أحمد زيدان
الحوار المتمدن-العدد: 2546 - 2009 / 2 / 3 - 08:23
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
نودّ جذب أطراف الحديث الآن لنسلّط الضوء على تراخيص مزاولة المهن “Occupational Licensure”، و هي ما تعدّ تداخل صريح بين الحرّيّة و القانون، و نقض تامّ لحرّيّة الفرد، و ما يواكبها بداية من التسجيل “Registration” حتى نيل رخصة مزاولة مهنة ما “Licensing”، مرورًا بالإعتماد “Certification” و ما يصاحب هذا كلّه من بيروقراطيّة، هذا بالإضافة إلى التدخّل الصارخ من قبل هذه القوانين في حرّيّة الأفراد، و كما أشرنا مسبقًا*، فإنّ التمييز على أساس رخصة لمزاولة المهنة يجلب أضرارًا كثيرةً للإقتصاد، و يقوّض حرّيّة الفرد في امتهان ما يريده، بل و يمنع المستهلك من سيادة السوق، و من التمييز الطبيعيّ على أساس الجدارة، فكم مرّة قابلت سائقًا أخرقًا يمتلك رخصة سير؟ و كم مرّة صادفت حرفيّ متمرّس غير مسجّل و لكنّه يجيد مهنته؟؟ و هذا لأنّ أيّ تقييد قانونيّ لحرّيّة الفرد من ممارسة ما يشاء، يقابله التفاف حول هذا القانون بالذات من جانب الفرد، بالإضافة إلى أنّ أيّة رخصة، أو مؤهِّل، هي ليست ضمانًا كاملًا لإجادة هذا العامل أو ذاك مهنته، فدائمًا ما كان اختيار عامّة المستهلكين، من خلال السوق، قائم على التجربة و الخبرة و ليست الرخصة أو المؤهِّل*، و دائمًا ما ينتج أيّة تدخّل، من قبل القانون، في العلاقة بين المنتج و المستهلك انتهاكًا لحرّيّتهما معًا، فالسوق دائمًا هو معيار الحرّيّة، بلا تدخّل “Intervention” و لا تنظيم “Regulation.”
و كما أشارت آيان راند، فإنّ فرض الحكومات على العامل "رخصة" أو "ضريبة ممارسة مهنة" أو "مؤهِّل معيّن لممارسة المهنة،" يعدّ دربًا من دروب العبوديّة، و الفرد حرًّا و ليس عبدًا.**
و هذا ينطبق تمامًا على نقابات العمّال “Trade Unions” التي تحتكر التراخيص “Licensing” و تقوّض حرّيّة السوق ككلّ بداية من المستهلك بإجباره على التعامل مع المسجّلين فقط، إلى الأفراد بالتحكّم في أعداد ممتهني هذه المهنة بالذات، إلى أصحاب العمل بالضغط على الحكومات لفرض حدود دنيا للأجور، و مساوئ نقابات العمّال و أضرارها على حرّيّة العامل و الفرد معًا أضخم ممّا يتصوّر المطالبين بها، و ما يعدّ انتهاكًا من قبل هذه النقابات ضد حرّيّة الفرد و العامل قد نفرد له مساحات أكبر في مقالات قادمة لأنّه جدّ ضخم، بداية من تأثير النقابات المباشر على الأجور و الأسعار، نهاية بالإضرابات و الإعتصامات التي يتمّ فيها الإعتداء على الأرواح و الملكيّات الخاصّة، مرورًا بعدم عدالة المنافسة و احتكار سوق العمل.
و إذا انتقلنا لانتهاكًا آخرًا قد يضمّه القانون ضد الفرد، فهي الحقوق الخاصّة و التي تطالب بها نقابات العمّال أيضًا، فكلّما أُضيف، و لو بحسن نيّة، حقوق أخرى خاصّة لمجموعات أفراد بعينهم، أو لعمّال مهنة بعينهم، كلّما تمّ انتهاك حقوق أفراد في المقابل، فالحقوق ليست تفاح ينمو بلا شجرة، و لكنّه مقياس يناله كلّ فرد على في مساواة تامّة مع الفرد المقابل، إذن فأيّة "حقوق" جديدة لفرد أو لمجموعة خاصّة من الأفراد، أو لممتهني مهنة معيّنة، أو لجنس معيّن، دون الآخرين، هو يعدّ انتقاص من حرّيّة فرد أو مجموعة أفراد مقابلين. و كما اتفقّنا مسبقًا، فإن الحق الأساسيّ و الطبيعيّ لكلّ فرد “Individual Right” هو الحق في الحياة، و هذا مكفول لجميع الأفراد بغضّ النظر عن أيّة فروق بينهم، و لكن أيّة حقوق خاصّة لمجموعة أفراد ما هو إلّا ثغرات في أيّ قانون، بل و يعدّ تمييزًا صارخًا إذا تمّ تقنينه، و لذا فإنّه لا يوجد ما يُدعى "حقوق الأقليّات،" أو "حقوق المرأة،" أو "حقوق الفلّاحين،" أو "حقوق رجال الأعمال،" أو "حقوق العمّال؛" لأنّ كلّهم أفرادًا، و حقّ كلّ فرد منهم في الحياة مكفول بغضّ النظر عن أيّة مجموعة ينتمي، فمن يريد الإجتماع مع أفراد مشابهين له هو حرّ بالطبع، و لكن يدرك الفرد الحرّ تمامًا أنّ تركه لمجموعة و ذهابه لأخرى لن يكسبه حقّ جديد و لن ينتقص من حقّه القديم، فحقّ الفرد ثابت و موضوعيّ و واحد، مهما كان أو لأيّ مجموعة انتمى.***
في نهاية الحرّيّة و القانون، يجب أن أذكر أنّني أرى عقوبة الإعدام مرفوضة كلًّا و موضوعًا من وجهة نظر ليبراليّة تقدّر قيمة الفرد، و حتى إن كان مدانًا أو مجرمًا، فعقاب فرد بالقتل هو غير مجدي تمامًا، بل عقاب مثير للسخريّة، فقد ينتحّر فرد بإرادته، و لكن أن يُقتل عقابًا لجرم مهما كان حجمه يمثّل مسح فرد ذي قيمة إقتصاديّة قد تأتي من وراءه إن تمّت عقوبته، و حتى إن استمرّت مدى الحياة، عن طريق إعادة تأهيله عقليًا، و نفسيًا، و فسيولوجيًّا، و تكليفه بعمل ينتجه من داخل مسجنه، و أنا أعتقد أنّ شركات خاصّة كثيرة ستقبل تولية جزء من عمليتها الإنتاجيّة، التي تُسمح بإنتاجها خارج المصنع، لأولئك السجناء، مع دفع الأجر له شخصيًّا، أو لعائلته خارج المسجن، أو لأيّة جهة يريدها السجين.
و أنا أعتقد بأنّ إعادة تأهيل المجرمين هي أصلح كثيرًا، بل و أهمّ من عقابهم، بالإضافة إلى كونهم حقل تجارب خصيب لدراسة سيكولوجيّة المجرم، أو لصقل المناهج الأكاديميّة العسكريّة و مدارس الطبّ النفسي بحالات عمليّة من واقع الحياة.
و بالنسبة للعمل، فأظنّ أنّه من حرية السجين، فقد يختار، بإرادته و بلا عنف أو قسر، ألّا يعمل و يكتفي بإعادة التأهيل، أو قد يختار ألّا يؤهّل و يكتفي بمدّة السجن، أو قد يختار أن يموت، لتصبح الموت في هذه الحالة باختياره الإراديّ التامّ.
و أيّ استخدام لعقوبة الإعدام، أو للتعذيب، أو للعنف أراها منافية تمامًا لفرد سجين، فهو بالأساس تُنتهك حرّيّته بمدّة السجن هذه؛ لأنّه انتهك حرّيّة غيره، مدّة السجن التي أراها، بالنسبة للجريمة المرتكبة، كافية تمامًا مع عمليّة إعادة التأهيل، و العمل. و باستخدام هذه الطريقة فقد اكتسب المجرم قيم لا أظنّ أنّها توافرت فيه في الماضي، بالإضافة إلى اكتساب الأفراد خارج السجن عمقًا جديدًا لحرّيّتهم من خلال تجربة السجين في مسجنه.
الحرّيّة الفرديّة ليست أمرًا يقبل التفاوض، أو الإستفتاء، فلا يحقّ لأيّة مجموعة، و حتى إن كانت أغلبيّة، أن تنتقص من حرّيّات الأقليّة أو تحرم فرد من حقوقه، و لذا فإنّ الحرّيّة ليست مجالًا للتبديل أو الإحلال.****
*الحرّيّة و الدّين:
من خلال نقاشاتي المتكرّرة مع أفراد من جيلي أو من الأجيال الأقدم، ألمس تخبّطًا واضحًأ في مفهوم الأفراد للحرّيّة، و التي أتمنّى أن تكون هذه المقالات قد أزالت بعض من الغمامات حولها، بالإضافة لاضطراب، و لا سيّما في المجتمعات الشرقيّة ذات الأغلبيّة المحافظة، في ربط الحرّيّة بالدين، و في هذا التصميم اللامبرّر لحدّ الحرّيّة بالدين، أو حتّى بالمجتمع أو القانون كما شرحنا مسبقًا، و لوأد الحرّيّة في إطار الدّين الضيّق، و لكنّ الحرّيّة لا تحدّها أطر، و الحرّيّات الفرديّة حقًّا لا تعترف إلّا بحقّ الفرد في ممارسة ما يشاء طالما لم يتعدّ على حرّيّة غيره، و في هذا يكون الدّين هو من قبيل الحرّيّة الفرديّة، و لكن لو تطوّرت الأمور و مورست باسم الدّين عنف أو قسر لصار الدّين متعارضًا مع الحرّيّات الفرديّة.
فكما أنّ من حقّ فرد أن يشرب الخمر، فمن حقّ آخر أن يحرّم على نفسه الخمر، و كما أنّ من حقّ فرد أن يساوي في الميراث بين أبناءه، فمن حقّ آخر أن يوزّع للذكر مثل حظّ الأنثيين. و كما أنّ من حرّيّة الفرد الدينيّ أن يلتقي بأصدقائه المتدّيّنين في معبده، فحرّيّة الفرد اللادينيّ مكفولة في مقابلة أصدقائه اللادينيّين في المكتبة، و كما أنّ من حرّيّة المتديّن أن يؤدي صلواته في الشارع، فمن حقّ راقصة السترتيز أن تتعرّى بجانبه، و لكلّ أتباع.
أودّ الضغط هنا على أنّ الدستور العلمانيّ الوضعيّ وحده، الذي تبرز فيه الحرّيّات الفرديّة، هو الذي سيكفل للدينيّين الصلاة في الشارع، و لكن الدستور الدينيّ لن يكفل بأيّة حال من الأحوال لراقصة الستربتيز بالتعرّي في الشارع، و لذا فإنّ الحرّيّات الفرديّة تكفل الدّين للمؤمنين تحت لوائها، بعكس الدّين الذي لا يكفل الحرّيّات الفرديّة للعلمانيّين، و إن استنتجنا شيئًا فهي أنّ: الحرّيّات الفرديّة أعمّ و أشمل كثيرًا من الدين، فمنظور الدّين الضيّق الذي يميّز بين الأفراد على أساس الإعتقاد غير موجود بالمرّة في سياق الحرّيّات الفرديّة، و أيّ دين، كما أشرنا مسبقًا، هو عنصريّ بطبعه؛ لأنّه يمارس تمييزًا ضد كلّ غير المؤمنين لصالح المؤمنين، الأمر الذي لن يختلف كثيرًا لو تمّ اعتماد الدستور على مرجعيّة دينيّة للتشريع.
و لذا فليتنا نختم العلاقة بين الحرّيّة و الدين هكذا: أنّ من حرّيّة الفرد أن يحدّ من حرّيّته بنفسه، أو يتنازل عنها كلّها، بداعي الإعتقاد في دين معيّن، أو مذهب سياسيّ معيّن، أو حتى اتّباع شخصيّة معيّنة، و ليت القارئ يفهم قصدي بالدين هنا، و هو المفهوم الشامل لأيّة شئ يدين لها الإنسان، سواء البوذيّة أو الحركة السرياليّة العالميّة، طالما لم يصاحب ذلك عنف أو قسر، فإنّ من حرّيّة المتديّن أن يمنع نفسه عمّا يريد بداعي الدين، أو يتيح لنفسه ما يشاء، و لكن بلا تعدٍّ على حرّيّة فرد آخر مقابل. فقد يحرّم فرد على نفسه الإنتحار، أو تحتجب امرأة، أو يترهبن قسّ بدعوة الدين، و لهم في ذلك كامل حرّيّتهم، في المقابل الذي ينتحّر فيه آخرًا، و تسفر امرأة، و يقضي رجل أعمال ليله و نهاره في جمع المال، و لكلّ منهم في ذلك كامل حرّيّته أيضًا.
و أنا لا أعتقد أنّ هناك أيّ دستور دينيّ في العالم يسمح بالحرّيّات الفرديّة لكلّ أفراد المجتمع، و عليه فإنّ أيّة دستور دينيّ هو معارض تمامًا و مناقض نفضًا بيّنًا لحرّيّة الفرد.
في نهاية سلسلة المقالات هذه، لا يسعني إلّا أن أعرِّف الحرّيّة الفرديّة كما أراها، و وفقًا لما سبق على مدار ثلاثة أجزاء؛ الحرّيّة الفرديّة هي ممارسة الفرد البالغ العاقل لإرادته الشخصيّة طواعيًّة، بلا عنف أو قسر، و هي حقّ الفرد البالغ العاقل في الحياة، و التملّك الخاصّ لإنتاجه الماديّ و المعنويّ، بلا عبوديّة أو اعتداء على حقوقه الفرديّة من قِبل الأفراد الآخرين، و لا استعباده أو اعتدائه على الحقوق الفرديّة للأفراد الأخرى، تحت غطاء قانون واحد يساوي بين الأفراد البالغين العقلاء جميعًا.
لا أعتقد أنّ كثيرين يرفضون المفهوم السابق، لأنّ رفض أيّ فرد لما سبق، أو انتهاكه لحقوق فرد آخر، تحمل بين طيّاتها السماح لأفراد أخرى بإنكار ما سبق أو بالإعتداء على حقوقه، و سبق و ذكرت بأنّ الحرّيّة الفرديّة هي غير قابلة للإستفتاء، و لذا فإنّ ما يطالب به أيّ فرد حرّ هو الآتي: قانون رادع لعقاب أيّ فرد يقوم بانتهاك حرّيّة فرد آخر تحت أيّ مسمّى أو دعوى كان هذا الإعتداء.
و لذا، فإنّ لأيّ فرد مشروعيّة تامّة في ممارسة ما يشاء، و ألّا يقبل بأيّة مساومة حول حقوقه الفرديّة، و إن منعه مجتمعًا أو قانونًا أو دينًا، بغير إرادته، فله أن ينتزع حقّه مباشرةً من أيّة من ثلاثيّتهما، و إن لم يستطع مباشرةً فله الحقّ الكامل في الإلتفاف حول أيّة من ثلاثيّتهما لنيل حقّه من الحرّيّة، و لكن أن يرضى صاغرًا بحدود أيّ منهم هو العبوديّة في ذاتها، و حتى إن رضى طواعيًّة بحدّ أيّ منهم لحريته الفرديّة، فهو لن يغيّر شيئًا من كونه عبدًا و ليس حرًّا، فالعبد لن يضفي على صفته شيئًا إن أدرك عبوديّته أو لا.
إيمانًا بالفرد، و بحريّاته اللامقيّدة أؤمن بما سبق.
* Milton Friedman, Capitalism and Freedom, Chapter IX; Occupational Licensure, page 146, Chicago and London: University of Chicago Press, 1982.
**Ayn Rand, The Ayn Rand Column, Textbook of Americanism, page 83, Ayn Rand® Institute (ARI); http://aynrandlexicon.com/
*** Ayn Rand, The Virtue of Selfishness, Collectivized ‘Rights, page 104, Ayn Rand® Institute (ARI); http://aynrandlexicon.com/
****Ayn Rand, The Virtue of Selfishness, Man’s Rights, Page 97, Ayn Rand® Institute (ARI); http://aynrandlexicon.com/
لقراءة الجزء الثاني من "الحرّيّات الفرديّة؛" إضغط هنا؛
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=161235
لقراءة الجزء الأوّل من "الحرّيّات الفرديّة،" إضغط هنا؛
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=160701
#أحمد_زيدان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟