جلنار صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2552 - 2009 / 2 / 9 - 08:47
المحور:
الادب والفن
انتهت من ترتيب خزانتها وقبل أن تقوم بإغلاقها وكعادتها كل يوم لم تنس ان تمد يدها إلى قطعة القماش المرتبة بعناية تحت طبقات الملابس , سحبتها بكلتي يديها ثم التفت لتجلس على الأرض واضعة إياها في حضنها وكأنها طفل صغير , راحت تلمسها بخفة وإعجاب سابحة في لونها السماوي المشرق , فتحت طياتها بتمهل متأملة الحزوز العميقة الموجودة بين هذه الطيات ثم بحركة رشيقة نفضتها ليغطي الشرشف السماوي على معظم المساحة الفارغة من الغرفة .. مازال جديدا لم تستخدمه منذ أن أهدته لها والدتها قبل سنوات , لم يكن مهما في وقتها حين كان تستطيع شراء العديد منه لكن الفراغ الذي راح يزحف حولها واختفاء الألوان جعله يتحول إلى قطعة أثيرة عزيزة تركن إليها حين تشتاق إلى الأشياء الجميلة الملونة ..
كانت تفكر في استخدامه لكنها تحار في هذه القطعة الصغيرة الملونة كيف تستطيع أن تلون بها كل ذلك اليباب الرمادي الممتد حولها في كل مكان!! .. سريرها الخشبي الكبير لم يعد له وجود ولا تظن انه سيكون جميلا فوق فراش يمتد على الأرض في المساء ويختفي في الصباح..حين تستغرق في تأمل إطرافه البعيدة كان يخيل إليها أنها أخذت تمتد نحو أطراف الغرفة لتغطي أرضها زاحفة باتجاه الجدران العارية الرمادية ليتحول كل ما حولها الى لون سماوي زاه ..بينما يدفعها ملمسه الناعم الى تحويله إلى ثوب جميل تزينه الزهور المطرزة على أطرافه , لم تشتر لنفسها ثوبا جديدا منذ زمن طويل بينما بهتت ألون ثيابها القديمة لذا لابد أن تحوله في يوم ما إلى ذلك الفستان السماوي لتشعره باهتمامها وشعورها نحوه الذي لم يخفت
كان يبدو أكثر صمتا وهدوءا عن كل ليلة , تخيلت أنها لم تسمع صوته من بعد ظهر ذلك اليوم رغم انه يجلس بقربها منذ وقت طويل , الطفلان الأصغر سنا ناما في وقت مبكر وراحت البنت الكبيرة تستعد للنوم , بينما لم يبد على وجهه انه يشعر بالتعب أو النعاس وبالنسبة لها كان أمر عاديا إن يزورها بعض الأرق كل ليلة ..
لم تستطع أن تتغافل عن صوت قلقه الضاج وسط سكون الغرفة وظلامها رغم انه كان يستلقي بوجه يتجه إلى الجهة البعيدة عنها, وضعت يدها بخفة فوق كتفه فالتفت إليها.. حاولت أن تستكشف من معالم وجهه أسباب ذلك القلق لكن عيونه التي لم يستطع الظلام ان يخفي بريقها الهادئ الجميل كانت تنجح في طمأنتها لبعض الوقت , سألته بصوت خافت عما يؤرقه ؟؟..
شبك أصابع يده بأصابع يدها بينما راح ينظر باتجاه سقف الغرفة وكأنه يبحث عن شيء ضاع هناك , لم تحول نظرها المترقب عنه غير مكترثة لتأخر إجابته , لكنها عندما أحست أن الكلمات أثقل من استطاعته النطق بها وضعت يدها الأخرى على خده تطمئنه أنها مازالت موجودة بقربه وانه يستطيع الاعتماد على صبرها وحنانها لزمن أطول, التفت أليها ممعنا النظر في تفاصيل وجهها الرقيقة وبعد تردد قال لها : ماذا لو أن الدواء الذي أتناوله لم يعد يجدي وان أجراء العملية أصبح لزاما ؟ ..
اضطربت نظراتها واستولى عليها فزع مفاجئ..
- هل أنت بخير, هل تشعر بشيء ...؟؟
- أرجوك لا تفزعي أنا بخير
- هل زرت الطبيب ؟
- قلت لك لا تخافي وأنا لم أزر الطبيب بعد زيارتي الأخيرة التي أخبرتك عنها
- ما الذي يقلقك أذا ؟
صمتت بينما راحت تترقب جوابه مرة أخرى..
- ماذا سيحدث لك وللأولاد لو أني لم أكن موجودا..
- لا تكمل ...
ساد الصمت مرة أخرى على ذلك الظلام , بينما راحت هي الأخرى تحدق في السقف مفكرة في شبح الغد الذي لطالما ارقها تخيله بصورة أبشع من صورته في يومها المنقضي ..
كانت أصابع يده مازلت تتشابك مع أصابع يدها عندما أعادتها حركة يده الضاغطة بشيء من القوة على أصابعها
كان يبتسم بكثير من الحنان محاولا أن يعيد أليها بعض الهدوء والطمأنينة فلم تبخل عليه بابتسامة أشرقت وسط عتمة الغرفة , سحبها بحنان نحوه وراحت يده تزيح بعض خصلات شعرها المتناثرة فوق جبينها بعدها راحت يده تلفها بحب بينما أغلقت عينيها مستسلمة لقبلاته تاركا يدها تحيطه بحب اكبر .. لكن اللحظة المشحونة بمفاجئة ترتقبها بلهفة لم تستطع أن تنتصر على الصراع بين حبها له الذي يجرها نحو رغبتها وبين حبها الذي يدفعها بعيدا خوفا عليه , انتفضت فجأة محاولة إبعاده .. سألها باستغراب عن السبب فقالت له بصوت يخنقه الحزن والخوف.. هل نسيت انك مريض ؟!
- ليتني استطيع .. لكن يمكننا أن ننسى معا لفترة قصيرة أني مريض.. لننسى ..
لم تعرف كم من الوقت مر عندما استيقظت فجـأة فزعة وكأنها سمعت صوت شخص يصرخ بأعلى صوته مستنجدا , كانت الغرفة ما تزال مظلمة لكن الفجر لم يبد بعيد إلا أن صوت أنفاسه اللاهثة وسط ذلك السكون أرعبها بشدة فقفزت لتضيء الغرفة .. الدم يكاد ان يتدفق من مسامات وجهه الذي لم يغادره الهدوء برغم احتباس أنفاسه وتصبب العرق من جبينه , نادته باسمه لكنه لم يجبها ولم يفتح عينيه , مسحت جبينه بيدها المرتجفة بينما راحت تتلفت حولها باحثة عن شيء ما , استمرت بعدها تناديه مرات ومرات دون استجابة بينما راح وجهه يشحب وأنفاسه تخبو ..
مرت عدة ساعات منذ أن توقف قلبه .. لم يستطع شيء أو احد إنقاذه من قدره المحتوم وها هو يعود من المستشفى إلى البيت لمرة أخيرة مسجاً في صندوق خشبي اجرد بينما تضج أركان البيت بالصراخ والعويل وازدحام عدد كبير من الجيرة والأهل والأصدقاء , لكن نظراتها لم تكن تحيد عن خشب الصندوق وكأنها تبحث عن مخرج يحول دون رحيله إلى الأبد
حاولت ان تتمسك به لمرة أخيرة علّ ذلك ينفع او يؤجل قليلا ما لا بد منه بينما الأصوات تعلو وتتداخل وبعض النساء يحاولن إبعادها عن الصندوق ..لم تكن تدرك ما تفعل او تستمع الى ما يقال لها لكنها ودون ان تعرف السبب سمعت ذلك الصوت الذي يطالب بتغطية خشب التابوت بغطاء مناسب ..
انتفضت بسرعة طالبة من الجمع أن يبتعد عن الصندوق لتحظر له الغطاء الذي يليق به وبسرعة خاطفة غادرت المكان لتعود بعد لحظات حاملة شرشفها السماوي الأثير وبنفس حركتها الرشيقة نفضته لينفتح في الهواء مثل غيمة محلقة أخذت تهبط على خشب الصندوق لتحيله الى مرتفع موشى بذلك السماوي المشرق بينما تناثرت الورود الملونة على إطرافه القريبة من الأرض وكأنها تريد أن تسقط أسفا لأنها لم تحقق حلمها بان تكون فستانها الموعود ..
لمسته بيدها مرة أخيرة محاولة أن تجعله بأفضل شكل ممكن دون أن تعتني كثيرا بأفكارها التي راحت تسبح في القدر المخبوء في طيات ذلك القماش ..
#جلنار_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟