|
في فيلمه الروائي الجديد - الحقل البرّي - ميخائيل كالاتوزيشفيلي يعود الى الطبيعة ويرتشف من نبعِها الأول
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 2559 - 2009 / 2 / 16 - 08:23
المحور:
الادب والفن
يسعى مهرجان الشرق الأوسط السينمائي الدولي الى ترسيخ تقاليد جديدة، ولعل برنامج " مهرجان المهرجانات " هو خير مثال لما نذهب إليه. فمنذ بداية هذا العالم تنافست أفلام روائية كثيرة من مختلف بلدان لنيل بعض الجوائز والتنويهات. وقد إنتقت لجنة اختيار الأفلام " 24 " فيلماً روائياً طويلاً نال معظمها جوائز مهمة أُسندت إما من قِبل النقاد أو الجمهور الذي حضر هذه العروض. ومن بين الأفلام المُنتقاة نذكر فيلم " عشق " للمخرج الأرمني أتوم ايغويان، و " أزهار الكرز " للألمانية دوريس دوري، و " حكاية عيد الميلاد " للفرنسي أرنو ديسبليشا، و " نهر مُتجمد " للأمريكية كورتني هانت، و " فوضى هادئة " للإيطالي أنتونيللو غريمالدي، و " حصان بساقين " لسميرة مخملباف، و " السجين " للهندي برياس غوبتا، و " الحقل البرّي " للمخرج الجورجي- الروسي ميخائيل كالاتوزيشفيلي، محور دراستنا النقدية. وقد حاز هذا الفيلم على جائزة النقاد الخاصة في الدورة التاسعة عشر في مهرجان الفيلم في سوشي إضافة الى جائزتي أفضل سيناريو وأفضل موسيقي. المنفى النائي ربما يتبادر الى ذهن المُشاهِد السؤال التالي الذي يتمحور حول السبب الذي دفع ديميتري موروزوف أو " ميتيا " لأن يختار هذا المكان المُجدب والنائي الذي يبعد نحو " 200كم " من مدينة " ألماتي " عاصمة كازاخستان في حقبة الاتحاد السوفييني السابق. يا تُرى، هل اختار ميتيا هذا " الحقل البري " المقفر والمهجور إلا لماما لأنه عُيِّن هناك من قبل الحكومة المركزية، وأنه غير قادر على رفض هذا التعيين. أم أن ميتيا، هذا الطبيب المتخرج حديثاً، يحب العزلة، ويفضل العيش بعيداً عن الحياة المدينية التي تتوفر فيها كل المستلزمات الحضارية. أم أنه منفي بشكل من الأشكال؟ لا شك في أن موضوع الفيلم لا يتطرق الى السياسة من قريب أو بعيد، لكنه يحيل إليها حتى لو أراد المخرج أن ينأى بنفسه عن السياسة واشكالاتها المعقدة، خصوصاً وأنه من أصول جورجية، قبل أن يكون روسياً في الثقافة والانتماء. ولو افترضنا جدلاً أن المخرج أراد أن يُحيلنا الى عالمه المجازي أو الاستعاري الذي جسّده في السيناريو كل من بيتر ليتسك وأليكسي ساماريادوف، لكي يقدِّم لنا الوجه الآخر للعالم المديني المتحضر الذي يقف كمعادل موضوعي لهذا المضارب النائية الجدباء. يا ترى، ما هو المبرر الواقعي الذي يدفع بهذا الطبيب الشاب لأن يفضل العيش الجزء في البدائي من العالم؟ هل جاء لدحض القوى الغيبية التي يؤمن بها هؤلاء الناس البسطاء؟ هل جاء لكي يتحقق من أسطورة الملاك الحارس الذي كان يراقبه من فوق قمم الجبال العالية من دون أن يحيط الآخرين علماً به على الرغم من تأكده من وجود اللصوص وقطاع الطرق الذين يُغيِرون على الفلاحين وأصحاب المواشي بُغية سرقة مواشيهم وممتلكاتهم؟ ربما تتناسل الاسئلة الى ما لا نهاية. ولكي نصل الى بعض الحقائق المقنعة لا بد لنا من متابعة القصة السينمائية التي يمكن أن نضع بواسطتها النقاط على الحروف ونصل الى لغز هذه الاحجية التي ظلت تُحير المُشاهد حتى اللحظات الأخيرة من الفيلم، خصوصاً وأن المخرج قد اعتمد على لعبة التريث والتأجيل بغية شد المشاهد وتشويقه. المبنى الحكائي يُعيّن ميتيا في منطقة نائية جداً يُطلق عليها اسم " الحقل البري " في إشارة الى أنه يقيم في اللامكان تقريباً، ويعيش حياة بدائية صرف. وحينما نرى المشهد الأول نراه منفتحاً على بيت قديم متداعٍ أو آيل للسقوط في بعض جوانبه، كما أن سياجه الخارجي مهدم ومتآكل، لكن بعض الغرف صالحة للسكن على الرغم من كونها عرضة لمختلف عوامل الطبيعة القاسية. وثمة علامة مرفوعة على سارية تشير الى وجود مركز صحي يلجأ اليه القرويون و " حيواناتهم أيضاً" إذا ما تعرضوا للإصابة بطلقات نارية أو وعكات صحية وما الى ذلك. لا يبدو على ميتيا أي شكل من أشكال التذمر من الظروف القاسية التي تحيط به من كل حدب وصوب. وتأكيداً للعزلة التي يعيشها فثمة صندوق بريد يتفحصه بين أوانٍ وآخر غير أن الرسائل لم تصل اليه طوال المدة التي بقي فيها ميتيا في الحقل البري، علماً بأنه يتنقل على دراجة بخارية تُحيل الى زمن قديم ربما يذكرنا بحقبة الاتحاد السوفيتي السابق. تتوفر في البيت المهجور بعض المستلزمات مثل التلفاز القديم ذي اللونين الأسود والأبيض والذي فُتح لمرة واحدة وكان ينقل صور الحرب والطائرات التي تقصف هنا وهناك. أما أدواته الطبية فلم تكن تتجاوز بعض الأشياء البسيطة جداً مثل القطن والشاش والمعقمات إضافة الى بعض المشارط والسكاكين والمكواة البدائية التي يسِم بها الحيوانات. أما الناس الذين كانوا يراجعونه في عيادته فهم السكّير الذي فقد وعيه لأنه كان يشرب لمدة طويلة جداً، ولم يفق من غيبوبته إلا عندما وسمه ميتيا بمكواة البهائم على بطنة فعاد إثر الكي الى رشده. كما رأيناه يعالج البقرة التي أتخمت عندما أطعمها بعض الحبوب التي دسها في قطعة كروية من العجين. كما عالج اثنين من المصابين بطلقات نارية بينهما فتاة شابة. ولا غرابة في أن يدس أصبعه في الجرح الدائري المفتوح ويُخرِج الرصاصة. لا يخلُ النسيج الحكائي للفيلم من أبعاد اسطورية عديدة ولعل أبرزها حادثة الرجل الذي أصابته صاعقة من السماء حيث قرر دفنه في التراب حتى رقبته كي يشفى من مخلفاتها. كما أن الملاك الحارس أو الشبح او الشخص الغامض كان يحرس ميتيا، حسب اعتقاده، عند أفق القمم العالية، ولم يخبر الآخرين بوجوده على الرغم من انتشار اللصوص وقطاع الطرق في تلك المضارب التي لم يمر بها سوى شرطي واحد يمثل السلطة المحلية، ونراه يتردد بين الحين والآخر جالباً معه المصابين بجروح خطيرة بغية علاجهم في المركز الصحي الذي يشرف عليه ميتيا. أما العنصر الأكثر تشويقاً وغرابة في النسيج الحكائي لهذا الفيلم فهو زيارة خطيبته لمدة يومين والتي قلبت حياته رأساً على عقب، لكننا نفاجأ برحليها تاركة إياه في هذا الحقل البري بعد أن أخبرته بانها ستتزوج من شخص آخر من دون أن نعرف التفاصيل. فكل شيء في هذا النسيج ظل مؤجلاً بدءاً من الشبح، ومرواً بالأسباب الغامضة التي دفعته للبقاء في هذا المكان البعيد، وانتهاءً بالحبيبة التي تجمشت عناء السفر الطويل ثم غادرت مثل الحلم. قبل أن يطوي الفيلم مَشاهده الأخيرة ينزل الشبح، ونراه يتألم من الجروح المتقيحة في الجانب الأيسر من صدره حيث يعالجه ميتيا على أكمل وجه غير أن " الملاك الحارس " يتناول سكيناً صغيراً ويطعن ميتيا في بطنه، ثم نراه وهو يسقط أمام المنزل. كان جميع المشاهدين يتوقعون أن الفيلم قد بلغ نهايتة. غير أننا نرى ميتيا ممدداً على عربة يجرها حصان بينما يحوطه عدد من الأشخاص الذين يعبرون عن حاجتهم الماسة اليه. ربما يكون هذا المشهد واحداً من أجمل المَشاهد التي تصور ميتيا الجريح والمُغمى عليه وهو يرى هذه الوجوه الشبحية المتراقصة التي تحيل الى الشبح أو تتخيله أو تتداخل معه. ومع ذلك فقد ظلت عملية الطعن غير مبررة، مثلما ظلت حكاية زيارة حبيبته غامضة وغير مبررة، لكن الشيء الوحيد الذي تأكدنا منه هو أن ميتيا لم يمت، وإنما تم نقله الى مكان ما يتلقى فيه العلاج. هذه النهاية الغرائبية تثير تساؤلاً آخر. كيف لهذا الطبيب الذي عالج حالات مستعصية لم يستطع أن يعالج نفسه خصوصاً وان الطعنة قد تمت بسكين صغير جداً، بينما كان هو يُخرِج الطلقات النارية بأصابع يده، وليس بملقط كما تقتضي الاشتراطات الطبية، ويُنقذ في نهاية المطاف مرضاه الذين كانوا يقفون على حافة الموت، أو قاب قوسين أو أدنى منه. ثمة ملاحظة مهمة لفتت انتباه المشاهدين الذين حضروا في صالة " غراند سينما " في أبو ظبي مول وفي المارينا مول أيضاً بأن هناك مشاهد في الفيلم تحاكي النمط الغربي، وبالذات الغارات التي يشنُها اللصوص على الفلاحين وأصحاب المواشي، والمعارك المرعبة التي كانت تنشب بين الطرفين، وما ينجم عنها من جرحى يجدون طريقهم الى عيادة ميتيا، وقتلى يذهبون ضحية الجشع في الحقل البري الذي تتسيد فيه البربرية، ويتلاشى فيه القانون. بقي أن نقول إن ميخائيل كالاتوزيشفيلي هو مخرج وكاتب سيناريو ومنتج. وهو خريج المعهد العالي للسينما " فجيك "، ورئيس صندوق ميخائيل كالاتزوف. كان والده الراحل كالاتزوف واحداً من أهم مخرجي السينما في روسيا. وقد حاز على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان " كان " ومن أبرز أفلامه " الكراكي تطير " 1958 و " أنا كوبا " 1964 وغيرهما من الأفلام التي تُعتبر من كلاسيكيات السينما العالمية. أخرج ميخائيل ستة أفلام روائية طويلة وهي على التوالي " الميكانيكي " 1981، " المحبوب " 1992، " ألغاز " 2000، " أحدب في أحلامي " 2001، " ذرتان " 2001، و " الحقل البري " 2008.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشاعرة الأسكتلندية جين هادفيلد تفوز بجائزة ت. أس. إليوت للش
...
-
الفنان البريطاني رون مُوِيك يصعق المشاهدين ويهُّز مشاعرهم
-
المُستفَّزة . . فيلم بريطاني يعيد النظر في قضية العنف المنزل
...
-
في شريط - بدي شوف - لجوانا حاجي وخليل جريج: هل رأت أيقونة ال
...
-
في فيلمها الأخير - صندوق باندورا - يشيم أستا أوغلو تستجلي ثل
...
-
المخرجة التركية يسيم أستا أوغلو في - رحلتها الى الشمس -
-
رشيد مشهراوي في فيلم -عيد ميلاد ليلى-: نقد لواقع الحال الفلس
...
-
قوة الرمز واستثمار الدلالة التعبيرية في فيلم - فايروس - لجما
...
-
أين يقف المفكر حسين الهنداوي. . . أ عَلى ضفاف الفلسفة أم في
...
-
من ضفاف الفلسفة الى مجراها العميق: قراءة نقدية في ثنائية الأ
...
-
المثقف وفن الاستذكارات في أمسية ثقافية في لندن
-
- القصة العراقية المعاصرة - في أنطولوجيا جديدة للدكتور شاكر
...
-
فيلم - ثلاثة قرود - لنوري بيلجي جيلان وترحيل الدلالة من الحق
...
-
المخرج قيس الزبيدي يجمع بين السينما والتشكيل والعرض المسرحي
-
- الطنجاوي - لخالد زهراو... محاولة جديدة لهتك أسرار محمد شكر
...
-
قراءة المهْجَر والمنفى بعيون أوروبية
-
رواية - الأم والابن - لكلاوﯿﮋ صالح فتاح: نص يع
...
-
- زيارة الفرقة الموسيقية - لكوليرين . . شريط ينبذ العنف ويقت
...
-
في شريطه الروائي الوثائقي - فك ارتباط - عاموس غيتاي يدحض أسط
...
-
جابر الجابري يتحدث عن الثقافة العراقية في مخاضها العسير
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|