|
فيلم - بورات - للاري تشارلس . . . من السخرية الوثائقية المُرتجلة الى التشويه المُتعَمد
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 2564 - 2009 / 2 / 21 - 07:46
المحور:
الادب والفن
ثمة مهم سؤال ينبغي اثارته غِب الانتهاء من مشاهدة فيلم " بورات " للمخرج الأمريكي لاري تشارلس مفاده: ما هي المتعة الفكرية أو الثقافية التي قدّمها المخرج لمشاهديه؟ وما هي المتعة البصَرية التي حظي بها المُشاهد من فيلم يمزج بين التقنيتين الروائية والوثائقية في آنٍ معاً؟ وللاجابة على هذين السؤالين لا بد من الوقوف على تصنيف هذا الفيلم كنوع فني له خصائصة وإشتراطاته الفنية التي تميزه عن الأجناس الفنية الأخرى. فقد اتفق بعض النقاد على تسميته بـ " Mockumentary " وهي كلمة منحوتة ومختزلة وتعني السخرية الوثائقية. وهي فن مرئي يجمع بين التوثيق من جهة، والسخرية من جهة أخرى. وهناك نماذج " مكيّومنترية " كثيرة تعرض على شاشات السينما أو التلفزيون هدفها امتاع المشاهد وتحقيق بعض الفائدة المرجوة بحسب طبيعة كل متلقي. غير أن فيلم " بورات " مناط بحثنا ودراستنا هو أنموذج مُستفز وخبيث وعدائي لأكثر من جهة. إن هذا التشخيص ليس نابعاً من موقف متشدد أو متعصب. فكاتب هذه السطور المتواضعة هو أبعد ما يكون عن أية أصولية دينية أو فنية أو ثقافية وما شابه ذلك. غير أن المخرج قد تعمد الاساءة الى أديان وأجناس وأعراق كثيرة، وسخر منها الى حد الطعن والقذف والتشهير بدءاً من اليهود، مروراً بالمسلمين، وانتهاءً بالمواطنين الأمريكيين البسطاء الذي وجدوا أنفسهم أمام مخرج وممثلين وتقنيين كاذبين أو متربصين يستغلون براءة المواطنين العاديين، ويتصيدون في المياه العكرة. لذلك فمن المستحسن أن نُطلق عليه تسمية " Seudo-documentary " والتي تعني السخرية الوثائقية المرتجلة التي تأتي من دون سابق تهيئة أو تخطيط. وحتى هذا النوع الذي يعتمد على السخرية والتهكم أو النقد اللاذع ضمن الحدود الأخلاقية المقبولة يجب ألا يُجرِّح بقناعات الناس الدينية والفكرية والثقافية. فكيف إذا كان الأمر مُبيّتاً والنوايا سيئة منذ البداية كما هو الحال في فيلم بورات؟ لا بد من تسليط بعض الضوء على عنوان الفيلم الذي جاء طويلاً بعض الشيء بهدف إثارة التهكم منذ البدء. فالعنوان هو " بورات: المعارف الثقافية الأمريكية لفائدة أمة كازاخستان المجيدة " من هنا نفهم أن المخرج أراد القول إن " أمة كازاخستان المجيدة " يجب أن تستفيد من المعارف الثقافية الأمريكية لأن هذه الأخيرة هي محور العالم وسيدته الوحيدة من دون منازع. قد يتساءل البعض عن السبب الرئيس وراء اختيار كازاخستان ثيمة لهذا الفيلم الذي يفترض أنه كوميدي، وساخر سخرية هادفة؟ هناك احتمالات عدة أبزرها أن هذا البلد قد انضم الى " منظمة شينغهاي للتعاون " وهذه المنظمة هي عبارة عن حلف بين روسيا والصين وقد ضم الى جانبه أغلب بلدان آسيا الوسطى وأهمها كازاخستان لأنها بلد نفطي ومُصدِّر كبير للغاز، فضلاً عن موقعها الجغرافي الذي يؤهلها للعب هذا الدور الخطير الذي لا ترتاح له أمريكا. لذلك فإن التحرشات بهذا البلد قد امتدت حتى الى الشاشة الكبيرة في محاولة للنيل منه، وطعنه في ثقافته وتقاليدة الاجتماعية لسبب واحد وهو مناهضتها للولايات المتحدة الأمريكية. الخلطة العجيبة لم يترك المخرج فرصة إلا واستثمرها لمصلحته الشخصية التي تتمحور مع الأسف حول فكرة التشويه المتعمدة التي تبناها ضمن سياق الفيلم الذي دُشنت افتتاحيته في قرية " كوسك " الكازاخستانية، غير أن واقع الحال يقول إن التصوير قد حدث في قرية غجرية في رومانيا، الأمر الذي أفقد الفيلم مصداقيته خصوصاً إذا كان جزء من الثيمة يعتمد على التوثيق. وفي المشهد الافتتاحي نشاهد مجاميع كبيرة من اليهود وهي تركض في أحد المراسيم الدينية. كما نشاهد بعض النساء وهنَّ يسحبن العربات بدلاً من الخيول أو البغال، ونرى بعض الحيونات داخل البيوت السكنية. هذه المشاهدة المسيئة هي التي استفزت بعض المسؤليين الكازاخستانيين ودفعتهم الى اعتبار الممثل ساشا بارون كوهين الذي جسّد دور " بورات " أول اعداء كازاخستان. كما وجهوا له الدعوة لزيارة كازاخستان كي يرى واقع الحال من كثب، ويقف بنفسه على حجم الاساءة التي اقترفها ضد الشعب الكازاخستاني. يعتبر بورات واحداً من الشخصيات الاعلامية المهمة في كازاخستان، ولذلك رشحته الدولة لزيارة الولايات المتحدة مع المنتج " أزمات باغاتوف " والذي لعب دوره الممثل الأمريكي كين دافيتشن لتسجيل برنامج تلفزيوني يصور الحياة الحقيقية للشعب الأمريكي بمختلف أجناسه وأديانه وأعراقه كي يستفيد منها بالنتيجة الشعب الكازاخستاني. وحينما يصل الى هناك تبدأ عمليات الاستغفال المتعمدة للناس الأمريكيين الذين يلتقيهم بورات وهو يتحدث بلغة انكليزية مضعضعة تذكرنا بشخصية " برونو " التي سبق أن جسدها ساشا كوهين. لم يترك بورات شيئاً معيباً إلا وأثاره أو سأل عنه أو فعله مثل الهوموفوبيا أو " رُهاب المثلية "، والتمييز العنصري، وعداء السامية، وازدراء الأديان وخصوصاً اليهودية منها لعل أبرزها طريقة فراره من تلك العائلة اليهودية الطيبة التي قدّمت له المأوى والطعام لكنه تركها هو وصاحبه وفرّا منها بطريقة مقرفة ومريبة متصورين أن العائلة قد تحولت الى مجموعة من الصراصير. وحينما يهربان يحاولان شراء مسدس يقتل اليهود تحديداً وليس غيرهم من الناس الذين ينتمون الى أديان أخرى. وحينما يعجزان عن شراء المسدس يقرران شراء خنزير يحميهما طوال الرحلة الطويلة التي انحرف مسارها من نيويورك الى كاليفورنيا لأن بورات وقع في حب الممثلة باميلا أندرسون وسعى بكل جهده لأن يقترن بها على الطريقة الكازاخستانية ولكنه حين يفشل في اختطفاها يعود الى بلاده بصحبة صديقته ليووينيل التي وجدت نفسها في قرية " كوسك " وسط أهله وأصدقائه وذويه وزوجته المطلقة التي تكيل له الشتائم حيثما تصادفه. تحدث بورات عن موضوع مساواة الرجل مع المرأة وأهان المرأة الكازاخستانية متنكراً للونها الذي لا يختلف كثيراً عن لون النساء الأمريكيات وربما هناك نساء كازاخستانيات أجمل بكثير من الأمريكيات أنفسهن. كما تناول موضوع الحرب على العراق ومواقف جورج بوش المعروفة خاصة حينما كان يتحدث بطريقة سمجة في أثناء تواجده في ملعب " الروديو " وغنائه للنشيد الوطني الأمريكي بمفردات كازاخستانية مصوراً أن كازخستنان هي أعظم بلد في العالم متهكماً منها ومن شعبها النبيل الذي يستحق أن يكون خارج اطار هذه اللعبة التهكمية الساذجة. تأثير نجومية الممثل لا شك في أن ساشا بارون كوهين هو ممثل ناجح بكل المقاييس ويتوفر على موهبة كبيرة في أن يتحدث بهذه اللغة الانكليزية المضعضعة وهو المولود في بريطانيا. وقد سبق له أن فاز بالأوسكار ورشح لنيل العديد من الجوائز العالمية المهمة. غير أن الموهبة والجوائز والتنويهات لا تكفي لوحدها ما لم يعتمد الممثل على قاعدة أخلاقية قوية تجعله ينتصر بالدرجة الأولى الى القيم الاخلاقية الحضارية التي تستجيب لشروط العصر ولانسانية الانسان. لقد عرفه المشاهدون في الغرب تحديداً من خلال ثلاث شخصيات رئيسة وهي " علي جي " و " برونو " و " بورات " إضافة الى شخصيات أخرى كما هو الحال في أدائه الصوتي للفيلم الكارتوني الناجح " مدغشقر ". ويبدو أن فيلم " بورات " قد حقق هذا النجاح غير المسبوق بسبب شهرة ساشا كوهين الذي استفز الآخرين عبر جرأته تارة، وعبر مواقفه الاستفزازية تارة أخرى. كما لعب الجانب الجنسي دوراً كبيراً في وضع الفيلم على الحافة الحرجة التي تريد أن تقول أشياء كثيرة مسكوت عنها مثل العلاقة بين الأب والابن العاري الذي لم يضع حتى ورقة التوت على عضوه التناسلي، بل أن هذه الصورة الفاضحة أصبحت مادة للحوار بين بورات الذي قدِم من كازاخستان وبين سيدة أمريكية تعلمه على الأتيكيت الغربي وكيفية التعامل مع الناس المعتبرين في الحفلات والأمسيات الخاصة. وعلى الرغم من الايرادات الفلكية التي حققها هذا الفيلم إلا أنه يظل فيلماً هزلياً عادياً لا يخرج عن إطار النكات السمجة والعري الذكوري البذيء الذي لا مبرر له.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أهمية القصة السينمائية في صناعة الفيلم الناجح
-
في فيلمه الروائي الجديد - الحقل البرّي - ميخائيل كالاتوزيشفي
...
-
الشاعرة الأسكتلندية جين هادفيلد تفوز بجائزة ت. أس. إليوت للش
...
-
الفنان البريطاني رون مُوِيك يصعق المشاهدين ويهُّز مشاعرهم
-
المُستفَّزة . . فيلم بريطاني يعيد النظر في قضية العنف المنزل
...
-
في شريط - بدي شوف - لجوانا حاجي وخليل جريج: هل رأت أيقونة ال
...
-
في فيلمها الأخير - صندوق باندورا - يشيم أستا أوغلو تستجلي ثل
...
-
المخرجة التركية يسيم أستا أوغلو في - رحلتها الى الشمس -
-
رشيد مشهراوي في فيلم -عيد ميلاد ليلى-: نقد لواقع الحال الفلس
...
-
قوة الرمز واستثمار الدلالة التعبيرية في فيلم - فايروس - لجما
...
-
أين يقف المفكر حسين الهنداوي. . . أ عَلى ضفاف الفلسفة أم في
...
-
من ضفاف الفلسفة الى مجراها العميق: قراءة نقدية في ثنائية الأ
...
-
المثقف وفن الاستذكارات في أمسية ثقافية في لندن
-
- القصة العراقية المعاصرة - في أنطولوجيا جديدة للدكتور شاكر
...
-
فيلم - ثلاثة قرود - لنوري بيلجي جيلان وترحيل الدلالة من الحق
...
-
المخرج قيس الزبيدي يجمع بين السينما والتشكيل والعرض المسرحي
-
- الطنجاوي - لخالد زهراو... محاولة جديدة لهتك أسرار محمد شكر
...
-
قراءة المهْجَر والمنفى بعيون أوروبية
-
رواية - الأم والابن - لكلاوﯿﮋ صالح فتاح: نص يع
...
-
- زيارة الفرقة الموسيقية - لكوليرين . . شريط ينبذ العنف ويقت
...
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|