|
جدلية القوة والضعف في أعمال المخرج الألماني فيرنر هيرزوغ
جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي
(Bashara Jawad)
الحوار المتمدن-العدد: 783 - 2004 / 3 / 24 - 07:19
المحور:
الادب والفن
يعتبر فيرنر هيرزوغ واحدا من ألمع وجوه الموجة الشابة في السينما الألمانية التي بدأت مع بداية سنوات الستينات في مهرجان أوبرهاوزن عندما نشروا بيانهم الشهير بتكوين الجماعة والذين عادوا بقوة مؤخرا في مهرجان برلين السينمائي عام 2004 من خلال مجموعة من الأفلام المثيرة والمتطورة جداً من الناحية الجمالية وفي مفردات لغتها السينمائية. يكوّن فيرنر هيرزوغ مع مخرجين آخرين من أمثال فيم فيندرز وراينر فاسبندر وشلوندورف وبيتر هاندك وغيرهم العمود الفقري لتلك الحركة السينمائي الشابة في ذلك الوقت .
ولد فيرنر هيرزوغ في الخامس من شهر سبتمبر / أيلول 1942 في ميونيخ . كتب أول سيناريوهاته في عمر الخامسة عشر وحصل على البكالوريا سنة 1961 . وقد فشل في مبادراته الأولى في تصوير الإفلام في عمر السابعة عشر عن موضوع الاصلاح في السجون ، وبدأ ينتج بنفسه أول أفلامه القصيرة والأفلام الروائية بداية من عام 1963 . أنهى دراساته في التاريخ والآداب في جامعة ميونيخ وفي جامعة وينسبورغ في الولايات المتحدة الأمريكية وكان يشتغل في النهار أثناء دراسته كعامل لحام في ساسيير . كان يحب السفر والاتصال بالشعوب والثقافات الأخرى التي زودته بمواضيع أفلامه لاحقاً وعن كل بلد أو تجربة صنع فيلما إبداعيا رائعا. في عمر الثامنة عشر سافر الى السودان وفي وقت أزمة الكونغو ، وأقام عدة مرات في فترات متقطعة في اليونان ( خرج عن ذلك فيلم بعنوان علامات الحياة) وأقام في المكسيك وجزر الكناري( وخرج عن ذلك فيلم الأقزام يولدون صغاراً أيضاً ) وفي أفريقيا( أبدع فيلما بعنوان ناثان مورغان) وفي البيرو أبدع فيلم ( آغير أو غضب الآلهة ) وفي الغوادلوب أبدع فيلم ( la soufriere ) وفي أيرلندا ( قلب الزجاج ) وفي هولندا وتشيكوسلوفاكيا أبدع ( نوسفيراتو مصاص الدماء )و ( فوزيك ) وفي أمريكا اللاتينية في غابات الآمازون أبدع ( فيتزكارالدو ) الخ ... إن مايميز فيرنر هيرزوغ عن أقرانه وزملائه من نفس جيل السينمائيين الشبان في سنوات الستينات حتى أواخر سنوات الثمانينات ، هو ميوله الى المواضيع الغريبة والصعبة، التاريخية أو الأسطورية أو الخرافية ، أو التيمات ذات النزعة المغامراتية وشبه الجنونية وابتعاده عن المواضيع المعاصرة والساخنة والتي تتطلب أوتستدعي موقفا سياسياُ واضحاً ومحدداً. فمواضيعه لاتتعلق أو ترتبط بالوقائع السياسية والإخبارية الى جانب إسرافه في الميزانيات وحبه للمخاطرة ومواجهة الأخطار بصلابة وعناد وتركيزه على العناصر البلاستيكية ـ التشكيلية للصورة السينمائية وعنايته بالكادرات وماهو خارج الكادر في آن واحد ليخلق جمالية مؤثرة وذات معاني وأبعاد ودلالات حسية وفلسفية وكونية ووجودية حادة ومقلقة الى جانب المعنى الفوري أو الآني المنبثق عن الموضوع المعالج أو الذي يوحي به الموضوع المصور . وقد حار النقاد واختلفوا فيه بين مشجع مندفع ومغالي في مدحه أو معارض ومهاجم وحاقد غير منصف عليه.تعج أفلامه بمزيج وخليط من الشخصيات المتنوعة والمتناقضة وكثيرا ما أشار النقاد الى وفرة الشخصيات والأبطال الدونيون والفوقيون ، أي الأقل من المستوى الإنساني العادي أو الناقصون ، والأعلى من المستوى الإنساني العادي ( شبه السوبرمان) أو من هم فوق قيمة البشر العاديين بتحملهم الصعاب الخارقة ومجابهتهم للأخطار المؤدية للموت الحتمي كأبطال التراجيديا الأسطوريين. وقد تواجد هذان النوعان من الأبطال ( الفوق الإنساني والدون الإنساني ) جنباً الى جنب حتى لو أتخذا معاً هيئة الإنسان الخارجية العادية، وعلى مدى مجمل الفترة الزمنية التي خرجت فيها أفلامه تباعاً من ( علامات الحياة حتى فيتزكارالدو) وكانت تجمعها علاقات ديالكتيكية تناقضية وتجاذبية في آن واحد تربط الواحد بالآخر بصورة حتمية مما شكّل مفتاحاً مهماً لفهم عالم المخرج واستيعاب آثاره السينمائية وعمقها النفسي والفلسفي والديني والثقافي وكذلك السياسي على نحو غير مباشر .
لنتناول أولاً شخصياته الضعيفة أو الدونية والتي بدأت في فيلمه ( الأقزام يولدون صغاراً أيضاً ) والذين قذفف بهم القدر وسط باحة المجتمع الإنساني العريض على صورة نشاز أولاً باختلافهم بالشكل والهيئة مدفوعين بالشعور بالدونية إزاء الآخرين العاديين فيزيائياً ونفسياً بالنسبة لبقية الناس المحيطين بهم. إنهم مقمعون ومحاصرون من قبل دائرة اجتماعية جائرة بحقهم مما يقدم صورة مصغرة للوضع الإجتماعي الذي أفرز هذه الظاهرة. إن مصير ( كاسبير هوسير ) في الفيلم الذي يحمل نفس العنوان ليس أفضل حالاً مطلقاً من مصير الأقزام وهو في وضع لايحسد عليه ولايطاق، فقد بقي حبيس سرداب مظلم منذ ولادته حتى سن البلوغ دون أن يكون له أي اتصال بالعالم الخارجي وقد أختزل الى الحالة البدائية الطبيعية بالمعنى الذي يقصده عالم الانثروبولوجيا الشهير ليفي شتراوس ، أي النقيض للحالة المتطورة والثقافية الواعية . وفي اللحظة التي يلج فيها كاسبير هوسير الى المجتمع دون أن يمتلك مايساعده على هذا الدخول من أسلحة ضرورية أولها الكذب والغش والنصب والاحتيال والفهلوة والدفاع عن النفس،و بنفس وسائل الهجوم والنصب والاحتيال التي يستخدمها الأفراد في المجتمع المعاصر، ودون أن يتسلح بعناصر القوة الجسدية والقوة النفسية والمعرفة التي يتميز بها الآخرون، وهو لايملك أدنى شيء حتى ولا ما كان يمتلكه الإنسان البدائي من أوليات وتجارب تساعده على قهر الطبيعة وتطويعها والاستمرار في العيش والبقاء على قيد الحياة ، وذلك لأن كاسبير هوسير كان سجيناً وبعيدا عن كل تجربة وحتى طعامه وحاجياته البسيطة كانت مؤمنة له كل يوم وتقدم له من تحت الباب. إنه إذن من نوعية الحيوان المدجّن الهش والقابل للاختراق بسهولة . وهناك شخصية برونو وهو شخصية أخرى من الشخصيات الدونية الضعيفة في فيلم ( علامات الحياة). قضى الشطر الأكبر من طفولته ومراهقته في سجن الأحداث والمراكز الإصلاحية وأعتبر ناقصا عقليا وغير متطور ثقافيا، لايمكن تداركه أو إنقاذه اجتماعياً فهو بمثابة حالة ميئوساً منها وإن كان بريئاً لاحيلة له بما آل إليه مصيره وما صارت إليه أحواله فهو لم يختر هذا المصير لكنه أصبح حالة مستعصية. لم تنجح دوائر الرعاية الاجتماعية في تأمين تبنيه في عائلة تربّيه، وبالتالي فهو لايمكن استرجاعه الى أحضان المجتمع . نراه يصطدم باستمرار مع قوانين المجتمع القسرية والتقيّدية لأنها قوانين عالم غريب عنه لايمكنه التكيّف معها كأنه دون كيشوت عصري يصارع طواحين الهواء وهي هنا طواحين المجتمع القاسي الذي يعيش فيه حالماً بحياة أخرى ، حياة يرغب في أن تكون كما هي في أحلامه ، حياة خالية من كل عائق وبلا صعوبات وموانع ومحرمات. باختصار إن جزء من كائنات فيرن هيرزوغ مسحوقة بفعل الزمن وتدخل الطبيعة وشرور العالم الذي جعلها ناقصة جسدياً تعاني من العاهات الجسدية والنفسية . وبالمقابل هناك الشخصيات الراقية الفوقية على الأقل من الناحية السيكولوجية أو النفسية والتي يمكن أن نطلق عليها( الإنسان الأعلى أو فوق الانسان) لأن لها ماهية الشخصيات الأسطورية المنحدرة من أصل إلهي أو هي مايشبه أنصاف الآلهة التي تدلل على ذلك من خلال تصرفاتها وسلوكياتها اليومية . فهناك مثلاً ( فويزيك، وأيضاً آغير ، أو هياس، أو نوسفيراتو). فالأول فويزيك، الجندي المعبأ أو المستنفر على الجبهة في اليونان خلال الحرب العالمية الثانية يذكرنا ببروموثيه أو سارق النار في ألأسطورة الإغريقية المتعلقة بآلهة الألعاب الأولمبية ، حيث نجده يختلس أو يسرق كمية من المتفجرات ويهدد بإشعال وتدمير المدينة ويذهب الى ابعد من ذلك في هذيانه وتخيلاته ليتصور بأنه يسابق الشمس مقتنعا ومختالاً بقوته وقدرته الجبارة التي لاتقهر . والثاني ( آغير)في فيلم "آغير أو غضب الآلهة"، العنود والصلب ، المتلهف للخلود، الذي يتصور نفسه مجللا بالمجد والعظمة والسلطة، يصر على قيادة قافلته في رحلة محفوفة بالمخاطر والمجهول ، كما خطط لها وهي القافلة التي أرسلت تحت قيادته لغزو الآلدورادو تحت غطاء ديني ، وبرغم جميع العقبات والصعوبات الهائلة التي جابهته وتجابهه في كل خطوة يخطوها والتي قضت على أحلامه ، فهو لايتقبل فكرة بأن أحداً آخر يمكن أن ينجح فيما فشل فيه هو، وأن غيره يمكن أن يفلح فيما أخفق فيه هو ورجاله في مهمتهم شبه الجنونية. أما ( هياس الراعي في فيلم ( قلب الزجاج ) فهو قادر على تخمين أو توقع المستقبل والتنبوء فيما سيقع لكنه عاجز عن فهم مصيره. و ( نوسفيراتو) رسول الموت في حين هو خالد لايموت عبر القرون والأجيال . وأيضاً بطل الحملة المجنونة في فيلم ( فيتزكارالدو) الذي يتحدى المستحيل. وهناك شخصيات عادية تتأرجح بين هذين النوعين من الأبطال أو الكائنات ( الفوق والدون ـ الطبيعية). لكن الاستثنائيون سلبا وايجابا هم الذين يشكلون الشخصيات والأبطال الرئيسية في جميع أفلام فيرنر هيرزوغ . ولكن من السذاجة والتبسيط بمكان أخذ هذه الفكرة الاستنتاجية على علاتها كما هي وتصوير هذا التعارض كقانون حاد وقاطع. فهؤلاء الأبطال العلويون أو الفوقيون عند التحليل الدقيق والتمعن في مصائرهم نراهم هم أيضاً مسحوقين كنظائرهم الدونيين أو الشخصيات الدونية الضعيفة ولا يملكون في الواقع أية قوة أو سلطة حقيقية. لقد طوّق فويزيك وجرّد من كل قوة وأنهي الى حد العجز التام ، وهو ليس أحسن حالا من نظيره آغير الذي بقي وحيداً على قيد الحياة بلا حول ولا قوة بعد أن قتل جميع أعضاء بعثته التبشيرية من قبل قوى غير مرئية هم أعضاء القبائل ( المتوحشة ) القاطنة في أعماق الغابة وأصبح في موضع الاستحالة والعجز التام عن فتح الآلدورادو التي قهرته، لذلك أجهض حلمه بإنشاء سلالة تحمل اسمه نهائياً.
أما هياس المتنبيء بالمستقبل فليس له تأثير سوى على نفسه بغية تفادي الكارثة ولايملك حتى إمكانية الوصول الى سر صنع الزجاج وصناعة الياقوت الأحمر الذي تعتمد عليه حياة القرية بأكملها ، ولا حتى نوسفيراتو الذي يمتلك بالتأكيد القدرة على حمل الموت والتدمير لمن حوله ولكن الثمن هو تدمير نفسه وتعذيبها تدريجياً، فحاله يدعو للرثاء والشفقة أكثر مما يثير الخوف . وبما أن المخرج مأخوذ بهذه الشخصيات الاستثنائية الخارقة ظاهرياً فهو يكرمها ويضفي عليها الاحترام مع معرفته سلفاً أن ثورتهم وعنفوانهم، التي يصورها بمهارة وجدارة فائقة، لاتجديهم نفعاً، فهم محكومون بالفشل. فهذا الصوت القادم من خارج الكادر ينبهنا ( كأنه نداء القدر) فيما يتعلق بمصير فويزيك عندما أشعل ثورة جبارة لكنه فشل ككل الذين على شاكلته، وكذلك يصدمنا التعليق الذي ينطق به الأقزام والذي يأتي كلازمة موسيقية: (يجب ألا نخدع أنفسنا فنحن لسنا سوى أقزام). وهكذا فإن كل شخصيات وأبطال هيرزوغ ، مهما كانت صفاتهم الجسدية والمعنوية ، مسحوقة وناقصة وكائنات دنيا حتى لو تلبست بلباس السلطة والجبروت والقوة الخارقة. وأبلغ مثال على ذلك الرجل الذي ضحى بكل شيء وركب المخاطر وبدد ثروته للوصول بسفينته العملاقة الى قلب الآمازون. وتجاوز حدود الحلم الجنوني عندما قرر جر السفينة من سفح الجبل الى قمته وانزالها من الجهة الثانية للجبل الى السفح الآخر وماترتب على ذلك من مآس ووقوع ضحايا. قد يكون بعض أبطال هيرزوغ في الظاهر جلادون في بعض الأحيان ، لكنهم وباستمرار وحتى الأزل ضحايا. فهم مسلوبو الإرادة ومجردون من كل مزايا أو ( صورة اجتماعية عقلانية ) ، من الراعي البسيط مروراً بالجندي وانتهاءاً بمصاص الدماء ، لكنهم مؤثرون أكثر مما هم مرعبون على عكس أبطال أورسون ويلز ( كين في المواطن كين و السيد آركادان ) اللذان كانت بين أيديهما كل أنواع السلطة ومراكز القوة ،على الأقل قبل سقوطهما التراجيدي المريع ، بينما لايقدم هيرزوغ أبطاله إلاّ في لحظات الفشل الذريع الذي يصل الى درجة اليأس.
الإنموذج الأول من شخصيات هيرزوغ ( الدونية) مرفوض من قبل المجتمعات التي لاتقبل التعامل مع هذه ( الكائنات) المختلفة غير القابلة على التكّيف، وبالتالي استحالة استعادتهم الى داخل المؤسسات الرسمية القائمة التي بنيت عليها هيكيلية تلك المجتمعات. فهم أقرب الى الشواذ الهامشيين . فآغير أحدب ونصف مشلول رغم جبروته ، ونوسفيراتو مصاص دماء ذو هيئة بشعة تثير التقزز والإشمئزاز وذو جمجمة صلعاء واذنين يشبهان آذان الوطواط ( خفاش الليل) والأظافر التي تشبه مخالب النسر. كلهم مصابون بعاهة ما، ويتميزون بهيئة فيزيائية بشعة غير طبيعية بما فيها من رمز وإيحاءات. وحتى الشخصيات الواقعية نسبيا ( غير التاريخية أو الأسطورية ) والمعاصرة لاتبدو طبيعية كبقية البشر . فهذا فويزيك يخبرنا في حديثه أنه حاول بلا طائل وبدون نجاح أن يمارس عدة مهن . أو برونو الذي أعتبر أصلاً من طينة الضائعين الذين لا أمل في إصلاحهم، قال له مدير السجن عند خروجه بأنه متأكد من رجوعه إن آجلا أو عاجلاً الى السجن وأعطاه تاريخا تقريبيا . أما شخصية كاسبير هوسير فبعد كل ما عاناه بات غير قادر على التكيّف وهضم حياته الجديدة عند خروجه من السرداب. إنهم أبطال محكومون بالوحدة المعاناة نفسيهما وإن كان بدرجات متفاوتة . الوحدة هي القانون السائد في عالم هيرزوغ. آغير بقي وحيداً على كلكه العائم الذي غزته القرود ، وفويزيك وصل الى حالة من الانقطاع وعدم الاتصال والتفاهم مع الآخرين المحيطين به شيئا فشيئاً وبقي وحيدا ضد كل القوى المناوئة لآرائه. أما برونو فقد بقي وحيداً على أرض واسعة جرداء هو المكان الذي دار فيه المزاد العلني وانتهى الى بيع بيته بعد رحيل إيفا التي هجرته مع سائق الشاحنة. كاسبير وحيداً وسط ساحة القرية يداه متهدلتان وممدودتان الى الأفق . يترجم برونو معاناته عبر محاولته لصنع شيء منمق ومزخرف لكنه بلا ملامح ، ومعاناة كاسبير هوسير أكثر مباشرة حين عبر عنها في تصريحه وهو يصرخ ( كنت أكثر سعادة عندما كنت حبيس السرداب الأظلم) ويبكي بحرقة في وحشة الليل وهو في فراشه. ومعاناة نوسفيراتو مترجمة بهيئته المفزعة التي ترعب كل من يتصل به من قريب أو بعيد كأنه الطاعون حتى باتت تفزعه هو نفسه عندما ينظر إليها في المرآة. جميعهم يعرفون الفشل ويغرقون بالتدريج في الجنون . فالأقزام الذين أخذتهم نوبة من الهيستيريا بدأوا بتحطيم كل مايقع تحت أيديهم وما يحيطهم ، وآغير وفويزيك يتخيلان في هذيانهما بأنهما أصبحا سادة العالم . لقد عبر المخرج هيرزوغ عن هذ المعنى بحركة الترافلينغ الدائرية الرائعة والمتقنة جداً حول الكلك الذي يحمل آغير الوحيد الباقي على قيد الحياة واقفاً وسط الأموات والجثث وهو يصرخ . وهذه الحركة البانورامية كانت بمثابة الصدى الداخلي لعالم الجنون المغلق الذي يغلفه من كل جانب مرموزاً له بمؤثرات صوتية كالمياه وأنين الغابة، للإيحاء بالخطر غير المرئي القابع وراء الأشجار دون أن نشاهده، مما دفع آغير للغوص في عالم الجنون.
وإذا كان الخلاص يبدو ممكننا فإنه سيكون عن طريق الموت المحرر ( حالة برونو وكاسبير هوسير ونوسفيراتو ) أو بأمل حدوث تغيير شامل وكامل للعالم القادم بعد كارثة كونية محتمة ( حالة هياس ). ولهذا ، ومن هذه النظرة العاجلة يبدو ديالكتيك الرجل الأعلى والرجل الأدنى قد أخذ بعين الاعتبار وعولج كوجهين لكائن واحد ذو صور متعددة مكمل للمشكلة نفسها أو الصعوبة في العيش وعدم الانسجام مع العالم أوداخل مجتمعات مسلوبة الإنسانية، تسود فيها شريعة الغاب ، يقودها ويسيطر عليها العبث. إنها إحدى الموضوعات الأثيرة لدى المخرج طرحت عبر أفلامه بصور متعددة وبالذات في أفلامه الثمانية الأولى التي ورد ذكرها . ومن هذه الزاوية يمكننا القول أن أفلام فيرنر هيرزوغ تحمل بعداً سياسياً أكثر مما كنّا نظن وعلى عكس جميع الاتهامات والانتقادات التي وجهت إليه وبالذات في ألمانيا من قبل النقاد الملتزمين سياسياً. لأن هيرزوغ على شاكلة زملائه الملتزمين فيم فيندرز وراينر فاسبندر وشلوندورف، يؤلمه حال بلده وماضيه النازي وحرصه على تكوين حاضر أفضل ومن أجل مناخ أكثر عدالة وصحية . بينما يلومه البعض على تهربه من تناول الماضي السياسي لبلده عكس أقرانه ولجوئه الى عالم وهمي ذو ملامح حلمية ، عالم شخصي لايهم أحداً سواه ، وبأنه لايهتم للواقع الاجتماعي لبلده. ولو تفحصنا بدقة ودرسنا بتمعن الفترات الزمنية والأماكن التي تدور فيها أحداث وقصص أفلامه لتبين لنا بأن ( نزهة برونو ) هو الفيلم الوحيد الذي يتناول موضوعاً معاصرا، مع أن جزءا فقط من هذا الموضوع يدور في ألمانيا الغربية قبل التوحيد مما يؤكد وجهة النظر النقدية التي حاصرته داخل ألمانيا لأول وهلة . فأحداث فيلم ( علامات الحياة) تدور في اليونان إبان الحرب العالمية الثانية أما أحداث فيلم ( الأقزام يولدون صغاراً ايضاً ) فلا نعرف لامكان ولازمان الأحداث، إذ يمكن أن تحدث في كل زمان ومكان.وبالنسبة لفيلم آغير أو غضب الآلهة فتدور قصته في أمريكا الجنوبية في البيرو تحديداً وفي القرن السادس عشر . وكاسبير هوسير تدور أحداثه في القرن التاسع عشر في بافاريا . ونوسفيراتو تدور أحداثه في القرن التاسع عشر أيضاً في منطقة الكاربات في هولندا وهو ذو أبعاد أسطورية ومناخ خرافي . إن هذا التنوع في الأماكن والأزمان ينطوي على جعل مفهوم صعوبة العيش أو عدم القدرة على العيش الطبيعي ذا ملامح عالمية .أو بالصيغة الفلسفية إستحالة الإحساس بالكينونة والوجود في عالم اليوم والأمس . إن هيرزوغ واع لهذه الاإشكالية وهو يقوم بعمل سياسي مقصود لإنتاج اثر سياسي يجعله يضع بصورة راديكالية في موضع الإتهام كافة الأنظمة ابتداءاً من الفاشية والنازية التي تستمد أصول أيديولوجيتها من الماضي البعيد ومن الأديان والمعتقدات الخرافية والأساطير. ففي فيلمه ( الأقزام يولدون صغاراً أيضاً ) الذي يعتبر الأكثر رمزية ومجازية ، لم يتوقف لحظة عن محاكمة وإدانة كافة أشكال العنف والتسلط . حيث أن مجتمع الأقزام هو تركيب مصغر لكل أنواع العوالم الصغيرة الرمزية التي تقدم الإنسان بوصفه صورة للعالم ولكل الآخرين إذ تستند العلاقات بين الكائنات الى عنصر القوة والإكراه والقسر . يعيش الأقزام في هذا العالم مضطهدون من قبل الإدارة لذلك يثورون ويشقون عصا الطاعة ويمارسون ضد بعضهم البعض الأساليب نفسها ، أي فرض سلطة الأقوى على الأضعف مثل معاملة الأقزام العميان أو التصرف بوحشية تجاه الكائنات الأضعف كذبح الخنزير بصورة وحشية أو صلب القرد وهو حي . كان العنف ظاهراً من خلال مشاهد انتقيت بعناية وباعجاب كصراع الديكة الدامي والحيوانات التي تفترس بعضها البعض . العنف موجود في بقية الأفلام من خلال علاقات أبطالها فيما بينهم ، مما يذكرنا بتصرفات قوادي برلين لسحق المومسات في فيلم نزهة برونو او الشخصيات الأكثر قسوة التي يلتقي بها برونو في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تدفعه الى الاانتحار، أو العنف الذي تنبأ به هياس في فيلم قلب الزجاج إذ قدّر على المعامل أن تحترق وتلتهمها النيران لتتلاشى في اللهب . كما يهاجم المخرج بصورة مباشرة أو غير مباشرة المؤسسات التي لاتظهر إلا بوصفها أدوات للقمع والاضطهاد ويتنكر لكل عرف إجتماعي لاهدف له سوى خنق البشر ، وهجومه ضد الكنيسة والدين بشكل خاص بنقد لاذع في فيلم آغير أو غضب الآلهة عندما أوضح لنا بأن هدف البعثة كان تحت غطاء ديني وعلى أساس تبشيري بينما هي في واقع الأمر لنهب الذهب وسرقة ثروات المنطقة وهو الأمر الذي لم يخفه آغير في إحدى جمله عندما صرح " أن الكنيسة كانت دائما الى جانب الأقوى " ، وكذلك عندما نشاهد كاسبير هوسير يخرج مندفعاً ومسرعاً من بوابة الكنيسة إذ لم يحتمل سلوكيات الرعايا المؤمنين داخلها في تقديم فروض الطاعة العمياء . ولم يسلم العلم من هجوم المخرج ونقده حيث لم يتوان كاسبير في دحضه لمحاولات العالم الرياضي ومنطقه العبثي ومراوغة الأطباء في فيلم علامات الحياة وهم يحاولون تشخيص الأخطار التي تهدد فويزيك .أو في فيلم نوسفيراتو عندما يجعل الدكتور فون هيسلاغ من نفسه المدافع عن العرف والقانون المفروض وذلك بتثبيطه للهمم وعدم تشجيعه لانبثاق أي أمل للخلاص والاستسلام للقدر الغيبي . وهذا يتيح لنا أن نقول أن هيرزوغ سينمائي سياسي لكنه يعالج السياسية من منظوره الخاص وهي السياسة التي ينبغي أن تكون الى جانب الإنسان وليس ضده. وما أشرنا إليه وهو قليل يشكل بعضاً من مراكز الاهتمام التي تهم هيرزوغ وتكون النواة الأساسية لجميع أفلامه وهي لاتغطي كل الثراء والغنى الذي يميز آثاره السينمائية المكثفة جداً .
هذا على مستوى المضمون، أما على مستوى الشكل التعبيري واللغة الإخراجية والأساليب الجمالية المتبعة في أفلامه فهي أكثر من أن نحصرها في مقال مختصر مثل هذا ومن هنا يسعنا القول أننا يمكن أن نجد تفاصيل مذهلة على صعيد الشكل الفيلمي فيما يتعلق باستعمال الموسيقى الفيليمة على سبيل المثال لا الحصر ، وأهمية أماكن التصوير التي تحظى بعناية مفرطة من قبل المخرج واستغلال الفضاءات الشاسعة والمسافات البعيدة والاستعانة بأسلوب الرمزية والمجاز وصيغة الدوائر المتتالية والمتداخلة للشخصيات والأحداث ولا ننسى أن للمخرج خبرة واسعة في كتابة السيناريو فهو يكتب بنفسه سيناريوهات افلامه وهو منتجها والمشرف على مونتاجها من هنا فهو المؤلف الوحيد لأفلامه . يستغل المخرج هيرزوغ المواضيع الأسطورية والخرافية والحكايات الشعبية والفلكلورية لبلده أو لبلدان أخرى قام بزيارتها أو الإقامة فيها إلا أنه يستخدم هذه الذخيرة أو المادة الخام سواء كانت أدبية أو دينية ضمن آفاق شخصية بحتة ويقوم بإجراء تعديلات وإضافات جوهرية ليضفي عليها أبعاداً فلسفية وثقلا جمالياً آخر كما يمنح المفاهيم بعداً آخر مثلما فعل في مقولة الإنسان الأعلى من خلال إعادة عصرنة أسطورة فاوست بأشكال متعددة التي عولجت من قبل الروائيين والكتاب والشعراء والموسقيين في السينما والمسرح والرواية والأوبرا.
يمكن قراءة أعمال هيرزوغ من خلال قدرتها على إثارة التساؤلات والبحث عن الإجابات والاهتمام بالإنسان والمجتمع بالرغم من طغيان التشاؤم واليأس عليها . فإذا كانت أفلامه في بعض الأحيان تنبؤية تستقريء الكوارث القادمة إلا أنها تعرف كيف تحمل الأمل مثل لقطة إرسال الطيور نحو الأفق في نهاية فيلم قلب الزجاج أو في فاتحة فيلم نوسفيراتو حيث يولد من الخراب الذي سببه نوسفيراتو أمل عندما يخرج الناس رامين بكل مايملكون من ثروات كأنهم في حالة من التطهر ، يرمونها في الشوارع وهم في حالة من الهياج والفرح يرقصون ويغنون ويعلنون عن تخليهم عن أنانيتهم إذ يصبح دراكولا هو نبي التغيير في عالم برجوازي ينبغي أن يتغير ، كما صرح المخرج نفسه ذات مرة فيما يخص شخصية بطله نوسفيراتو .
#جواد_بشارة (هاشتاغ)
Bashara_Jawad#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على مفترق الطرق : العراق وآفاق الحل
-
العراق : اليوم وما بعد اليوم هل يمكن أن تصبح بلاد الرافدين ف
...
-
من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال
...
-
تداعيات من داخل الجحيم البغدادي
-
الإسلام يهدد الغرب أم يتعايش معه ؟
-
من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال
...
-
من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال
...
-
رؤية أمريكية للوضع في الشرق الأوسط
-
من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال
...
-
أمريكا ومنهج التجريب في العراق : قراءة في تحليلات وسائل الإع
...
-
الرؤوس المفكرة الأمريكية في خدمة الدولة العبرية
-
التيار الديني معضلة واشنطن في العراق
-
تقرير عن حقوق الإنسان في العراق
-
حلول اللحظة الأخيرة للمحنة العراقية
-
عراق الأمس وعراق الغد : بين طموحات التحرر ومطامع الإمبراطوري
...
-
حرب النفط الأمريكية وإعادة رسم خارطة العراق والعالم العربي
-
مأزق واشنطن في العراق: نظرة تجديدية
-
تحية إلى الحوار المتمدن نافذة مضيئة للرأي الحر
-
النتيجة المجهولة في المعادلة العراقية
-
عالم المخابرات السرية والأمن الداخلي في فرنسا
المزيد.....
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|