|
أغنية الموسم
ابتسام يوسف الطاهر
الحوار المتمدن-العدد: 783 - 2004 / 3 / 24 - 07:06
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة هي: ملأ الضوء الغرفة، نهضت بتراخي ونعاس وهي تتطلع إلى الساعة المعلقة علي الحائط التي كانت تشير عقاربها إلي الثامنة صباحا ..الثامنة؟ أزاحت الغطاء بسرعة وأسرعت تهبط السلم للمطبخ لتحضير الفطور للصغار وقد اسرعت توقظهم لتأخذهم للمدرسة... تطلعت للصالة ، كان هو ينام هناك على الأريكة..أوه ...حبيبي همست وهي تتأمله، كان يجب أن نضع جهاز تلفزيون في غرفة النوم .. حتى لا يتحجج به وينام بالصالة فكرت وهي تهمس بأذنه بعد أن قبلت جبينه: سآخذ الصغار للمدرسة .. هل تحب أن تواصل نومتك في الغرفة؟ نهض متثاقلا وهو يمسد علي رقبته التي آلمتهُ .. تمتم صباح الخير وهو يرد علي تحية أبناءه .. وأسرع للسرير الذي مازال يحتفظ بدفء جسدها.. وقد طلب منها كأسا للماء بعد أن شعر بجفاف حلقه. وضعت أكياس الخضار وما اشترته من السوق في المطبخ، وسحبت الستائر لتدع الضوء يعيد شئ من الحياة للصالة الصغيرة الداكنة.. الجو رائع اليوم .. ليته يستيقظ الآن لنذهب إلى الحديقة المجاورة .. لكنه حتما سيجد عذرا ما كعادته.. متعب جداً أو لدي موعد.. . لم تؤثر هذه الأفكار على مزاجها ، كانت مبتهجة ، ربما هي الشمس منحتها شئ من الحيوية، أو ربما لا جدوى حزنها سابقا، وقد اعتادت أن تنتظره ليلا لتجده صباحا ينام علي تلك الكنبة، بل صارت ترثي لحاله مسكين.. الله يساعده .. لا عمل.. لا دوام، حقه أن يشعر بالاكتئاب ، والانشغال بالتلفزة كل الوقت . بحثت بين الكاسيتات عن شئ تسمعه .. ثم وكأنها تذكرت شيئا.. أخرجت كاسيت اسود من حقيبتها اليدوية وهي تبتسم آه .. نسيت أن استنسخه لأعيده إلى صاحبته.. كانت قد استلفته من زميلة تعرفت عليها في (دورة لتعلم الطباعة) كانت تحدثها عن تعلقها بالأغاني القديمة التي لها علاقة بالذكريات خاصة بالنسبة لام كلثوم فأسمعتها تلك الأغنية التي أعجبتها فلم تسمعها سابقا ولم يتحدث عنها أحد، قررت أن تستنسخها. سأضعها بالمسجل، لعله يسمعها فيفاجأ ويصحو، لابد انه يعرفها، أو سمعها سابقا، نسيت أن اخبره عنها بالأمس هيأت قهوتها، وتهيأت لسماع الأغنية كما يفعل سهارى الأمس حين كانوا يجتمعون في بيت احدهم ليسهروا علي صوت أم كلثوم، مع الفارق أن سهرتها صباحا ولوحدها، بانتظاره يصحو ويفطرا معاً. كانت كطفلة فرحة بدميتها الجديدة، لم تقتن من قبل كاسيتات تخصها، كلها له اشتراها أو استلفها، ربما هذا سر فرحها. حبها للغناء والموسيقى جعلها تتحدث بثقة العارف عن ذكاء عبد الوهاب باختيار اللحن الملائم لكل صوت، أو عن السر الالهي بصوت أم كلثوم وقوته، وتقارن بينه وبين صوت مسعود العمارتلي.. من؟ يتساءل بعض الزملاء فهم لم يسمعوا بذلك المطرب. (يكذب فيك كل الناس قلبي..... وتسمع فيك كل الناس أذني وكم طافت علي ظلال شك ........وقضت مضجعي واستعبدتني ) أعجبها لحن هذا المقطع بالذات فأخذت تعيده كلما انتقلت الأغنية لمقطع آخر، وهي تردد يا له من صوت! كأنه آت من فضاء آخر (وبي مما يساورني كثير.... من الشجن المؤرق لا تدعني).
هو: لم يفتح عينه حين أيقظته، نهض كمن يمشي بنومه، بذل جهدا كبيرا ليرد علي تحية أولاده. قلت لها أن أصواتهم أو جلبتهم كما تسميها، لا توقظني.. علي أمل أن تتركني أواصل النوم مكاني، لكنها تصرّ، حتى يتاح لها التفرج على التلفزة.. حدث نفسه وهو يدخل غرفة النوم التي يستخدمها في النهار فقط. شعر بألم في صدغيه، ليس من القبلة التي طبعتها علي جبينه، بل لأنه أثقل بالشرب الليلة الماضية، كان بأمكانه الاكتفاء بزجاجة النبيذ، لكنه افرغ زجاجتي البيرة، رغم احتجاجها وهي تشرح له مضار الخلط بشرب الكحول. شرب كأس الماء وهي تتأمله، ثم أدار ظهره وقد غطى وجهه لعله يعاوده الحلم الجميل الذي كان يعيشه .. كانت الشمس ساطعة، تخترق جسديهما العاريين بحرارتها... احس بفزع وهو يري زوجته تقف عند قدميهما تتأملهما وتضحك، كانت طويلة جدا، ثم كأنها نخلة تظللهما، وهي تبتسم بسخرية، بل بحزن.. فقد اعتاد أن يري ابتسامتها غبية، وهذا ما أرعبه، ثم شعر بصوته يخذله وقد ضاق تنفسه وكأنه حُشر بصندوق بلا أوكسجين، وهي تهمس بأذنه يكذب فيك كل الناس قلبي ... وتسمع فيك كل الناس أذني استيقظ علي صوته وهو يصرخ آآآه. جلس وقد نحي الغطاء عنه، الضوء يملأ الغرفة انه حلم مسح العرق عن جبينه، وشعر بعطش كبير. صوت موسيقي خافت يأتي من الصالة كم الساعة الآن؟..تتعمد وضع موسيقي لإيقاظي، بالرغم أنها بالليل تتذمر وتتحجج بالأولاد والجيران لو رفعت صوت المذياع وكم طافت علي ظلال شك......... وقضت مضجعي واستعبدتني ـــ ماذا؟... اغنية لام كلثوم وبمثل هذا الوقت؟؟ هبط السلم مسرعا وتوجه للمسجل ليغلقه.. استقبلته بفرح.. لم ير السخرية التي رآها بالحلم. ــ أحببت أن أفاجأك، أول مرة اسمع هذه الأغنية، ولم أسمعك تتحدث عنها... أنها جميلة من الأغاني المميزة .... ألا تحبها؟ أشاح بوجهه عنها . ــ عندي صداع .... أريد فنجان قهوة. ــ هل تريد أن تأكل شيئا للفطور؟ ــ لا ... أريد قهوة فقط .. عندي صداع.. ــ اعتقد الصداع بسبب الشرب بالأمس، مع معدة فارغة، يقال أن الأكل يخفف من مضار شرب الكحول ويمنع الصداع.. أشار لها بيده أن تسكت. شعور بالخيبة انتابها، لا فطور، ولا أم كلثوم... ارتشف قهوته وأشعل سيجارته، واخذ يقلب صفحات مجلة قديمة.. شعر بضيق وارتباك وهي تجلس بجانبه لابد أنها تريد أن تعاتبه مرة أخرى.. فوجئ بها تقول بمرح: ــ الجو جميل اليوم، كأنه يعلن عن الربيع في كل ركن... ما رأيك لو نذهب للحديقة؟ تغيير جو.. تأمل الخارج من النافذة كأنه أراد أن يتأكد من صحة كلامها. هكذا .. أذن... هي تريد العتاب والتساؤل خارج البيت كما تفضل.. اأن هو فخ! مسكينة ... تعتقد أنها ذكية.. ــ الساعة الثانية عشر... ياه.. نسيت تماما أن أذكرك أن توقظيني، لدي موعد مع البلدية، ألا تذكرين الرسالة التي بعثوها قبل أسبوع؟ ــ أي رسالة؟ إذا كانت تلك التي تخص السكن؟ فقد أرسلنا جواب بناءا علي اقتراحك. ادعي انه لم يسمعها وهو يمضي للغرفة لتغيير ملابسه والمضي خارجاً. بحث في المقهى عمن يدردش معه، فرأي نهاد من بعيد تتأبط ذراع موسي وقد تقدما نحوه. جلست هي قبالته بينما ذهب موسي لجلب الشاي. قال لها بما يشبه الهمس: ــ لقد حلمت بك بالأمس .. أو صباح اليوم. ــ لا تقل لي كيف كان الحلم .. اعرفه ... أفكارك هناك .. قالت وهي تغمزه. ضحك وهو يخفي شئ من القلق حين تذكر الأغنية : (على إني أغالط فيك سمعي ...... وتبصر فيك غير الشك عيني)
هي: أطفأت النار من تحت قدور الطبخ وراحت للغرفة لعلها تستوقفه وتقنعه بالذهاب معا للحديقة، فالشمس بالخارج كأنها تناديها. لم تجده ، كان قد خرج لماذا؟ اهو يخاف الحديقة أم الخروج معي؟؟ انتظرته ليتغدي معهم لكنه لم يعد. انتظرته علي العشاء ولم يعد.. الساعة العاشرة.. نام الأولاد .. شعرت بالقلق لكنها خاطبت نفسها بعصبية هل هي المرة الأولي التي يتأخر بها؟ أنسيت انه صار يأتي أحيانا (وجه الصبح)، هذا إذا لم يبت هناك؟ دخلت الغرفة وأغلقتها بعصبية بل أقفلتها بالمفتاح، مع علمها انه لو أتى سينام بالصالة، بقيت تتصنت للباب الخارجي لعله يفتح الآن.. ثم فتحت النافذة وأشعلت سيجارة من العلبة التي نسيها هناك. تمددت وهي تدندن أغنيتها : (تُعذب في لهيب الشك روحي ... وتشقي بالشجون ..وبالتمني)
هو: الصمت يلف البيت.. دخل وهو يغلق الباب خلفه بهدوء.. أنهم في المدرسة.. وهي لم تعد بعد .. حسنا لأنام.. حتى أفكر بعذر يليق، ولو أنها تركت التساؤل كانت ليلة الأمس جميلة، مازال يعيش طعم حلاوتها.. بالرغم من عدم ارتياحه لنظرات موسي، وتلميحاته. لقد شعر بخوف من اقتراح نهاد الجرئ، أن ينتقل للعيش معها! هو يتمني ذلك، ولكن ليس لديه جرأتها، فماذا يقول الناس، وقد لمح موسي بتساؤل البعض عن كثافة تواجدهما معاً. شعر ببرودة الفراش تلامس جسده.. كان يلعب الشطرنج مع نهاد .. في الشارع..! ورأي زوجته من بعيد تصرخ وهي تضع يدها علي رأسها، وقد سال الدم منه. لا يدري كيف رأي كل ذلك، فهو لم يرفع عينه عن رقعة الشطرنج، واصل نقل البيادق، وهو يسمع الاستغاثات، لكنها كانت كأنها من فيلم تلفزيوني. ثم رأي موسي وآخرين لم يتبين وجوههم، يحيطون به صارخين: (كأني طاف بي ركب الليالي....... يحدث عنك في الدنيا وعني) نهض فزعا.. تأمل فراشه، كان قد نام بملامسه لم يخلع سوى الحذاء، تطلع للساعة كانت الثانية ظهرا. فرك عينيه ، شرب الماء الذي كان بالكأس علي الطاولة الصغيرة، الأغنية إياها مرة أخري.. نزل غاضبا تعتقد أنها ذكية بتلميحاتها، أذن هذه الأغنية مقصودة، وليست مفاجأة.. حسنا.. ليكن .. هي حياتي وأنا حر بها.... ولكن كيف عرفتْ ؟ هل كانتْ تراقبني؟ من قال لها؟ لا أظن بموسي الذي وجدت منه تشجيعا ما، ولا أظنه صادق بنقده كان الصوت يملأ الصالة، فلم يسمع أصوات غسل الصحون في المطبخ. بل توهم أن الصوت كان يتعالى كلما اقترب من المسجل وهو يفكر أنها حريتك.. وتلك هي فرصتك.. يتضاعف الصوت بل رأي وكأن أم كلثوم تخرج كعفاريت الأفلام لتقف أمامه: (على أني أغالط فيك سمعي..... وتبصر فيك غير الشك عيني) ــ الله أكبر... هل هذا معقول؟ كل يوم ومن الصباح، شك... كذب.. وخيانة لتقلقي نومتي ..لماذا؟ أي ذوق هذا أم أنها روحك المريضة؟. ثم هجم علي الجهاز حطمه واخرج الكاسيت ورماه من النافذة.. وخرج مسرعا، لم يلتفت لها. كانت تقف بباب المطبخ مذهوله، وهي تتأمله يصفق الباب خلفه، لم تفق من دهشتها وظلت لثواني تواصل ترديدها للأغنية بهدوء: (وما أنا بالمصدق فيك قولا.... ولكني شقيت، شقيت بحسن ظني)
لندن 2004
#ابتسام_يوسف_الطاهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العراق وزيف الأعلام العربي
-
طلعنا عليهم طلوع المنون..!!
-
على الضفة الأخري
-
الرهان الخاسر
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|