|
البحث المسرحي والنقطة العمياء
أبو الحسن سلام
الحوار المتمدن-العدد: 2560 - 2009 / 2 / 17 - 03:28
المحور:
الادب والفن
حيرة الباحث المسرحي - تأملات فلسفية في فن كتابة المسرحية - ما من علم إلاّ ويقوم علي البحث ؛ وما من بحث إلاّ ويقف خلفه عاشق لمجال عمله، متمرد علي كل مظاهر الثبات في محصلته المعرفية ؛ وما من بحث إلاّ ويقوم علي فرضية ما ؛ هي نتاج عدد من التساؤلات المندهشة ؛ أمام غرابة ظاهرة ما؛ تعذّر الوقوف علي كنهها من حيث كيفية وجودها، ومن حيث سببية ظهورها علي تلك الكيفية التي وجدت عليها . وهنا يكون الباحث ملزما بدراسة كيفية وجودها ؛ محمولة علي أسبابها ؛ ملتزما بالموضوعية ؛ مسترشدا بالمنهجية الملائمة ؛ لبحث إشكالية تلك الظاهرة التي وقف أمامها متحيّرا ؛ مستشهدا بشواهد عدول ؛ يثبّت بها أركان كل استنتاج يتوصل إليه. وهنا تبدو لي مقولة الكاتب المسرحي (أوجست سترندبرج) مقولة حقيقية ؛ حيث يقول :" إن قراءة النص المسرحي بمثابة قراءة لنوتة موسيقية ؛ فهي مهارة صعبة ؛ ولا أعرف الكثير ممن لديهم قدرة السيطرة عليها ؛ مع أن العديد منهم يؤكد أنهم يتمكنون منها ." ولربما أكدت مقولة الإله (براهما :Brahma ) صعوبة قراءة النص المسرحي علي النحو الذى أشار إليه ( سترندبرج) إذ ينسب إليه :" لقد خلقت المسرح مطابقا لحركة العالم .. وللمعرفة المقدسة، وللعلم وللأسطورة ... ولسوف يكون للعلم وللترفيه لجماهير الناس." • كيف نفهم هذا الرأى منفصلا عن ذاك ؟! إن التناقضات التي وصّفتها مقولة (براهما) محتوى لأصول كتابة النص المسرحي لاشك توقع قراء النص المسرحي في حيرة لايس بعدها حيرة ، كتلك التي يقع فيها من يحملق في نوتة موسيقية دون أن يعرف كيف يقرأ جملة موسيقية منها . في المسرح "لا نتعامل مع معني واحد للكلمة ؛بل مع عدّة معان ؛ كلها – علي الرغم من ذلك " متطابقة" -حسبما يرى الناقد والباحث الجمالي (رومان إنجاردن 1893-1970 ) ولكن هذا التطابق – فيما يضيف – له أشكال تختلف من حيث امتلاكها للمحتوى المادى , وبهذا التحديد ؛ فالمعانى لا تكون مثالية وإنما التصورات وحدها هي التي تكون مثالية . وما يؤكد ذلك أن كلمة واحدة يمكن أن تستخدم في مواقف عديدة ؛ مما يؤدى إلي حدوث تغييرات ملحوظة ، رغما عن هوية المعنى." ولا يخفي علي ذى فطنة متمرسة بالبحث ؛ أن الكثير من التساؤلات المندهشة هي نتاج الملاحظات الدقيقة للمسكوت عنه في كتابات المفكرين من العلماء والمبدعين( باحثين ونقادا وأدباء) ؛ وفي مظاهر اختلاف السلوك الثقافي في تبعيته لتوجهات سياسية أو دينية متحزبة وصور تبايناتها . علي أن هناك ما يمكن أن نطلق عليه (النقاط العمياء) في بحوث المحدثين والقدماء ؛ وهي تتمثل في بعض المقولات الفرائد ، التي تقع في جملة أو عبارة ؛ أو تعبير مر عليه صاحبه مرور الكرام في أثناء بحثه أو خطابه الفكرى أو الإبداعي أو النقدى ؛ ولم يوفه حقه من الإشباع أو البحث ؛ علي أساس أنه لم يكن يشكل محورا أساسيا من محاور بحثه أو أركان خطابه الفكرى أو الإبداعي . لذا يقف عندها أحد الباحثين النابهين متحيرا ومتسائلا : كيف لم ينتبه لها صاحبها؟! أو يكون مرجع حيرته في عدم تأكده من أن صاحبها قد رجع إليها في بحث منفرد في مرة أخرى. وهنا تعاوده الحيرة في مجاهدته البحثية الدؤوبة ؛ ليقطع الشك باليقين . فإذا تثبّت من أن ضالته المنشودة قد انقطعت صلتها بصاحبها بعد إنتهائه من صياغتها في نسجيته الأولي لها في منتجه الأول ؛ جاز له مدّ جسر حوار معها . فإذا سكنته وسكنها ووجد كل منهما في الآخر سكنا له ؛ ظفرت المكتبة البحثية في مجال تخصص ذلك الباحث ببحث متفرّد .
ومن الحق القول: إنني كثيرا ما تعثرت قراءاتي بمثل تلك النقاط البحثية العمياء وكثيرا ما سكنتني بعضها وسكنتها فتآزرنا معا في إنتاج بحوث أعتقد أنها تشكل دعما بحثيا ؛ يسهم في إحاطة فنون المسرح بسياج العلم ؛ تصحيحا للكثير من معارفنا المسرحية . ومن تلك النقاط الفكرية العمياء التي هي بمثابة نواة لبحوث مسرحية ما يحضرني ؛ مما قد تكون له فائدة عند من يشمّر عن ساعديه ويركز فكره علي إحداها ويجتهد في رفدنا ببحث يضيف إلي الدراسات المسرحية بحثا يدعم المسرح ويطوّر أداء مبدعيه ونقاده وباحثيه . ولقد بادرت بنفسي فاقحمت طلاّب الدراسات العليا بقسم المسرح أو ورّطتهم في مناقشات حول عدد من تلك المقولات الفرائد ، فضلا عن وضعهم وجها لوجه أمام عدد من التساؤلات المحيرة ؛ دفعا إلزاميا لهم لكتابة دراسات قصيرة يلتزمون بإنجازها كل مع قضية أو تساؤل ينشغل به ؛ ليتولّي كل منهم عرض ما توصّل إليه في محاضرة تالية؛ تتاح فيها لزملائه مناقشته فيما توصل إليه وفي منهجه وفي شواهده البحثية وفي صحة لغته البحثية . ومن أمثلة تلك المقولات أو التساؤلات ما يأتي :
- يقول (برتراند راسل):" إذا كان العلم قوامه المنهج ومادته الطبيعة الجامدة ؛ فالأخلاق عمادها النظر العقلي ، ومادته الطبيعة البشرية ؛ طبيعة الإنسان . ومن هنا كان علي العالم أن يكمل ما بدأه الآخرون" ولأننا نعرف أن المسرح أدبا وعرضا ونقدا يدخل في مجال الدراسات الإنسانية ويتخذ من الطبيعة البشرية مادته لذلك تساءلت بينى ونفسي قبل أن أطرح سؤالي علي طلاّبي : • كيف يمكن تطبيق ذلك في مجال الدراسة عند إجراء بحث مسرحي في النص أو في العرض ؟! • كيف عالجت الكلاسيكية – الوجودية – الرومنتيكية – الملحمية : قوى النفس البشرية الثلاث ، المتمثّلة في( الشهوة – العاطفة – العقل ؟! الشهوة في سعيها الغريزى ، والعاطفة في تغذيتها للشهوة ، والعقل في هدايته للعاطفة. وقد تلاحظ لي عبر قراءاتي المسرحية أن بعض الشخصيات الدرامية تغلّب مصالح أمتها علي مصالحها الأسرية أو الذاتية ، وهذا مقصور علي عدد من الشخصيات التراجيدية. بينما تغلّب شخصيات درامية أخرى مصالحها القبلية أو الأسرية أو الاعتقادية ( دينية – أيديولوجية) علي مصالح أمتها أو أوطانها . وهنا توقفت أطلب من طلاّبي التمثيل لذلك من نصوص مسرحية متنوعة الوجهة والأساليب، مركزا علي موقف كل من (أوديب – سليمان الحلبي – الزير سالم – السيد عمر مكرم في مسرحية (رجل القلعة ) لمحمد أبو العلا السلاموني – الملك لير – أنتيجوني ) وبخاصة موقف كل من (الملك لير) في تقطيعه لأوصال الدولة التي هو رأسها والأمين علي صيانة وحدتها وسلامتها . و( السيد عمر مكرم ) نقيبة أشراف مصر وحرفييها في تنازله عن حكم مصر لجندى تركي أجنبي هو (محمد علي الكبير) هل كان ما فعله ( لير) وما فعله ( عمر مكرم) عملا نبيلا أم كان لونا من ألوان السذاجة أو الغباء السياسي؟! وذلك في الكوميديا عام وشائع في سلوك شخصياتها !! وربما كان ذلك سببا في رفضي لنظرية الفصل بين الأنواع.
استوقفتني كذلك (نظرية الفصل بين الأنواع) تلك التي هي أهم أركان كتابة المسرحية التراجيدية في عرف (أرسطو) وفهم الباحثين والنقاد لها من حيث كونها مجرد تمييز فني لفرعي الدراما ( التراجيديا – الكوميديا) في الوقت الذي أراها نوعا من الفصل بين طبقة الملوك والنخب الحاكمة من النبلاء وكبار الملاك إذ خصهم بالتراجيديا وقد اشترط اقتصار شخصياتها علي الملوك وعلية القوم وتصويرهم نبلاء ميلادا ورحيلا عن دنياهم ؛ في حين خص الفقراء والعامة فلاحين وعمال وخدم بالكوميديا في حالة فعل متدن . فمثل هذا الفصل لا يكون مجرد فصل بين شكلين ؛ وإلاّ وقع القائل به في حوطة القائلين بالفصل بين الشكل والمضمون . استوقفني كذلك تقديم أرسطو للفعل علي الفاعل ( الشخصية) فوقفت أتأمل الحكمة من ذلك . لقد قدم العرب الفعل علي الفاعل في صياغاتهم اللغوية والاتصالية ؛ وهذا منطقي مع الإيمان بأن أفعال البشر مقدرة في الغيب قبل أن يخلقوا . لم تكن اللغة عند الكثير من الشعوب تقدم الفعل علي الفاعل والمصريون القدماء كان الفاعل في لغتهم سابقا لفعله ؛ فلما فرض (عبد الملك غبن مروان) اللغة العربية علي المصريين حتي يمكن تعامل الدواوين الرسمية الخلافية معهم تسييرا لمصالحهم قدموا الفعل علي الفاعل في تعبيراتهم اللغوية. ومن الطبيعي والأمر هكذا أن يقدم (أرسطو) الفعل علي بقية عناصر التراجيديا فيما أستنّه من شروط لكتابتها بوصفه أحد كبار الفلاسفة المثاليين - قديما وحديثا- ومن الطبيعي أيضا أن يجد من يعارض شرطه هذا في لا العصر الحديث علي نحو ما فعل (لاجوس اجرى) في كتابه الشهير ( فن كتابة المسرحية ) أو كما فعل الناقد (آرتشر) اللذان وصفا تقديم أرسطو للفعل علي الشخصية فيما اشترط ( بوضع العربة أمام الحصان) فمن المنطقي أن أرسطو يعبر عن فلسفة مغايرة للفلسفة المادية التي يعبر عنها كل من (لاجوس اجرى وآرتشر) . وقد حانت لدى الفرصة ذات يوم فأبديت رأيي هذا أمام أستاذ الدراسات اليونانية بجامعة الإسكندرية (د. العبادى ) فنبهني إلي أن أرسطو( يركز علي الفعل ويقدمه باعتبار الفعل هو المعبّر عن الشخصية.)
#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلسفة الفوضي الخلاقة في عرض مسرحي بالجزويت
-
ليلة من ليالي على علوللا
-
بوسيدون يستبدل إكليل الغر بالغتره
-
سارتر وليزي وبوش
-
جماليات الأصوات اللعويةفي الأدوار المسرحية
-
سلم لي على -بافلوف-
-
جماليات التعبير بالأصوات اللغوية في الأدوار المسرحية
-
فلسطين بين ثقافة العنف والسلام- في حوارية قطع ووصل -
-
فلسطين بين ثقافة العنف والسلام
-
السكتة الكوميدية في الكتابة المسرحية
-
التباس الكتابة المسرحية بين المسرح السياسي ومسرح التسييس
-
أوركسترا عناكب الثقافة العنصرية ومعزوفة النشاز العصرية
-
معزوفة التواصل الحضاري
-
المتدفقون - عرض مسرحي -
-
هوية الصورة في فن فاروق حسني
-
سيميولوجيا الفرجة الشعبية في المسرح
-
المرأة في مسرح صلاح عبد الصبور
-
معزوفة التواصل الثقافي الحضاري
-
اتركوا النار لنا
-
المونودراما وفنون مابعد الحداثة
المزيد.....
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|