|
مفكر وكاتب مسرحي من قنا
أبو الحسن سلام
الحوار المتمدن-العدد: 2562 - 2009 / 2 / 19 - 05:25
المحور:
الادب والفن
لأن النيل يفيض من الجنوب إلى الشمال ، وبذلك يبادر إلى خير الوادي كله منذ آلاف السنين ، فليس غريباً أن يتطبع أهل الجنوب بطباعه فيفيضون بالحب والألفة والصدق والمبادرة. وليس غريباً والأمر كذلك أن يبادر المفكر القناوي (محمد نصر إدريس) الكاتب المسرحي الشعبي فيغمرني بفيض محبته، وأنا الذي ما يكاد يتعرف عليه في أول لقاء لنا بقصر ثقافة قنا في أثناء وجودي محكماً مسرحياً لعروض هيئة قصور الثقافة المسرحية هذا العام لفرق إقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي ومن خلال الندوات التي شارك بصدق وبفهم في إدارتها مع الشاعر الأسيوطي والكاتب المسرحي درويش الأسيوطي-الذي أعاد لي بعضاً من ذكرياتي حيث درسنا سوياً - ربما على مرحلتين – مدرسة طما الإعدادية قبل أن أرحل وأكمل تعليمي بالإسكندرية منذ عام 1958 . في اتصال هاتفي مفاجئ فاض محمد نصر حباً عبر الأثير في صوت وديع رقيق أشبه بهديل الحمائم. والم استغرب منه ذلك ، مع أني كنت أمهد نفسي لمحادثته ، تعبيراً عن حفاوته الخاصة باللجنة بشكل أبعد بكثير من مسؤولي ثقافة قنا الرسميين ، حيث كان يفيض عاطفة ودفئاً ويفيض فكراً عميقاً متأملاً وغنياً بطمي دلالاته مع صفاء كلماته التي تكاد تلمس المسامع لمس هسيس لنسائم صباح مشرق على ضفاف نيل قنا ولست أنسى صحبته لنا إلى معبد (دندره) معبد (حتحور) وما أعجبه معبداً وما أندره ، هذه التحفة الفنية البديعة العبقرية الفريدة بين المعابد المصرية القديمة حيث كل سنتيمتر واحد من أعمدته وأحجاره تزخر بنقوش تسجل فكر الميلاد وفكر الغياب الأبدي إبداعاً سريالياً ، فالنظر إلى الشمس نطفة الميلاد تتسلل أشعتها من فم حتحور في تكوينها الجسدي الذي ينحني على شكل حرف ( ل ) في رسمه العربي لتخرج من رحمها وليدها (أوزوريس) . والإبداع كل الإبداع في تكوين الجنين في رحمها .. لا فرق على الإطلاق بين صورته التي نعرفها الآن عن صورته المنقوشة في ذلك الحفر الفرعوني الخالد والأكثر غرابة هو أن النظر إلى الجنين في تلك اللوحة التي تتوج سقف غرفة الميلاد في معبد (دندره/ حتحور) يعطيك من كل اتجاه تنظر إليه شكلاً جديداً ذا دلالة مختلفة ، وبذلك أنت تنظر إلى أربع لوحات في لوحة واحدة .. فهل هناك عبقرية تضاهي عبقرية الفنان الفرعوني القديم ومن المؤسف أن لوحة الأبراج السماوية بمتحف (دندره) قد نزعت ووضع بديلاً عنها لوحة مستنسخة منها من الجص وعندما سألت الأستاذ محمد نصر قال اللوحة الأصلية نزعت وهي في متحف اللوفر بباريس . هذا إلى جانب البهو الرئيسي للمعبد حيث ينظم الجانب الغربي من البهو أربعة وعشرون عموداً مهيباً نقوشها غائرة وينتظم جانب البهو من جهة الشرق أربعة وعشرون عموداً مهيباً نقوشها بارزة ، قال لي الأستاذ محمد نصر الجانب الغربي نقوش أعمدته غائرة حيث نهاية رحلة الشمس (مغيبها) أما نقوش أعمدة البهو في الجانب الشرقي فهي بارزة حيث بداية رحلة الشمس (شروقها) وذلك بالطبع رمز لرحلة الحياة في دورتها من الميلاد إلى الفناء أو الغياب ويرصع تاج كل عمود منها بوجه (حتحور) من جهاته الأربع. ويشتمل هذا المعبد كذلك على عدد من المعابد الصغيرة معبد في مدخله الرئيسي على يمين الزائر وفي خلفية المعبد الرئيسي يوجد معبد آخر صغير . فإذا صعدت درج المعبد وهو من ثلاثة طوابق سيدهشك أن ترى مقصورة استجمام حيث الفرقة الموسيقية الملكية الخاصة بالمعبد ، كما تدهشك المقاصير المخصص كل منها لغرض معين (الولادة) (التحنيط) (قدس الأقداس) تماماً مثلما توجد بالدور الأرضي مقاصير خاصة بالملك والملكة وبالكاهن وبكبار سدنة المعبد . أما مبنى المعبد الرئيسي نفسه من خارجه .فترصع أحجاره نقوش منها البارز ومنها الغائر تشخص التاسوع الإلهي ودورة الخلق والموت والبعث . وليس غريباً أن نجد في ساحته الخارجية على يمين المعبد الرئيسي بحيرة مقدسة تتناثر في أرضها نخيلات سامقة نحو السماء وهي خالية من الماء وعندما نزلنا إلى قاعها على درج جانبي في ضلعها المستعرض من الجهتين وجدنا فتحة بحجم باب من كلا الجانبين يفضي إلى ممر مائي منبعه نهر النيل والماء يغمره غير أن مستواه منخفض عن قاع البحيرة ، التي قال لي الأستاذ محمد نصر إنها حمام سباحة كليوباتره ، وأشار إلى مقصورة محفورة في باطن أحد جوانب البحيرة الجافة قال إنها المقصورة الخاصة لتخلع كليوباتره ملابسها ولتسترخي فيها قليلاً . والغريب ألا تستفيد محافظة قنا من هذا الأثر الفريد الغريب سياحياً وهي التي شهدت على يد محافظها النشط المتحضر نهضة عمرانية ومدنية تجعلها بحق عروس الصعيد ، فالشوارع والميادين قطعة من أوروبا حيث الجداريات والتماثيل وحيث النظافة والتزيين بالأزهار والأنوار في أحواض جصية على هيئة زهرة اللوتس بين كل عشرة أمتار من الجانبين وإشارات المرور ذات النظام الآلي والشوارع الخالية من الباعة مما ينفي عن هذه المدينة ما تزدحم به مدننا الكبرى وعلى وجه الخصوص العاصمة من تلوث سمعي وبصري لذلك يبدو غريباً ومحافظة قنا فقيرة الموارد وهي تمتلك هذا الكنز معبد (دندره/حتحور) الذي يقع غرب النيل مرتبطاً بكوبري حديث أسفله كورنيش بديع على أحد شطيه حديقة عامة متسعة وحيث الشباب من الجنسين يتشكلون في ثنائيات منفردة في جلسات تشي بأننا لسنا في الصعيد ولسنا في قنا التي كانت إلى عهد قريب إحدى بؤر الإرهاب . ولا أدري مع كل هذا الفكر المدني المستنير . الذي أعاد به محافظ قنا (عادل لبيب) خلق هذه المدينة العريقة خلقاً مدنياً جديداً، لا أدري كيف تمتلك محافظته على الشاطئ الغربي من نهر النيل وعلى بعد خمسة كيلومترات ربما هذا المعبد التحفة معبد حتحور/ دندره ولا يقيم الدنيا ويقعدها من أجل ترميمه وافتتاحه بحضور رئيس الجمهورية وكل وسائل الإعلام الأجنبية قبل المصرية فهو كنز أثري سياحي سيحيل المنطقة إلى مزار سياحي عالمي ينهض باقتصاديات هذه المحافظة الفقيرة والتي يطبق على واديها الصغير الجبل الغربي والجبل الشرقي ولماذا لا يتحرك الفنان فاروق حسني وزير الثقافة الهمام والدكتور زاهي حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار بنشاطه وحماسته المعروفة لبعث هذا الأثر النادر فيعيد تشكيل الخريطة الأثرية السياحية ضمن ما قامت به الوزارة من جهود مشهودة في مجال الآثار . فإلى الصديق المفكر الأديب محمد نصر محبتي ولعلي قد وفيت بوعدي فشخصت بقلمي من الكمبوشة وجه حتحور الذي توجت به تيجان أعمدة معبدها في دندره .
كتبت هذه المقالة قبل وفاة الأديب محمد نصر إدريس بأربعة أعوام علي الأقل . كتبتها في شتاء 2002
#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البحث المسرحي والنقطة العمياء
-
فلسفة الفوضي الخلاقة في عرض مسرحي بالجزويت
-
ليلة من ليالي على علوللا
-
بوسيدون يستبدل إكليل الغر بالغتره
-
سارتر وليزي وبوش
-
جماليات الأصوات اللعويةفي الأدوار المسرحية
-
سلم لي على -بافلوف-
-
جماليات التعبير بالأصوات اللغوية في الأدوار المسرحية
-
فلسطين بين ثقافة العنف والسلام- في حوارية قطع ووصل -
-
فلسطين بين ثقافة العنف والسلام
-
السكتة الكوميدية في الكتابة المسرحية
-
التباس الكتابة المسرحية بين المسرح السياسي ومسرح التسييس
-
أوركسترا عناكب الثقافة العنصرية ومعزوفة النشاز العصرية
-
معزوفة التواصل الحضاري
-
المتدفقون - عرض مسرحي -
-
هوية الصورة في فن فاروق حسني
-
سيميولوجيا الفرجة الشعبية في المسرح
-
المرأة في مسرح صلاح عبد الصبور
-
معزوفة التواصل الثقافي الحضاري
-
اتركوا النار لنا
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|