أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ياسين الحاج صالح - عن -المجتمع المكشوف- وتحرره















المزيد.....

عن -المجتمع المكشوف- وتحرره


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2547 - 2009 / 2 / 4 - 08:43
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إن من حيث مرجعياتهما الحديثة وغير المعروفة عندنا، أو من حيث انحيازاتهما الفكرية والسياسية للمحرومين والضعفاء، تشكل مقالتا الصديقين عبد الحي السيد ("المجتمع وحالة الاستثناء"، السفير الثقافي، 29/9/2008) وعمر عزيز ("حالة الاستثناء، القانون، والتوق إلى الحياة"، السفير الثقافي، 12/12/2208) مساهمتين متفردتين في الكتابة السياسية، ليس في سورية وحدها بل وفي إطار عربي أوسع.
مستفيدا من الفيلسوف الإيطالي جيورجيو أغامبن، يوظف عبد الحي مفهوم "الحياة العزلاء" التي تفرضها "حالة الاستثناء" في بلداننا على رعاياها، فتردهم إلى "كائنات بلا كيان"، "كائنات مستباحة"، "يمكن التخلص منها أو التصرف بها من دون أن يعني ذلك ارتكابا لأية جريمة أو حتى تقديما لأي قربان". غير أن المجتمع المبدد على هذا النحو لا يستكين لأحوال الاستثناء ونظمها، بل يحاول أفراده "أن يلملموا ما تبقى لهم من كيان ليصنعوا فضاءاتهم البديلة، ويستعيدوا فيها بعضا من المعنى لوجودهم". إنهم يطورون مقاومات متنوعة، "تمنع مشروع الاستثناء أن يكتمل". ويرصد عبد الحي ضروبا من المقامات هذه مثل اللامبالاة بالسياسة وانتهاك القانون الرسمي واستخدام المؤسسات الرسمية لصنع وإقرار فضاءات اجتماعية البديلة "تلتئم فيها رواية بديلة للهوية والجود والمستقبل". على أنه يلاحظ أن الفضاءات تلك قد تتشكل على أرضية دينية وتقليدية أحيانا، ويحصل أن "لا تتضمن بالضرورة تحريرا للمبادرة الفردية، بقدر ما يكتنفها إعادة إنتاج لحكام صغار، ونظم سيطرة على مستويات دنيا ومحلية".
متفقا مع عمر عزيز، تبدو لي مشكوكا فيها نسبة "الحياة العزلاء" إلى "حالة الاسثتناء"، المفهوم الذي يحمل تضمينات قانونية يصعب فصله عنها (الأمر الذي لم يحاوله عبد الحي على كل حال). مستندا إلى فوكو، رأى عمر أن "العنف المنظم هو القوة المؤسسة للقانون"، ومستندا إلى كارل شميت رأى أن الاستثناء لا يقيم خارج القانون بل هو ينبثق منه ويتأسس عليه، ما يعني أن الخروج من حالة الاستثناء ممتنع دون الخروج على القانون ذاته نحو ما يسميها عمر "فضاءات محبة ومختلفة وفرحة ومنفتحة"، يتجسد فيها "التوق إلى الحياة" الذي يراه أوليا وسابقا لكل سلطة، وليس "دفاعا عن الحياة" ولا هو "رد فعل لممارسات السلطة" الاستثنائية التي انتهكتها كما يبدو أن عبد الحي يرى.
فكيف نصف الأوضاع التي نعيش في ظلها "حياة عزلاء"؟ يبدو عمر أقرب إلى اعتبار الدولة، بما هي كذلك، عنوانا لهذه الأوضاع، وإن ألمح في موقع من مقالته إلى "هيمنة رأس المال". وكما قد نتوقع، يسوقه هذا التصور إلى التقليل من شأن الفوارق بين "دول القانون ودول الاستثناء"، فيردها (الفوارق) إلى "مكنات استبدادية" يوظفها رأس المال (في حالة "دولة القانون")، مقابل "سلطات استبدادية بدأ رأس المال بالتموقع في أجهزتها القيادية" (في حالة "دولة الاستثناء").
أميل من جهتى إلى الاعتقاد بأننا نعيش "حياة عزلاء" يمكن تشكيلها وحبسها وقصها وتقطيعها وطيها وقصفها وبترها و"كيُّ وعيها" (موشيه يعالون، رئيس الأركان الإسرائيلي أيام التنكيل بجنين عام 2002) وحرقها وحذفها بفعل ضعف الحمايات الثقافية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية التي تقيد السلطة، وتمكّن المجتمع من السيطرة على شروط حياته والتحكم بها. في غياب الحمايات هذه قد يمكننا التكلم على حالة من الانكشاف التاريخي، فقدان التحكم بشروط الحياة والسيطرة على المصير، وانفلات الشروط هذه من قدرة الناس العقلية والعملية على ضبطها وتنظيمها. وتتفرع حال الانكشاف هذه إلى انكشافات متعددة اجتماعية (تفكك أطر الاجتماع التقليدية والتناثر الاجتماعي) واقتصادية (الفقر وتدني الدخل وانهيار قيمة العمل) وسياسية (منع الدفاع عن النفس والانتظامات المستقلة) وعقلية (تشوش المدارك وإبهام العالم وفقدان القدرة على التوجه فيه)، وأمنية (انتهاك حتى المجال الخاص وفقدان الأفراد والجماعات الحماية والحصانة، الخوف..) وميتافيزيقية (تخلي الله عنا..).
ويلتمس كل منا سبل التدثر من هذه الانكشافات أو مواجهتها أو تحويلها بما أتيح له من عتاد مادي وفكري وسياسي. المقاومات التي رصدها عبد الحي جهود في هذا الاتجاه. لكنها مقاومات قطاعية، مفتتة، معزولة هي ذاتها، لا تقاوم الانكشاف العام أو "حالة الاستثناء" بما هي شرط تاريخي بلا ضوابط، بل تواجه الانتهاكات المباشرة لفضائها الخاص، ولا يتطلع المشاركون المحتملون فيها إلى ما يتجاوز "توسعة فضاءات حياتهم وإمكانياتهم لذهنية والجسدية والنفسية"، أو كذلك "توسعة رقعة حركتهم" حسب عمر عزيز. وقد تحصل "التوسعة" هذه على حساب فضاءات مهمشة أخرى، وليس بالضرورة على حساب القيمين على النظام، كيفما وصفناه وفسرناه.
ما هو المثال الذي يصبو إليه هؤلاء المقاومون؟ إنهم جميعا يتطلعون إلى حياة مرتاحة، مرفهة، إلى سكن لائق (في حي منظم ومخدّم) وتعليم جيد وعمل مجز وفضاء اجتماعي "محب وفرح". مقاوماتهم تستمد حوافزها من مثال الحياة هذا لا من غيره، على نحو ما يبدو أن عمر يعتقد. لكنهم يجدون أنفسهم خارج المجتمع المنظم (40% من الاقتصاد السوري مثلا قطاع غير منظم، يشتغل فيه 42% من قوة العمل، أي ما قد يعيل أزيد من 8 ملايين من 20 مليونا من السكان)، فيطورون فضاءاتهم البديلة بما يوافق الإمكانات المتاحة لا بما يوافق التطلعات المشروعة. ولذلك أجد ملتبسا قول عبد الحي إن "الأحياء غير الرسمية [السكن العشوائي أو مناطق المخالفات] ليست سوى جزء من نظام عمراني بديل". فسكان الأحياء هذه لم يختاروها، ولكانوا يفضلون العيش في "أنظمة العمران الرسمية" لو تسنت لهم الفرصة. إن أحياؤهم ليست بديلا، ألا لأنه لا بديل أمامهم غيرها، وما قد يكون بديلا إيجابيا في نظرهم ليس إلا العمران الرسمي والمنظم. أما قوله إن "أنظمة العمران الرسمية" لا تبدو لعين سكان العشوائيات "أقل عشوائية من سكنهم غير المنظم" فيبدو لي إسقاطا لوعي خارجي على تجربة جمهور لا يسعى إلا إلى الخروج من العشوائية والهامشية المفروضتين عليه.
إن ما يحرك كتل المحرومين هو نازع الإمساك بحياتهم وعدم تركها تفلت من أيديهم.. هذا هو الانكشاف الذي لا يطاق، والذي تمثل أوضاع كالسجن نموذجا أقصى له (التعذيب هو الانكشاف المطلق)، لكن تقاربه أوضاع الفقر الطغيان والاحتلال (ليس تعذيب غزة الجاري على يد الإسرائيليين غير حالة انكشاف مطلق، تحاكي تماما وضع معتقل تحت التعذيب. أليست غزة معسكر اعتقال مفتوح أصلا؟).
يعاش الانكشاف ويشعر به كفضيحة تطعن الإنسان في شرفه، أي في صميم حياته وتكامل شخصيته وعالمه. ولعل في الدعاء الشعبي الدارج بالستر ("استرنا يا رب!" أو "استرها يا رب معانا!"..) ما يشير إلى ضرب من "الرهاب" العربي الراسخ، رهاب الانكشاف والفضيحة. وقد يمكن إدراج المقاومات التي تكلم عليها عبد الحي في استراتيجية للستر والاستتار، لا للتحرر الإنساني العام. هنا يعانى الانكشاف كقدر، ويلاذ منه بالستّار ومسيّر الأقدار، الله.
وربما يكون أحد مصادر الالتباس في تحليل عبد الحي ازدواج مفهوم المقاومة لديه. فهو يستخدم المفهوم بمعنى معياري موجب مرة حين يتكلم على فضاءات بديلة، وبمعنى وصفي محايد مرة أخرى حين يتكلم على احتمال "إنتاج حكام صغار، ونظم سيطرة على مستويات دنيا ومحلية" (كان نقد كهذا وجه لمفهوم المقاومة عند ميشيل فوكو، وإن لم تخني الذاكرة فإن الناقد هو ريتشارد رورتي). وهذا ما منعه أن يرى أن أصناف المقاومات التي ذكر، وأنا أضيف إليها الرشوة والعدوانية حيال المرافق العامة والإضراب الفعلي الدائم عن العمل من قبل العمال والموظفين عند "الدولة"، والهجرة لمن استطاع إلى المهاجر سبيلا، وكذلك الطائفية والعشائرية..، تتعايش مع نظام السلطة القائم وتفترضه وتشاركه عملية تدمير الفضاء الاجتماعي العام وقتل ما يحتمل أن يكون فيه من محبة وفرح. إن العشائر والطوائف فضاءات اجتماعية حميمية، مختلفة، وقد تكون محبة، لكنها ليست فرحة، ولا بالخصوص محررة، فضلا عن كونها متعادية فيما بينها. وقد يمكن النظر إليها كتشكلات مقاومة لحالة الانكشاف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعقلي. لكنها مقاومة بالانكفاء على ذوات جمعية ناجزة، لا بالانفتاح على الآخرين والعمل معا من أجل "توسعة" الحياة وخلق فضاءات مشتركة مفتوحة.
إن ما يتشكل في مواجهة النظام السالب للإنسانية هو بنى ولائية قد تكون إنسانية جدا، لكنها طاردة للحرية واستقلال الأفراد. يصون الناس إنسانيتهم بالتخلي عن حريتهم، لأنهم يعلمون بالتجربة أن من شأن الدفاع عن حريتهم حتى النهاية أن يوقعهم في أوضاع تهدر إنسانيتهم، أو حتى حياتهم.
من جهة أخرى، يشتبه المرء في سورية التي تعرض في آن نظام سلطة مطلقة، ومثالا لحالة انكشاف عام قاسية، يشتبه بأن "السلطات العمومية" لا تجد غضاضة في ضروب المقاومات التي تكلم عليها عبد الحي، و"الفضاءات البديلة" المخالفة التي تثمرها تلك المقاومات، وذلك لكونها وسيلة تحكم احتياطية بالمجتمع، يمكن استحضارها عند اللزوم. واللزوم جاهز دوما إذا وضع مجتمع الفضاءات المخالفة هذه نفسه في معارضة النظام، أو شكل ملجأ لخارجين عليه، أو حين يجني النافذون مكاسب كبرى من "الإجراءات التنظيمية". وهذه الاستراتيجية الأخيرة آخذة بالتوسع حاليا مع "تحرير الاقتصاد"، ومرشحة لمزيد من التوسع في المستقبل.
ما أريد قوله هو أن تحليلات الصديقين تضفي شيئا من الرومنسية على فضاءات ليست حرة كما تبدو ولا اختيارية، رومنسية قد يكون أصلها ما يقارب تقديس "المقاومة" (عبد الحي) أو تقديس "التوق إلى الحياة" (عمر).
فهل تكون المشكلة في ضروب مقاوماتنا ذاتها، أم في أن "نظام الاستثناء" (وربما الدولة ذاتها)، لا يسمح بغير نشوء مقاومات لا تواجه "الحياة العزلاء" بغير الانعزال عن الحياة في الدولة؟ وهل يمكن لتغيير النظام (أو الدولة ذاتها) أن يكشف عن طاقة تحررية في المقاومات الاجتماعية، مهدورة اليوم؟ وكيف يمكن إعادة بناء الدولة عندنا بحيث تتحرر الطاقة تلك؟ وبالمقابل، إذا كانت مقاوماتنا نابذة للدولة والنظام، فهل يمكن لشكل الدولة الراهن أن يصلحها؟
نميل بالأحرى إلى اعتبار الصفة السلبية لمقاوماتنا نتاج الفاعلية التهميشية للبنى السياسية - الاقتصادية - الثقافية القائمة. ويبدو لنا أن المقاومات الاجتماعية في كل مكان لا تطرح على نفسها أهدافا "وطنية" أو تسوغ ذاتها بمشروعية عليا، تسمو على "التوق إلى الحياة". لكن من شأن تعارضها مع المشروعية هذه والأهداف تلك أن يكون محدودا بقدر ما تتسع الطاقة الاستيعابية للنظام العام، أي بقدر ما يشارك أكثرية السكان في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية للأمة. فأول الارتقاء بمقاوماتنا هي الاعتراف بالجمهور المهمش، وتمكَنه من السيطرة المادية والسياسية والعقلية على شروط حياته، أي بالضبط من توسيع حريته.
وعلى هذا النحو يبدو أن تغيير النظام العام هو ما يفضي إلى تغيير المقاومات وإطلاق طاقتها التحررية. لكن كيف يتغير النظام؟ ومن يغيره؟ وإن لم تكن مقاومات المهمشين وتوقهم إلى الحياة عنصرا كافيا في التغيير المطلوب، فهل تمسي كذلك بالتقائها بالفاعلية المنظمة لمثقفين مساندين لهم؟ ألا يقودنا ذلك إلى النموذج اللينيني لطبقة عاملة مستغلة، لكن غارقة في النزعة المطلبية، ينظمها وينقل إليها الوعي الثوري مثقفون من الطبقة الوسطى؟ والحال إننا نعرف ما كانت النتيجة، وأنها لم تكن انحرافا عن النهج اللينيني بحال. إذن ما العمل، إن لم يكن "ما العمل؟" اللينيني مسعفا؟
يبدو لي أن لا مخرج من هذه الدائرة المغلقة بعمل سياسي متمركز حول الدولة ولا بمقاومات اجتماعية يحفزها توق إلى الحياة أو تطلع إلى العدالة. المخرج عمل تأسيسي يكسر الدائرة كسرا، فيغير الدولة والمجتمع معا. وإن لم يكن هذا ضربة حظ (فات أوان الرسالة الدينية التي قال ابن خلدون يوما إنه لا قيام لنا، العرب ومن في حكمنا، بغيرها)، فإنه نتاج اختمار مديد قلما يبالي إيقاعه البطيء بالمعاناة الإنسانية. على أنه يبدو أن الفرصة أكبر للفوز بضربة الحظ أو تسريع الاختمار إن اعتنينا بالثقافة.
نتكلم على شغل ثقافي وروحي، يهتم بارتقاء الذوق والحس وتربية ضمير الفرد وتفكيره الناقد، وأيضا على شغل سياسي بالمعنى الجوهري للكلمة، أي ترقية اجتماعية الإنسان وبناء الضمير العام أو نشر "الفضيلة العامة". فبما هي تغطية عقلية وقيمية وجمالية لشروط حياتنا، تملكها ونزع غرابتها واغترابنا عنها، الثقافة هي ما من شأنه أن يؤسس لتجاوز المجتمع المكشوف والتغلب على انكشافنا التاريخي. وهذا شغل يغيب عن مقاربة عبد الحي، وأكثر عن مقاربة عمر التي تمنح ثقة مطلقة لـ"توق إلى الحياة" قد يفضي إلى تنافس ضارٍ لن يفوز بمحصلته إلا الأقوياء، دون وجود ما يحمي الضعفاء من ضوابط وقواعد عامة، أظهر عمر ازدراء صريحا لها. أليس توق طغاتنا وزبائنهم إلى الحياة هو ما يميت مجتمعاتنا؟ وألا يسحق توق الإسرائيليين إلى الحياة توق الفلسطينيين، والفلسطينيين أنفسهم؟
وقد يكون أصل المشكل أن الصديقين ينقلان مفهومين، "المقاومة" و"التوق إلى الحياة"، من إطار اجتماعي سياسي ثقافي تتوفر فيه نواظم وضوابط تعدل الفعل المحرر للمفهومين، أو بالأحرى فيه من كثافة الضوابط ("السلطة الانضباطية" بتعبير فوكو) ما يمنح للمقاومات والتوق إلى الحياة مفعولا محررا وموسعا. الأمر ليس كذلك عندنا. ثمة ضعف مفرط في الضوابط والقواعد والمؤسسات، ما من شأنه أن يجعل أصنافا من المقاومات والتوق إلى الحياة حليفا لانكشافاتنا المتنوعة ولعراء حياتنا.
كان أغامبن بلور مفهوم "الحياة العزلاء" في سياق التفكير بمعسكرات الموت النازية. والحال إن هناك فارقا أساسيا بين الطغيان النازي والطغيان المعاصر لدينا. طغيان النازي هو، إن صح التعبير، طغيان فرط التنظيم والعقلنة، "السلطة الانضباطية" في تجليها الأقصى. كان وكلاء النازية يجرون تجارب على البشر (يضعونهم في درجات حرارة متدنية جدا ثم يغيرونها؛ يحقنونهم بمواد كيميائية..) ويسجلون النتائج، كما لو كانت التجارب تجرى على خنازير أو فئران. طغياننا طغيان نقص التنظيم والعشوائية التامة والتعسف والفوضى والقوة الخام. السلطة لدينا اليوم ليست انضباطية بل اعتباطية، وليست قانونية بل عرفية، وليست "مدنية" بل "طبيعية" إن استعرنا لغة فقهاء ومؤرخين قدماء.
وخلافا للغربيين الذين استبطنوا في أجسادهم وأذهانهم مبدأ السلطة والعقلنة والنظام والانضباط، وما يجوز وما لا يجوز، ما يحق لك وما لا يحق؛ نحن نتمتع بدرجة عالية من الحرية الخام: يمكننا نثر نفاياتنا في الشوارع وتلويث مصادر المياه القليلة..، ويمكن للقادرين منا و"من لهم ظهر" أن يفعلوا أي شيء على الإطلاق (يقتلون، يغتصبون، ينتزعون ملكيات عامة أو خاصة، ..) بحصانة تامة. هذه "حريات" حرم منها الغربيون منذ وقت طويل. فهل يبقى للمقاومة والتوق إلى الحياة المعنى نفسه هنا؟
هذا الفارق يضع التعليم والقواعد والمؤسسات والمعرفة والتثقف والترقي الأخلاقي والجمالي، جملة ما يسميه فرويد "عمل الثقافة"... في موضع حليف الحرية لا خصمها، خلافا لأوربا حيث يجري الكلام كثيرا على العقلانية الأداتية والقمعية (مدرسة فرانكفورت) وحيث ينتقد فكر التنوير ويدان لسلطويته (مجمل تيار ما بعد الحداثة). فوكو وأغامبن ليسا بعيدين عن هذه المناخات الفكرية.
يبقى القول إنه في "العمل التأسيسي" ينحل التعارض بين تحليلات اجتماعية تزكي طوباويات اجتماعية عادلة (تصدر عنها مقاربات الصديقين) وتحليلات تاريخية تزكي طوباويات عاقلة ودولتية. وإن الكلام على تأسيس يعني حتما مساءلة ونقض الأسس الفكرية والوجودية التي تقف عليها حياتنا اليوم، أي الاستقلال عن السماء.




#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البوشية وتحطيم الديمقراطية
- الصراع الوجودي والصراع العدمي
- ما وراء -كي الوعي- وما تحت الوعي المكوي
- في نقد لبنان.. خواطر في شأن بيروت والثقافة والحرية
- أنهاية الردعية الإسرائيلية؟!
- كسر حالة اللابديل... فلسطينياً وعربياً
- .. لكن أين يوجد -العرب-؟!
- بلى، هناك بديل فلسطيني!
- قضية عدالة جوهرية، لا تتقادم ولا تستلب
- مشروع لقتل الناس جميعا!
- حماس وعبّاس والشيطان
- في الطائفية والهيمنة والمعرفة السياسية
- الثقافة والطائفية: شروط إمكان دراسة نقدية
- الزيدي وبوش والحذاء...سخرية في بطن سخرية!
- إصلاح النظام أم استعادة الجولان؟
- في نقد تصور الوطنية القومي العربي
- بصدد -الأخلاقوية- و-الحضاروية- و.. السياسة
- ضد إدراج حقوق الإنسان في أجندة العلاقات بين الدول
- وجهان لدينامية الصراع العربي الإسرائيلي
- لا حل إسلاميا للمشكلة الطائفية


المزيد.....




- -لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د ...
- كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
- بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه ...
- هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
- أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال ...
- السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا ...
- -يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على ...
- نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
- مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
- نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ياسين الحاج صالح - عن -المجتمع المكشوف- وتحرره