، أجود منه الأشد غضبا، أما العربي غير الغاضب فقد لا يكون عربيا حقا، ولعله عدو للعرب. والحال، إن استعراض الغضب والانفعال أقرب بالأحرى إلى التباهي بعدم التحكم بفتحات الجسد. وهو شيء ينبغي أن يكون منفرا بقدر ما هو كذلك الفشل في السيطرة على أجسادنا. مقززا مثله أيضا. وهو قبل ذلك كله مؤشر على طفالة نفسية ممتنعة على النضج أو رافضة له. هذا العالم إما أب قاس متجبر أو أم شريرة، فلا فرصة متاحة للبناء المهجورين للفت أنظاره غير إفلات مصرّاتهم النفسية على الشاشات الغافلة أو أمام المكروفونات الخالية البال أو على الورق الأبيض البريء. لكن إن كان على المتكلمين والمثقفين أن يدخلوا الواقع القبيح كله في رؤوسهم، فليس لهم أن يدخلوا رؤوسهم في الواقع القبيح (إن حاكينا قولة سديدة لماركس) إلى حد أن يتسمموا بالقبح والكراهية والعدوانية، فيجتهدون لتسميم غيرهم بها. وليس ثمة قضية في العالم توجب أن يسلم المرء وجدانه إلى هذا القدر من الكراهية والحقد وضيق الأفق الذي يتفصد من نصوص وتصريحات هؤلاء الغاضبين المحترفين. فإن كانت قضية نبيلة فإنها لن توجب ذلك، وإن لم تكن نبيلة فإنها لا تستحق ذلك. ينبغي أن يكون هذا بديهيا. لكن كيف حصل أن صار إظهار السخط مفخرة، والصراخ نضالا، وشتم العدو نخوة، والهياج حساسية سوية، والتخوين وطنية، والتعبير عن الحقد والكراهية التزاما فكريا وسياسيا؟ وهل يمكن لأي بشري سوي أن يفكر بوضوح ويتكلم (أو يكتب) بصوت عال في الوقت نفسه؟ ولو كان متكلمون وكتاب وسياسيون أهدأ نبرة وأكثر تدقيقا، هل كان ذلك ينال من الصحة المحتملة لما يقولون أو يشكك بالتزامهم الوطني ومشاعرهم الإنسانية؟ ولماذا لا يفوت سادة المنابر العامة فرصة لتحويل سوء حظنا وسوء حالنا المقيم إلى سوء تفاهم وتعاد بيننا؟ ولماذا يشعرون أن "إثبات الوطنية" يقتضي عرض انفعالهم بالصوت والصورة، باللعاب المتناثر من الأفواه، وبإطلاق الاتهامات الشائنة والشتائم المقذعة، وبتفضيل الصيغ اللغوية القاطعة، وبمراكمة الأوصاف فوق الأوصاف؟ لكن هل الوطنية شيء بحاجة إلى إثبات أصلا؟ من يتهم غيره في وطنيته؟ ولماذا؟ وبأي حق؟ وهل نتبين شعورا بالذنب أو حاجة إلى التبرؤ يجري التغلب عليها بعلو الأصوات، بحيث يغدو الجعير أقوى براهين الوطنية؟ وما هو شكل الضمير الذي يتحلل من آثامه بالصراخ، ويجعل الزعيق فضيلة سامية؟
أصول فكرية وسياسية ربما نجد أصل الحاجة إلى التبرؤ في بنية فكرة الوطنية المتداولة في ثقافتنا السياسية الشائعة. الوطنية هذه شعور، "حب" كما وصف ميشيل عفلق القومية يوما؛ عاطفة وانفعال يملكان النفس، وليست فكرة تملكها النفس، ولا هي علاقة سياسية وحقوقية ذات أعماق ثقافية وشعورية. والشعور لا يوجد دون التعبير العلني عنه، الشعر والخطابة تفضيليا؛ ؟أما الشعور الذي لا يعبر عنه فغير موجود. وعلى الفور يترتب على ذلك أن الأعلى صوتا هو الأقوى شعورا، وهو الوطني الحقيقي. وللوطنية الشعورية هذه طابع معياري، يحيل إلى "الأمة" و"ثوابتها" و"رسالتها" و"قضيتها". "الأمة" هذه موجودة وباقية قبل وفوق أية تفضيلات وخيارات وحقوق محتملة للسكان النثريين، ما يجعل من الوطنية معرّفة بالولاء لها فضيلة عليا، يحوزها البعض ويحرم منها آخرون. وهي بعد فضيلة نادرة، لا يستحقها المرء إلا بعد عناء خاص ونضال شرس. وقبل أن تخول الوطنية الثمينة النادرة هذه مستحقيها سلطة عامة ممتازة، هي بالذات سلطة ممتازة. فإن لم تكن السلطة هذه متطابقة مع السلطة العمومية وجب أن تطابقها، فالوطن للوطنيين. وعلى هذا النحو يقام رباط جوهري بين السلطة والوطنية بينما تفصل الوطنية عن المواطنة. وسيكون الولاء للوطنية/ السلطة البرهان الحاسم والوحيد على وطنية "المواطنين" المحكومين. والوطنية/ السلطة هذه لا تعرف "ثوابت الأمة" ومبادئها الأصيلة فقط، وإنما هي تعرّفها وتعرّف نفسها بها. وهي لذلك في غنى عن تفويض عام للكلام باسم "الأمة" المحظوظة أو حكمها. فعلاقتها بالأمة من جنس الأمة ذاتها، شيء سابق للتفويض، وللسياسة ذاتها. الأمة أم الوطنيين (وليس المواطنين)، وهم أبنائها الأوفياء. والعلاقة بينهما طبيعية ودموية، وليست سياسية وثقافية. فلا معنى لاختبار وطنيتهم، لأنها ملتصقة بهم، لا تتحول عنهم مهما فعلوا. ولأنها ليست ملتصقة بغيرهم، يحتاج الغير هؤلاء إلى التأكيد المستمر على وطنيتهم. وهو ما قد يقتضي من أرباب الوطنية استخدام وكلاء ومساعدين وناطقين..، بحناجر قوية وطاقة قوية على الكره وغضب جاهز، وذلك بهدف تربية "العوام" على الوطنية، وتقريع أو تهديد "الشُّذّاذ" إن حادوا عن سبلها القويمة. وندرة الوطنية هي "السر" وراء تعبير "إثبات الوطنية" الدارج كثيرا في أوساطنا، ربما في سورية بخاصة، التعبير الذي يضمر أن المرء متهم في وطنيته حتى يثبت العكس. أما طابعها المعياري (وهو طابع تفكيرنا السياسي عموما)، فهو ما يفسر شيوع تعابير من نوع مشبوه وخائن وأخواتهما. فالمرء، "المواطن"، لا يكون وطنيا إلا بجهد خاص أو تأهيل نوعي، فيما هو خائن إن لم يبذل هذا الجهد، أو يشهد معلمي الوطن وسادته على أهليته الوطنية. والخيانة هي نقيض الوطنية، وهي شائعة مبذولة، تتربص بالمرء كيفما توجه، بالخصوص إن "خالف" الإجماع المقرر. ولعل وفرة الخيانة هي ما تفسر الحاجة إلى طقوس تطهر وطني من نوع هتافات الروح والدم، و"المسيرات الشعبية العفوية" والكليشيهات المكرورة في التعبير عن الشعور الوطني، والالتزام الوسواسي باستظهار هذه الكليشيهات. أما الافتراض المعاكس، أن الخيانة نادرة، وأن المرء وطني تلقائيا، وأنه لا يكون خائنا إلا "بجهد خاص" يجب إثباته، فلا يمكن قبوله. ذلك أنه ينطوي على كسر احتكار الوطنية، فيتعذر تأسيس سلطة سياسية ورمزية على هذا التصور. ومن شأن ذلك أن يقلص أو يلغي الريوع المادية والسياسية التي يحظى بها أرباب الوطنية السلطوية هؤلاء ووكلائهم الناطقين. وواضح أن هذه المفهوم المعياري للوطنية (الوطنية نادرة وفي حاجة إلى إثبات) مناسب لنظم الاستبداد. فهو يضع في أيديها سلاحا معنويا فتاكا، التخوين، يضاف إلى أسلحتهم المادية الفتاكة، من جيوش وعسس وسجون. التخوين، تاليا، وظيفة لشكل محدد من أشكال السلطة، وليس مبدأ أخلاقيا بديهيا سابقا على كل سلطة، على نحو ما يحاول تصوير الأمر وكلاء الوطنية الاستبدادية. ويجد الفصل بين الوطنية والمواطنة على نحو ما وصفناه، وجعل من في السلطة معيارا لوطنية سكان محرومين من المواطنة (رعايا مشكوك بأمرهم)، يجد تتمته المنطقية في اعتبار الوطنية موقفا من "الخارج" لا علاقة سياسية وحقوقية داخلية. فالمرء يكون وطنيا بقدر ما يهتف ضد الأعداء، وبقدر ما ينطق باسم هوية جماعية معطاة سلفا، بينما مطالبه المتصلة بالمساواة بين السكان ومسؤولية السلطات العمومية مثلا، تبدو غير دالة وطنيا، هذا إن لم تكن دالة على غير الوطنية. وكون الهوية معطاة ومقررة سلفا هو ما يفسر نفول التفكير والنقد والنبرة الشخصية. هو أيضا ما يعطي معنى خاصا للوضوح يضعه في نصاب الإجماع لا من نصاب الإبداع: قول ما هو معروف وثابت ومقرر سلفا، لذلك فإن من يخرج على هذا المقرر هو إما منحرف يتعين اعتقاله وتركه يتعفن في السجن، أو هو خائن يجب القضاء عليه. وهو أيضا ما يفسر الصوت العالي. فحين تكون الحقيقة معروفة سلفا، لا يبقى غير إعلانها على الملأ وإسماع من لم يسمع. هو ما يفسر الغضب أخيرا: إذ رغم أن الحقيقة "واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار"، فإن هناك من يكابر وينكرها، مختلقا الذرائع للتشويش عليها! فكيف لا تغضب؟ وفي عالم فكري كهذا ليس لنا أن نتوقع حسا ناميا بالسخرية أو تذوقا لها، أو تفكيرا شكيا، أو حسا إشكاليا، أو قدرة على نقد الذات، أو رهافة مشاعر. شمس اليقين الذاتي تحرق كل هذه النوافل. وفي عالم فرط اليقين هذا كيف للثقافة أن تعيش؟ إن دفقات الغضب المحتدم والكراهية اللاهبة والتعصب المفرط تحرق جراثيم الثقافة المعدية، فتعقم هذا العالم الثقافي وتطهره من الوساوس والفوارق والشكوك الهدامة. هنا يصنع الإجماع و..الغباء.
أصول تاريخية وبدوره يجد المبدأ القاضي بأن الوطنية موقف صحيح من الخارج مطلوب إثباته، وليست وجها تلقائيا للمواطنة، يجد عمقه التاريخي في بنية وعي قبلية تبدو متأصلة في ثقافتنا (أكثر مما في مجتمعاتنا العيانية: انفصام اجتماعي ثقافي). ابن القبيلة الحقيقي هو من يحامي عنها بلسانه ويده ضد أعدائها، من ينصرها ظالمة أو مظلومة. وهو وأخوه على ابن عمه، وهو ابن عمه على الغريب (وهو وابنه على أخيه). من هذا الباب تحمل الوطنية القبلية هذه (أنا وابن عمي) في جوفها وطنيات مماثلة لها: الطائفية (أنا وأخي) والعائلية (أنا ونسلي). ومن جهة أخرى، القبيلة "عصبية" يفترض أنها لا تعرف تفرقا؛ إنها صف واحد وكلمة واحدة. لا استقلال ممكنا للضمير ولا للعقل هنا، فالوطني القبلي يغوي إن غوت القبيلة ("الأمة") ويرشد إن رشدت، على ما قال يوما دريد ابن الصمة. وقد يمكن تمثيل "الأنا" القبلي بالصيغة التالية: أنا منا، إذاً أنا معنا! أو بالأصح: أنا معنا، لكوني منا! يؤكد "الأنا" هذا ذاته بذوبانه التام، بتخليه الفوري عن استقلاله. وهو ما يجعل الثقافة فائضة تماما عن الحاجة. إذا ما فائدتها إن كانت هويتي الموروثة تحدد مواقفي العامة؟ إن كان انتمائي يقرر تفكيري وقيمي؟ و"لا يكذب خبرا" الوطنيون القبليون على كل حال، فالشعبوية سمتهم الغالبة، مع ما هو معلوم من أصالة عداء الشعبوية للثقافة والمثقفين. وقبل ذلك، يكفي الكلام على وطنية شعورية، تعمل حصرا على مستوى العاطفة والانفعال والطبيعة والتماهي، حتى تكون مضادة للثقافة. هذه بالتعريف تتكون بالاستقلال عن الطبيعة والشعور، وبضبط هذا وتحويله إلى وعي ومعرفة. لم يتغير شيء جوهري في بنية الضمير في ظل عالم الإسلام، وإن توسع إطار الأخوة. وطن المسلم دينه. ليس حيث يعمل ويعيش ويملك ويأمن، بل الإسلام أو "دار الإسلام"، أي حيث السيادة السياسية والرمزية للإسلام. الوطنية هنا ولاء للدين، وللسلطة الحارسة له والقائمة باسمه. الخروج على السلطة مرفوض أكثر حتى من عدم الالتزام بأوامر الدين ونواهيه. والخشية من الفوضى أو "الفتنة" مقدمة على التطلع إلى العدل. الطاعة والجماعة قرينتان، و"شق عصا" الأولى مفارقة محتومة للثانية، جالبة للكفر المبيح للدم (وللتكفير الديني والتخوين الوطني المعاصر بنية ثقافية واحدة، أساسها الندرة، ندرة الإيمان وندرة الوطنية، ما يعني أن مناهضة التخوين تبقى سطحية وعكوسة دون القطيعة مع الثقافة التكفيرية). والهوية هنا معطاة سلفا ومتكونة نهائيا. فلا يبقى غير استظهار "ثوابتها"، الأمر الذي يقتضي حنجرة قوية أكثر من ذهن نقاد. استقلال الضمير مستحيل هنا أيضا. ولا تعنى عقيدة "الولاء والبراء" التي يفترض أن ينضبط بها كل مسلم شيئا مختلفا عن مبدأ "أنا معنا" وضدهم، أحبُّنا وأكرههم. هذان أصلان متعاقبان ومتزامنان في آن معا لوطنياتنا المعاصرة. المفهوم القومي العربي للوطنية، هذا الذي يجعل الوطنية موضع إثبات، يبدو أوثق صلة بالقبيلة. لكن تطور دولنا، القومية منها وغير القومية، إلى نظم سلطانية محدثة جعلها أقرب للنموذج الإسلامي الذي يتشكك في المجتمع وحركاته، ويجعل السلطان مبدأ للنظام والاستقرار، والفتنة هي الخطر الأقصى. على أن النموذجين يشتركان في إنكار استقلال الأفراد، عقولهم وإراداتهم وضمائرهم. مستقلو الضمير كان اسمهم صعاليك في القبيلة، وكانوا بلا حماية قانونية أو سياسية (لا يثأر لهم). ومستقلو الضمير في ظل السلطانية قد يكونون "مثقفين"، متكلمين وفقهاء (ضميرهم مستقل عن السلطة وليس عن الدين أو الشريعة) وفلاسفة. وهم بلا حماية تقريبا أيضا. يشتركان بعدُ فيما هو أهم في سياقنا هذا: الانجذاب "الفطري" إلى الآليات البلاغية واللغوية والإشهارية للانتماء. القبيلة يُفتخر بها وتمدح ويهجى أعداؤها؛ والإسلام يُشهر، فيُوالى وحده ويُبرأ من غيره. وتتكفل خطب السياسيين وتصريحاتهم ووسائل إعلامهم، وخطب الجمعة في المساجد (وهي تسبح الله وتمدح السلطان وتبارك الرجل)، بتجديد دائم لشباب هذه الممارسات البلاغية. وفي الحالين لا يُبدى أي اهتمام بنصاب الكلام من الواقع، أي "الحقيقة". المهم ليس المعرفة والرصيد الواقعي لما نقول، بل حفظ الهوية والانتماء، وهذان يشتغلان بالعلامات والرموز لا بالمفاهيم. وتغلّب وظيفة الهوية على وظيفة المعرفة مشهور في إيديولوجياتنا الحديثة، بما فيها إيديولوجيات العمل كالشيوعية والقومية العربية. فقد آلت إلى مفاهيمها إلى أنساق من الرموز التي تلبي وظائف التعارف بين معتنقيها أو كلمات السر الرابطة بينهم، وفقدت بالعملية ذاتها وظائفها الشارحة والنظرية. ولما كانت المعرفة فعلا "متعديا" والهوية فعلا "لازما" أو انعكاسيا، نفهم أن الوطنية التي استعرضت نفسها سمعيا وبصريا على إيقاع التنكيل الإسرائيلي بغزة إنما هي وطنية هوية، تنشغل بذاتها وتحيل إلى ذاتها وتثني على ذاتها. ووطنية الهوية لا تخرج إلى العالم ولا تتفاعل معه ولا تحتاج إليه. لا شيء يعنيها غير مبدأ لذتها الذاتية. وبمجرد أن نتكلم على هوية وسياسة هوية ووطنية هوية، يسهل علينا فهم التخوين (آلية استبعاد للخلاف، وحفظ وتصليب للهوية)، يسهل كذلك فهم حلول علامات الهوية الصوتية والبلاغية والطقسية (آليات انتساب وتماه). التفكير المستقل نافل هنا مثل الضمير المستقل. ألا تقتضي المعرفة إدخال التعدد في واحد الهوية (تحليل، تمييز، تفكيك، "سبر وتقسيم"..)، وتاليا خلخلته وإضعاف تماسكه الصخري؟ أليس أول الضمير التشكك في عدالتي، عدالتنا؟ ويغرينا القول هنا إن الممارسات الإشهارية واللغوية والصوتية ليست مظهرا للمفهوم المعياري للوطنية، بل بالعكس: إن ما تنطوي عليه الممارسات الطقسية الراسخة هذه من يقين طارد للتردد والوساوس يقتضي مفهوما معياريا للوطنية، يتعذر التطابق معه على غير قلة مؤمنة أو وطنية، ما يبيح لها أن تحكم وحدها. الطقس الراسخ يؤسس المعيار المشرع. فإن صح أن الصوت العالي يسبق "الفكرة العالية"، حاز نقد الصوت العالي وطقوسه (ومنها بالمناسبة الأذان عبر مكبرات الصوت) أهمية فكرية وسياسية تأسيسية، يتعين التمعن فيها وتبين منطقها.
شروط معاصرة لقد تمازجت نماذج تاريخية مستبطنة في الثقافة ومنقولة عبرها، مع مقتضيات الاستبداد في دولنا المعاصرة، ومع شرط تاريخي مناسب، من أجل ولادة هذا الضرب من الوطنية القبلية (أو وطنية الهوية). والشرط المعني هو الرضة الاستعمارية التي اتصفت بالاستمرارية في العالم العربي بسبب إقامة إسرائيل الغريبة والمعتدية في قلبه. فإذا كانت النماذج التاريخية للشعور الجمعي جعلت الوطنية الموجهة ضد الخارج ممكنة، فقد جعلها الاستبداد مرغوبة، وجعلها الشرط الاستعماري المستمر محتومة. نضيف هنا إن الوطنية الموجهة ضد الخارج هي ذاتها الوطنية الموجهة نحو الخارج، أعني المرشحة للانقلاب على ذاتها والفناء في حب "الخارج" بعد أن كانت تتفانى في العداء له. هذا لأن الوطنية هذه، وقد جردت محكوميها من ضمائرهم وعقولهم، غدت بلا بنية ذاتية، أو مركز ثقل داخلي، ما يجعلها خفيفة ونزوية و..قابلة للبيع، يسهل انتقالها من الأوتاركية إلى التبعية. من هي الدولة العربية المعاصرة التي يمكن استثناؤها من هذه السمة البنيوية؟ هذه الوطنية لا يحامى عنها بنبرة هادئة، بتفكير شخصي مترو، على أرضية قيم إنسانية عامة. إن تكوينها القبلي هو الإطار الاجتماعي الواقعي أو المتخيل لضروب "المعرفة" والولاءات والنبرات الصادحة التي استعرضت نفسها على وقع محنة غزة. فإن كنا نروم معرفة وتفكيرا ونبرة مختلفة، وهذا ممكن ومرغوب وضروري، فليس دون جعل الإطار الاجتماعي هذا موضوعا لتفكيرنا، بما في ذلك وعي نماذجه التاريخية (تتكثف في الثقافة الدينية)، ودواعي استمراره المتمثلة في الاستبداد، وشرط إمكانه الاستعماري. هل من حاجة إلى القول، ختاما، إن الوطنية الظلامية المحللة هنا، المفصولة عن جمهور المواطنين المحتقر، ليست وطنية؟ إنه إن كان لأوطاننا أن تنهض يوما، فضد الوطنية الجاهلة هذه وضد وكلائها حراس الغباء؟ إن وطنية مثقفة ومستنيرة مشروع للمستقبل؟
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثقافة الحرب الأهلية ومثقفوها
-
في شأن أخلاقيات مقاومة الطائفية
-
في تغيرات الإيديولوجية السورية وأصولها
-
في نقد العنف اللفظي ضد العرب والإسلام
-
عن -المجتمع المكشوف- وتحرره
-
البوشية وتحطيم الديمقراطية
-
الصراع الوجودي والصراع العدمي
-
ما وراء -كي الوعي- وما تحت الوعي المكوي
-
في نقد لبنان.. خواطر في شأن بيروت والثقافة والحرية
-
أنهاية الردعية الإسرائيلية؟!
-
كسر حالة اللابديل... فلسطينياً وعربياً
-
.. لكن أين يوجد -العرب-؟!
-
بلى، هناك بديل فلسطيني!
-
قضية عدالة جوهرية، لا تتقادم ولا تستلب
-
مشروع لقتل الناس جميعا!
-
حماس وعبّاس والشيطان
-
في الطائفية والهيمنة والمعرفة السياسية
-
الثقافة والطائفية: شروط إمكان دراسة نقدية
-
الزيدي وبوش والحذاء...سخرية في بطن سخرية!
-
إصلاح النظام أم استعادة الجولان؟
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|